بقلم : دكتور جيهان الخضر
“عريس الحِمى، المجرتق بالرصاص، المحنن بالدِما، الضرِبْ حِمى، ساعة الحارة جات قلبو ما عِمى”
المسافة صفر مصطلحٌ حديثٌ نسبياً في اللغة العسكرية، أي بما يعني الاشتباك المباشر مع قوات العدو، وربما عاد هذا المصطلح إلى الظهور بعد أن اختفى من التداول مع الحرب الحديثة التي تعتمد القصف من على البعد، طائرات ودبابات ومدفعية وصواريخ عابرة للقارات وأشعة الليزر وأخيراً المسيَّرات، وصولاً إلى حرب النجوم.
ولكن المسافة صفر في السابق، تختلف عن المسافة صفر اليوم، فقد كانت لا تعدو المبارزة، والاشتباك بالسلاح الأبيض، حيث كان للبواريد والبنادق “ماركة أربعة” سكين في المقدمة، أو ما يُعرف بـ”السونكي” قبل الكلاشنكوف البنادق الآلية الأخرى.
ولكن حديثاً، وبدلاً من الالتحام بين الأفراد، أصبح الالتحام مع الآليات العسكرية، وكم شوهد الفدائيون يقذفون بأجسادهم على الآليات فيفجرونها وأحياناً يتفجرون معها، أو يصعدون على متنها ويشتبكون مع طواقهما، ويأسرونها حيَّة، في مشاهد بطولية نادرة، وتجسيد حقيقي للمسافة صفر.
وبالتأكيد هذا النوع من العمليات يحتاج إلى قلب لا يعرف الخوف ولا يهاب الموت، يواجه المخاطر والمهالك غير وجِل ولا هيَّاب، وفوق ذاك فهو صاحب قضية، بالنسبة له مقدسة، تستحق الافتداء بالمهج والأرواح، .
أما “المسافة صِفِرْ” الخاصة بالجيش السوداني فأمرها عجب، فإذا كان النوعان السابقين، يكونان في حرب معلنة وصراع مكشوف، يستعد له أطرافه بالعدة والعتاد والتدريب، والزمان والمكان، وكل ما يلزم، كل ذلك وأنت من عدوك على حذر، وعيون استخباراتك وجواسيسك مسلطة عليه، مما يجعل الفرص متكافئة.
أما إذا كان العدو هو جزء منك يخرج من عباءتك، بل أنت منه على مأمن(المليشيا +تقدم) وهو يخطط لغدر وقد أعد العدة بكل ما يلزم، بعد أن زيَّن له شياطين الإنس سوء فعله، وليس المجال الآن لسرد تفاصيل المؤامرة، فهي معلومة، من دبرها ومن نفذها ومن قام ويقوم بدعمها ورعايتها، ولكن التفاصيل الأهم، والتي يجب أن تُروى، هي لحظة الغدر والمفاجأة، كيف وأين، ومن كان هناك ، من كان يعمل ماذا، وكم العدد، وكيف كانت الصدمة، وهذه الفئة القليلة كيف استقبلت هذا السيل الجارف وهو يهجم، بالتأكيد كل فرد اجتاحته فترة من الدهشة ولا نقل الذهول، فهؤلاء إخوة الأمس، فهذه اللحظات العصيبة وهذا المشهد يجب ان يُحكى، فرداً فرداً، فلكل تجربته، ويجب أن يتصدى له كتَّاب السيناريو والمخرجون لتوثيق هذه الملحمة البطولية النادرة من “المسافة صِفِرْ” وأين كان قائد الجيش، وكيف كان التماسك بعد أن فاق الكل من حالة الدهشة والأخذ على حين غِرَّة، وكيف دارت تلك المعارك وأين، وخاصة تلك التي جرت في مقر القيادة العامة التي كانت تستهدف القائد العامة، قتلاً أو أسراً، وقصة البسالة الأسطورية للحرس، وغير ذلك كثير كثير، مما يثلج الصدر ويرفع الرأس.
نعم قلوبهم لم تعمَ، وبصرهم لم يزغ، وتجاوزا “المسافة صِفِرْ” وهذا يعني صد هذه الأرتال والكتل البشرية، وحافظ الجيش على مقاره وسكناته، ثم استعاد زمام المبادة، وطبق التكتيكات الحربية لتتسع المساحات من “المسافة صِفِرْ” والالتحام الجسدي، إلى الآفاق الواسعة، بالمدفعية والطيران والمسيرات، ليبدأ الجيش في التنظيف، معطياً الأولوية لتدمير سلاح العدو وكسر قوته الصلبة، وبعدها إهلاك القوة البشرية المستجلبة من الشتات وشذَّاذ الآفاق والهاربين من السجون من القتلة والمجرمين، واصطياد القادة، لتأتي المرحلة الأخيرة وهي اصطياد العملاء، وقطع خطوط الإمداد.
المجد للشهداء من القوات المسلحة والقوات النظامية والاستخبارات والمستنفرين والضحايا العزل، والشفاء للجرحى، والأوبة للنازحين واللاجئين، لتبدأ معركة أخرى لا تقل أهمية هي معركة البناء وإعادة الإعمار، والتحية والتجلة للقيادة الأسطورية التي أنجزت كل ذلك.