البرهان يرفع سقف الرسائل: لماذا اختار مهاجمة الإمارات ومسعد بولس أمام كبار قادة الجيش الآن؟

في خطاب قوى المضمون، شديد اللهجة، حمل رسائل سياسية داخلية وإقليمية لافتة، وجّه رئيس مجلس السيادة – القائد العام للقوات المسلحة – الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، انتقادات غير مسبوقة لدولة الإمارات واصفاً وجودها داخل “الرباعية” بأنه يجعلها “غير مبرئة للذمة”، كما هاجم السردية التي يروّج لها مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، عن “اختراق الإخوان للجيش”. جاء ذلك خلال اجتماعه مع كبار ضباط المؤسسة العسكرية في لحظة حساسة تشهد تصاعداً في العمليات، وضغوطاً دولية لإعادة إحياء المسار السياسي، بخيارات لا تقبل المزايدة
هذا الخطاب، بتوقيته ومضامينه، لا يمكن قراءته بوصفه مجرد رد فعل على مواقف إماراتية أو أمريكية؛ وبريطانية. بل يمثل، في جوهره، إعادة تموضع في فلسفة الدولة السودانية تجاه ملفات الوساطة، وتحديد خطوط حمراء جديدة في العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية. ويعلي من سقف الآمال والتوقعات تجاه مبادرة ولي العهد السعودي، والرئيس ترامب بشان السوداني حال تكشفها. كونها لامست أشواق السودانيين ازاء عملية السلام ووقف الحرب، وتطلعات القيادة السودانية التي ترفض أي وضعية للتمرد أو رعاته او داعميه من السياسيين(صمود- تأسيس).
أولاً: لماذا اختار البرهان مهاجمة الإمارات الآن؟
1-لحظة عسكرية مفصلية الجيش يخوض حالياً واحدة من أوسع عملياته في مسارح كردفان ودارفور، ويحتاج الخطاب العسكري إلى اتساق مع مطلوبات المرحلة:
• رفع الروح القتالية؛ واعلاء التعبئة والاستنفار وتعظيم السند الشعبي.
• تثبيت سردية “العدو الخارجي” الذي يدعم التمرد؛ ووضع حد لمشروعه.
• إغلاق الباب أمام أي ضغوط قد تفرض وقفاً لإطلاق النار في وقت يستعيد فيه الجيش زمام المبادرة واستعادة الرواية السودانية الرسمية.
. الاستفادة القصوى من تحول المزاج الدولي.
ربط البرهان بين تقدم الجيش ميدانياً ورفضه الوساطة الإماراتية المفخخة، يؤكد أن القيادة ترى أن أي تدخل خارجي في هذا التوقيت سيخصم من زخم الميدان. وأن السودان يعمل الان مفرزة للمواقف الداعمة للدولة والمساندة للتمرد، اي لم تعد هنالك اي مساحة رمادية يمكن قبولها.
2- نزع الشرعية عن الدور الإماراتي كلية
البرهان لم يكتف برفض وساطة أبوظبي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك:
“العالم كله شهد أن الإمارات تدعم المتمردين” عبارة ظل كل شعبنا يتوق لسماعها من فم رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة، لينهي هامش الظنون والشكوك التي ظلت تنسج او توضع بين القائد وشعبه في هذا التوقيت المفصلي. هذه الجملة تُعلي السقف السياسي ومشروع الداخل ، وتبعث برسالة إلى واشنطن والرياض بأن الخرطوم لم تعد تتعامل مع الملف الإماراتي كجزء من المعادلة الدبلوماسية التقليدية، بل كعامل مهدّد للسيادة او بصفة أدق انه يعني التدخل بالقوة الغاشمة من الامارات الحاكمة وقيادتها.
3-استباق إعادة هندسة منصة الرباعية
هناك حراك تجريه أطراف عدة وعلى رأسها ارباب المبادرة الأمريكية – السعودية لإعادة إحياء صيغة الرباعية، أو شيء شبيه بها، كمنصة جديدة ترعى عملية تفاوض. عبر هذا الموقف، يقطع البرهان الطريق على:
• تكرار تجربة “منبر جدة” بشروط غير سودانية؛ ورفضه أي آلية تكن الإمارات احد أطرافها.
• عودة الإمارات كلاعب رئيسي يُمسك بخيوط التأثير؛ واعادة تدوير مشروعها بحسبانه مضيعة للوقت والجهد.
• منح الشرعية لأي تسوية ترى الخرطوم أنها تُبقي الدعم السريع طرفاً سياسياً. او استنساخ أطرافه واعادة إنتاجهم.
ثانياً: لماذا استهدف البرهان مسعد بولس بالاسم؟
هذه خطوة نادراً ما تحدث في العلاقات مع واشنطن، ما يؤشر لعدة دلالات:
1-تفكيك السردية التي تبني عليها واشنطن تحفظاتها
يبني مسعد بولس موقفه على وجود “اختراق إخواني” داخل الجيش، وظل يسوق منتج الرواية الاماراتية المساندة للتمرد مما افقده الحياد ونبرة الوصاية التي ظل يطلقها.
البرهان قال بوضوح:
“هذا كذب بواح… وفزاعة إماراتية تُستخدم للأمريكان والسعوديين والمصريين.” ولا مجال ان ناتي بفولكر جديد، أو عراب لبيع مثل هذه الأوهام، دبلوماسية عسكرية غاية في الوضوح والصرامة.
ما يعني أن:
• الخرطوم تريد إغلاق هذا الملف بشكل نهائي؛ ولا تقبل اي مزايدة او ترديد لشعارات ملها الناس وأدركوا غايتها.
• القيادة العسكرية تعتبر هذا الوصف تهديداً مباشراً لشرعيتها أمام الشركاء الدوليين؛لم يعد رهين المناصفة او الطرفانية.
• الجيش يريد استعادة المبادرة في صياغة صورته أمام الإدارة الأمريكية، ويعزز المحددات التي عبر عنها .ويكشف زيف المخطط الإماراتي الذي يسوقه مسعد.
2- الضغط المضاد على واشنطن
استهداف مستشار الرئيس الأمريكي بالاسم يعني أن السودان يقرأ أن:
• واشنطن تنتهج سياسة ازدواجية: إدانة جرائم الدعم السريع لفظياً مع الاستجابة لنفوذ أبوظبي عملياً؛ وتعدد الرسائل والمنصات وحملات الإرباك والتشويش لم تعد مقبولة بل باتت مفضوحة.
• الخارجية الأمريكية ما تزال تتعامل مع الحرب بمنظور “توازن قوى” وليس “حرب مليشيا على دولة”. والدولة السودانية واحدة والتمرد خرج من رحم مؤسساتها ولن يعود.
بالتالي، يخاطب البرهان الأمريكيين هنا عبر بوابة المصداقية:
إذا كانت واشنطن تريد حضوراً حقيقياً في المعادلة السودانية، فعليها التخلص من السرديات الإماراتية، ونفوذ الإمارات في شراء الذمم والاختراقات .
3-حماية مسار “الإصلاح داخل الجيش” حين يقول البرهان: “الجيش قادر على إصلاح وهيكلة بنيته بنفسه” فهو يردّ على محاولات دولية – تقودها واشنطن وأبوظبي – لفرض إطار إصلاحي مفصّل مسبقاً، يكون موجهاً سياسياً وليس مهنياً.وله غاياته ورجالاته وهذا مبدا رفضه الجيش باكرا على ايام (الحرية والتغيير) والندوة التي عقدوها بالخرطوم لإصلاح الجيش وما تكشف عنها من مخطط يريد ضرب البنية العسكرية السودانية وتوجيه بوصلتها لصالحهم او إبعادها كلية عن المشهد، وهذا ما كشفت عنه الرباعية مؤخرا. ثالثاً: رسائل البرهان إلى الداخل: الجيش ليس طرفاً قبلياً تضمّن الخطاب أحد أهم محاوره: تأكيد أن الجيش لا يقاتل قبائل أو مجموعات سكانية، مع توجيه نداء مباشر لنظار القبائل الداعمين لعبدالرحيم دقلو، وطريقته في التجنيد بالابتزاز المادي والإغراءات. هذه الرسالة تحمل هدفين
- قطع الطريق على السردية الإماراتية – الأمريكية التي تحاول تصوير الحرب كصراع إثني أو قبلي.
- تفكيك الحاضنة الاجتماعية المتبقية لمليشيا الدعم السريع في بعض مناطق دارفور وكردفان عبر استدعاء خطاب الدولة المركزية وليس خطاب التحشيد المضاد والترياق المضاد في النفرة القومية. وان هذه المناطق تدفع الان ثمن مشاركتها بعد أن حقق التمرد أهدافه في شمال البلاد.
رابعاً: كيف ينعكس الخطاب على مستقبل الوساطات؟
- استبعاد واضح للإمارات
ليس فقط من الوساطة، بل حتى من “صياغة المستقبل السياسي” للسودان، ورفض السودان لاي مقترحات تحمل نفس او رائحة الامارات. - تعزيز دور السعودية – واشنطن – مصر
لكن بشروط سودانية أعلى مما كان مطروحاً في:
• منبر جدة؛ وتجاوز كل الأخطاء التي نجمت وما ترتب عليها من مضار .
• مبادرات الرباعية السابقة؛ والقادمة
• مقاربات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، التي ظلت بعض بضاعة الإمارات. - تمهيد لعودة منصة تفاوض جديدة لكن هذه المرة بطريقة تنسجم مع معادلة “الانتصار العسكري قبل التسوية السياسية”. تحمل مقاربة تحقق أهداف الدولة السودانية ومحدداتها ومزاجها الجمعي قيادة وشعبا. خامساً: البرهان يعيد تعريف الحرب: من حرب مواقع إلى حرب بقاء حين يصف الصراع بأنه: “معركة كرامة… معركة بقاء للشعب السوداني” فهو يرسل ثلاثة محددات استراتيجية:
- الجيش لن يقبل بأي وقف إطلاق نار لا يضمن تفكيك الدعم السريع نهائياً بكل تمظهراته وأدواته.
- التنازل في الميدان يعني تهديداً لوجود الدولة نفسها، وجيش السودان له قرن من الزمان لا يمكنه الإقدام على صفقة كهذي.
- لا بديل عن الحسم العسكري الكامل، أو الحسم السياسي المدعوم بانتصار عسكري.
هذه هي أول مرة يقدّم فيها البرهان تعريفاً صريحاً للحرب بنفس القائد، باعتبارها معركة وجود وليس أزمة سياسية طارئة. وانما مشروع خارجي بإسناد داخلي (التمرد) ودعم متعدد من خارج الاقليم.
سادساً: السياق الإقليمي: كيف تقرأ دول المنطقة الرسالة؟
السعودية؛ سترى في الخطاب دعماً غير مباشر لجهودها مع واشنطن لتشكيل منصة جديدة “محايدة” عن النفوذ الإماراتي. يمكن ان تلحق بها شبكة أمان بالتشاور مع السودان.
مصر؛ قد تعتبر الخطاب تعزيزاً لرؤيتها التي ترى الإمارات فاعلاً مربكاً في المشهد السوداني.
الإمارات؛ قد تردّ عبر أدوات إعلامية أو عبر تكثيف ضغوطها الدبلوماسية لإعادة تدوير سرديتها حول “الإخوان” او تتمدد في دعم التمرد لموالات قصف المسيرات.
لكن سقف الخطاب جعل من الصعب على الإمارات العودة للواجهة دون إعادة ضبط كامل لسياساتها وتوجهاتها وضبط مستشارها الرئاسي قرقاش ومن على شاكلته .
خلاصة: خطاب يعلن الانتقال إلى مرحلة جديدة
يمثل خطاب البرهان أمام كبار قيادات الجيش:
• رسالة قوة وتطمين للداخل
• اعتراضاً استراتيجياً على دور الإمارات لم يعد السكوت عليه ممكنا
• تحدياً مباشراً للسردية الأمريكية
• تأكيداً على أن المعركة ستستمر حتى استعادة السودان لكامل ترابه
• ورسم خطوط حمراء في أي مسار تفاوض مستقبلي .
إنه خطاب يؤكد أن الخرطوم لم تعد مستعدة للقبول بوساطات منحازة، او املائية ولا بتوصيفات خارجية تهدد تماسك مؤسستها العسكرية، وتمس الامن القومي للبلاد، ومصالح شعبها. وأن الجيش يرى نفسه في لحظة مفصلية لن يسمح فيها بإعادة إنتاج المعادلات القديمة. ولم يعد يتحرج من أن يقود قائد الجيش ورأس الدولة، الحملة ضد الإمارات بنفسه وكبار القادة على كافة المستويات، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
⸻
٢٤ نوفمبر ٢٠٢٥م



