الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي

الاغتصاب بين الدعم السريع والإسلام .. الدعم السريع وتدمير المقدس والمجتمع في السودان

شكلت جرائم الاغتصاب المروعة التي نقلتها فيديوهات قوات الدعم السريع في مدن الفاشر وبارا وبابنوسة واحدة من أكبر مآسي الحرب التي اندلعت في البلاد منذ الخامس عشر من أبريل 2023، وطرحت تلك الجرائم العديد من التساؤلات حول دور الدين الإسلامي في درع المنتمين له عند ارتكاب تلك الجرائم، خاصة وأن الجاني والضحية ينتميان إلى هذا الدين العريق الذي حددت قواعده موقفًا شديد الوضوح من جريمة الاغتصاب باعتبارها عمل جنائي ضد المجتمع يستوجب عقوبات دنيوية إضافة إلى ما ينتظره من عقوبات أخروية.

جريمة الاغتصاب محرمة في كل الأديان السماوية والأعراف والتقاليد وكافة القوانين المحلية من السودان إلى كل أقطار العالم، وبينما يرى فريق من المتابعين أن قوات الدعم السريع ترتكب تلك الجرائم بدافع الانتقام والترويع وهي تنطلق من ثقافة العرب الرحل الذين ينتقلون من دولة إلى أخرى في الصحاري، وعادة ما يكون الاغتصاب مفردة من بين أفعالهم المعتادة إلا أن فريق أخر يرى أن العمليات المنظمة للاغتصاب والعنف الجنسي التي تقوم بها ميليشيا الدعم السريع هي تنفيذ أعمى لمخططات غربية تستهدف تشويه المجتمعات الإسلامية باعتبارها تنفذ أفعالًا ضد الحضارة والإنسانية ولا تلتزم بعرف أو دين أو أخلاق أو قوانين دولية.

وربما يكون من بين الأسباب التي تقف وراء تلك الأفعال أن الفاعلين لم يتلقوا قدرًا من التعليم الديني، او سبق لهم الالتحاق بمدرسة أو جامعة، فهم في غالبيتهم مجموعات بشرية تهيم في الصحاري مع قطعانها بحثًا عن الرزق ومناطق الرعي.

وتشير التقارير الموثقة إلى أن الاغتصاب لا يُمارس كفعل عشوائي، بل كتكتيك حرب ممنهج يهدف إلى ترويع السكان، وإخضاع المجتمعات، وتفكيك النسيج الاجتماعي، خاصة وأن قوات الدعم السريع أفلتت من العقاب رغم ارتكابها تلك الجرائم لأكثر من عامين، وهو ما يشير إلى تواطؤ المنظمات الدولية والمجتمع الدولي مع الجناة. 

اغتصاب جماعي

منذ أبريل 2023، تحولت مناطق واسعة في السودان، خاصة الخرطوم والجنينة والفاشر والجزيرة وبارا وبابنوسة وكل المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع إلى مسارح لانتهاكات مروعة، وكان من أبرزها الاغتصاب.

وتشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمة أطباء بلا حدود والمنظمات المحلية مثل وحدة مكافحة العنف ضد المرأة إلى ارتفاع صادم في حالات العنف الجنسي، مع تزايد يقدّر بأكثر من 500% في بعض المناطق بعد بداية النزاع.

 وتمثل لأرقام الموثقة قمة جبل الجليد؛ إذ إن الحالات المُبلغ عنها لا تعكس الحجم الحقيقي للانتهاكات، ففي عام 2023، وثقت مصادر طبية وقانونية محلية أكثر من 1500 حالة اغتصاب وعنف جنسي، وهو ما يُقدر بأنه أقل  من 10% من العدد الفعلي، وفي 2024 ارتفع العدد إلى أكثر من 2800 حالة، بينما تشير البيانات الأحدث إلى توثيق ما يزيد عن 1900 حالة اغتصاب خلال عام 2025.

ووثقت حالات متعددة تعرضت فيها النساء والفتيات للاغتصاب الجماعي داخل منازلهن أو في مراكز احتجاز مؤقتة، حيث يُستخدم العنف الجنسي لإذلال الأسر والمجتمعات التي يُشتبه في معارضتها لقوات الدعم السريع.

والاغتصاب الجماعي هو أكثر الجرائم وحشية و استفزاز للمشاعر الإنسانية التي حرصت قوات الدعم السريع على ارتكابها وتصويرها ونشرها على أوسع نطاق، فلم تكتفي هذه القوات بارتكاب هذا النمط المخيف ولكنها لجأت أيضًا إلى نمط آخر أكثر إجرامًا وهو التعدي على الأطفال والقاصرات، حيث سجلت حالات اعتداء جنسي على فتيات لا تتجاوز أعمارهن العشر سنوات، مما يمثل انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني وقوانين حماية الطفل.

وتفردت جرائم الدعم السريع في السودان بتحويلها جريمة الاغتصاب إلى جائزة وغنيمة للمرتزقة الذين جلبتهم من خارج البلاد، حيث يُعدّ المقاتل بالنساء كجزء من الإغراء للإنضمام للميليشيات، وتُشير التقديرات إلى أن الاغتصاب لم يكن نتيجة فردية، بل تكتيك عسكري موجه لفرض السيطرة وبث الرعب، مما يرقى إلى مستوى الجرائم الدولية.

قدسية الأعراض في الإسلام

لم يكن يتوقع أحد أن تكون السمة الأساسية للحرب في السودان هي الاغتصاب والعنف الجنسي، لأن الخلاف كان يأخذ طابع سياسي داخل المجتمع الواحد والدين الواحد والقبائل والطرق الصوفية المشتركة، ولكن هذه الجريمة التي تمثل اعتداءً صارخًا على قيم المجتمع المسلم أدخلت الباحثين في حالة من الحيرة والدهشة حول كيفية تجرؤ فصيل من المسلمين على ارتكاب تلك الجرائم والتفاخر بها ضد المسلمات الآمنات في بيوتهن.

وتتناقض هذه الجرائم بشكل كامل ومطلق مع قواعد الدين الإسلامي التي يعتبرها السودانيون مرجعيتهم العليا في القوانين والأخلاق، وأجمع الفقهاء والمذاهب الإسلامية على أن الاغتصاب هو من أبشع أنواع الاعتداء على العرض والنفس، ويُعتبر جريمة تستوجب أقسى العقوبات وتصل إلى الإعدام تعزيرًا أو القصاص، إذا ثبتت بشروطها الصارمة، لأنه يجمع بين فعل الزنا والإكراه على النفس البريئة، وقد تكفل مقاتلو المرتزقة بتوثيق جرائمهم عبر هواتفهم الشخصية.

وتشدد الشريعة على وجوب حماية الأعراض تحت أي ظرف، بما في ذلك حالة الحرب والنزاع «الآمن والمستأمن». 

ومقاتلو الدعم السريع الذين يرتكبون هذه الأفعال لا يخالفون الأعراف العسكرية فحسب، بل يخرجون عن الأصول والقواعد الشرعية الأساسية التي تُحرم البغي وتوجب حماية المدنيين وأعراضهم.

وتؤكد الشريعة على وجوب حماية الضحية من الوصم «العار»، وتوجب سترها والتعامل معها كضحية بريئة تمامًا، وتوفير حقها في التعويض «الدية أو الأرش».

ضرب المجتمع

إضافة إلى مخالفة الاغتصاب الصارخة لتعليم الإسلام فأنها أيضًا تضرب بقوة قواعد التماسك الاجتماعي، وتقاليد وأعراف المجتمع المنطلقة في الأساس من الوجدان الإسلامي، وهي أيضًا تضرب أسس العرف والتقاليد السودانية التي تضع حماية «العرض» و«الشرف» في مقدمة أولويات المجتمع المسلم.

على الرغم من أن المجتمع السوداني يجرم الاغتصاب، إلا أن وصمة العار التي تلاحق الضحية تجعل الإبلاغ في الحالات الفردية أمرًا شبه مستحيل، وتزداد التعقيدات مع تحول الاغتصاب إلى ظاهرة جماعية وعلنية على أيدي الدعم السريع وهو ما تسبب في شرخًا مجتمعيًا، مايترك أثارًا خطيرًا على مستقبل الأسرة والمجتمع في البلاد.

وتستغل قوات الدعم السريع هذا الوصم لتعميق جراح المجتمعات المستهدفة، حيث يكسر الاغتصاب كرامة المجتمع كله، ويؤدي إلى انهيار الثقة بين الأفراد ويصعّب جهود المصالحة المستقبلية.

وفي النزاعات السابقة، كانت لجان المصالحات القبلية دور في حل النزاعات، لكن الحجم الهائل والطبيعة العسكرية الممنهجة لجرائم الاغتصاب الحالية تتجاوز قدرة هذه اللجان على تحقيق المصالحة لبشاعة الجرم.

وتتحمل القيادات الدينية في السودان العبء الأكبر في إزالة أثار هذه الجريمة على المجتمع وعلى المصالحة الوطنية وإعادة اللحمة بين القبائل العربية والإفريقية والعرب الرحل، وهو ما يتطلب جهدًا مركبًا مع الطرق الصوفية والقيادات الدينية والمجتمعية في إطلاق حملات صريحة لمكافحة الوصم الاجتماعي وتأكيد أن الضحية بريئة ووجب حمايتها.

اترك رد

error: Content is protected !!