الأمن كما رأيته .. فريق أمن الفاتح الجيلي المصباح أحد أغلى الرجال
الراحل الفريق أمن / الفاتح الجيلي
اللواء الركن م الهادي بشري
مدخل
١- رحل عنا إلى الدار الباقية، الاسبوع المنصرم، المغفور له باءذن الله تعالى، رجل من أفضل الرجال ديناً و خلُقاً و إخلاصا لله و الوطن، في كل ما أوكل إليه من مهام . يشهد له بذلك كل من عرفه و تعامل معه في الأمور الرسمية و الإجتماعية.
٢ – سيرة الإنسان _ هذا _ عامرة بالأعمال الجليلة. يعرف عنه الناس في بلادي الكثير ، الذي يصعب أن يحيط به إلى العصبة من أهله و رفاقه في مجال العمل الشرطي و الأمني و العام .
٣.سأحصر ما يلي في الفترة التي شرفت بلقأه للمرة للأولى، منتصف إبريل ١٩٨٥ ، في مباني جهاز أمن الدولة بعيد صدور قرار حله، بقرار من المجلس العسكري الإنتقالي بقيادة الفريق – حينها – عبدالرحمن سوار الدهب. ذلك القرار الذي صدر بموجبه أمر تشكيل لجنة ( حصر ممتلكات جهاز أمن الدولة ) برئاستي و عضوية أخرين . ثم أضيف لتلك المهمة ، عملية تصفية الجهاز بعد إلغاء قانونه. تلك المهمة التي استغرقت عاماً كاملاً. و أنتهت بقيام الفترة الديمقراطية الثالثة ( مايو ١٩٨٦م).
٤- عند وصولي و رفاقي في ١١ أبريل ١٩٨٥م إلى مباني الجهاز، كانت قد سبقتنا قوة من المظلات سيطرت على القيادة و جمعت الضباط في مكان واحد. عندها علمتُ من اللواء ركن السر محمد أحمد أن المجلس الإنتقالي لم يكن يرغب في حلّ الجهاز، بل تم استدعاؤه شخصياً من الأبيّض، إذ كان قائداً للقيادة الوسطى. و كُلِّف باءعادة تنظيم الجهاز ليساعد في نجاح الفترة الإنتقالية. فقد لهُ سبق أن تولى إدارة الإستخبارات العسكرية. و مشهود لهُ بالمفاية العلمية و العملية في الإستخبارات.
٥. أبلغني اللواء ركن السر أن تكليفهُ قد إنتهى و أن عليكم أن تودِعوا كل ضباط الجهاز سجن كوبر العمومي فوراً، تحت إشراف لجنة الأمن بالمجلس العسكري الإنتقالي و منطقة الخرطوم المركزية و مدير السجن لواء شرطة محمد الرفاعي. على أن يباشر التحقيق دعاوى عديدة باءشراف وزير العدل و النائب العام الأستاذ عمر عبد العاطي المحامي. عبر لجان يكونها النائب العام حسب تقديراته و في مقدمتها ( عملية ترحيل الفلاشا) .
٦. تم تنفيذ ما ورد في( ٥ ) أعلاه في ذات اليوم. و صدرت أوامر للقيادات خارج العاصمة، بإرسال جميع ضباط الجهاز إلى سجن كوبر، من خلال لجنة الحصر. كما أُرسِلت تعليمات إلى السفارات بالخارج، لتسليم مهام مكاتب الجهاز للملحقين العسكريين، و إرسال الضباط إلى الخرطوم. و تم ذلك في سرعة. و أودعوا السجن مع زملائهم دون أي مصاعب تذكر. و قد بلغ عدد الضباط ٤٨٣ ضابط من مختلف الرتب. أما ضباط الصف و الجنود أعضاء الجهاز، فقد بدأت إجراءات تسريحهم و هم طُلقاء .
بدء تنفيذ حصر الممتلكات
٧. وضعت اللجنة خطة عمل لتنفيذ المهمة بإستدعاء مدراء الإدارات من السجن، مع بعض معاونيهم لإستلام مكاتبهم. و من ثم، ما يليهم من أفرع و أقسام تتبع لهم داخل العاصمة و خارجها.
٨. كانت أول إدارة هي إدارة الأمن الداخلي . و كان على رأسها الفريق أمن الفاتح الجيلي المصباح و قدد أرسل ضابطين برتبة الملازم لبدء التسليم الأولي للجنة، على أن يأتي هو بعد ذلك إن دعى الحال.
٩.مثُل الضابطان أمام لجنةٍ فرعية برئاسة الرائد أحمد محمد أحمد إبن عوف، عند التاسعة صباحاً . إستمرت الإجراءات طوال اليوم بلا توقف،حتى العاشرة مساءً… و عندها حدث مالم يكن يدور بخلد كل أعضاء لجنة الحصر. بل و كثيرين سواهم في بلادنا، رعاةً و رعية ايام إنتفاضة أبريل .
١٠. دخل علي بمكتب الرائد عوض إبن عوف يحمل دفتر فلوسكاب، و قال :
أ. ( يا سعادتك قضيت و اللجنة الفرعية ١٣ ساعة مع الملازم أول أسامة أحمد إبراهيم و زميله، غيرت فكرتنا تماماً عن جهاز أمن الدولة المحلول، الذي كنا نراه بؤرة للفساد الإفساد .
ب. وضع الدفتر أمامي استرسل قائلاً : ( الدفتر هذا فيه كل ما كان يدور بإدارة الأمن الداخلي العامين الماضيين، في جميع النواحي؛ أمنية، إدارية و مالية).. و هناك وثائق مؤيدة لكل ما جرى، بدقة تامة و أمانةٍ و إخلاص
ج. صمت الرائد عوض بعض الوقت ،و أنا أقلب صفحات الدفتر الذي أمامي، ثم قال ( يا سعادتك ما شهدناه اليوم من حقائق دامغة موثقة تدلُّ بكل وضوح أن عملية حل هذا الجهاز ستُنزِل بالوطن ضرراً كبيراً و لربما أكدت لنا و أنت معنا أن هذا الجهاز مثل الإستخبارات العسكرية، بل يفوقها، بسبب عِظَم المسؤوليات المنوطة به). د. قام الرائد عوض بشرح كل عملية الإستلام فأوصلني إلى ما وصل إليه من قناعات . و لم استغرب، فهو أحد الضباط الذين أثق بهم كما أثق بنفسي. ليس ذلك فحسب، بل إنني شعرتُ، بسرورٍ عظيم، عندما علمت أن الملازم أول أسامة أحمد إبراهيم الإمام هو جارٌ لنا في ودنوباوي منذُ أيام صباه. و معروف لدي أباً عن جد إذ نشاء في أسرة و بيئة معافاة. معروفة بالسلوك السوي القويم. !!
١١ ٠ صباح اليوم التالي أخذت تقرير اللجنة الفرعية و عرضتهُ على الفريق تاج الدين عبد الله فضل رئيس لجنة الأمن بالمجلس العسكري الأنتقالي و نائب رئيس المجلس. و هو رئيسي المباشر. كما عرضت عليه رأي اللجنة الفرعية حول حل الجهاز. فضحك قائدي و سعِد بما سمع و قال : ( يا إبني يا هادي أنا كنت نائب رئيس هذا الجهاز قبل أن أقود معكم سلاح المدفعية… و أعرف الجهاز جيداً…ورأيكم صائب لكن ظروف ساس يسوسُ فرضت ما حدث للأسف). و أستطرد : ( بالله أرسل عربة للفريق الفاتح و تعالو لي هنا نقدم ليهو إعتذارنا و نطلق صراحهُ). ففعلت.
١٢ .وصل إلى مكتبي الفريق الفاتح ظهراً فأخبرته برأي و رغبة الفريق تاج الدين . فأعتذر شاكراً و قال: ( ليس هناك ما يدعوهم للإعتذار ، فالظروف السياسية معلومة و مقدرة جداً). و أكتفى بالتحدث معه هاتفياً لدقائق. و من ثم تم إطلاق سراحه فوراً . و لم تمضِ عدة أيام إلا و أطلق سراح ٦٣ من ضباط الجهاز بناء على قرار لجنة الأمن العليا. ثم توالت عمليات إطلاق سراح مجموعات أخرى، إلى أن لم يبق بالسجن إلا من تقرر تقديمهم للمحاكمة، بناءً على تقديرات لجان التحقيق، التي كونها النائب العام. و لم يتعدّ عددهم الثلاثين .
١٣.كان ذلك الموقف بداية حقيقية لتغيير القيادة العليا مسلكها في التعامل مع العاملين السابقين بجهاز أمن الدولة، خاصة بعد إكتمال إستلام مكاتب الإدارات الأخرى،و مكاتبه بالولايات و بالسفارات خارج البلاد.
١٤.سارت عملية تصفية الجهاز بسهولةٍ و يُسر . فاستلم الجميع حقوقهم في فوائد ما بعد الخدمة من معاشات و مكافئات، بناءً على القانون. فأنقلبوا إلى أهلهم مسرورين شاكرين فضل الله عليهم.
١٥.تلك الأحداث هي المدخل فقط لشخصية الفاتح الجيلي المصباح…المصباح الذي أضاء طرقات الخير لغيره من أهل الوطن و أخرين. فأوفى عهدهُ مع الخالق و خلقِهِ!! بين يدي سمو أمير قطر.
١٦. تقلبت لجنة حصر ممتلكات جهاز أمن الدولة و تصفيتهِ شهراً بعد شهر، تنفذ مراحل خطتها بنجاح، لكن كان قمّة نجاحاتها أن دورة الزمان أكدت للكافة، أنه لا غنىً عن جهاز لأمن البلاد، يكفيها مِحْن الدهر و كيد الناس في الداخل و الخارج. و تبيّن لكثيرين أن رأي الرائد عوض أبن عوف في الأيام الأولى كان صائباً. فقد بدت الفجوة الامنيّة للعيان.
١٧.غنيٌّ عن الذكر أن نقول ؛ أن ضباط الجهاز و جنده، وثِقوا بنا فأعانونا كثيراً في إنجاز مهامنا بعد أن إستشعروا حُسن نوايانا و العمل الجاد العادل معهم، هُم و غيرهم.
١٨. كلفني السيد رئيس المجلس العسكري الإنتقالي بحمل رسالة خطيّ إلى سمو أمير دولة قطر بالإنابة حمد بن خليفة آل ثاني و متابعة الأمر، مع جميع المختصين بالداخل و رسالة أخرى إلى جلالة سلطان عمان.
١٩. كان في استقبالنا بمطار الدوحة السفير الكردفاني و مراسم الدولة، الذين نقلوني إلى مقر إقامتي بفندق هيلتون
أفادوني بموعد مقابلتي لسمو الأمير حمد بن خليفة صباح اليوم التالي. فقد كان ينوب عن والدهِ الذي كان في رحلة إستشفاء طويلة خارج بلادِهِ.
٢٠. عادني رئيس المراسم صباحاً، و قال لي : ( إن سمو الأمير يرغب في التحدث إليك وحدك بعد أستلام الرسالة الرسميّة، التي يصحبك خلالها السفير السوداني و طلب مني أن أُحيط السفير علماً بذلك ففعلت و نحن في طريقنا إلى القصر. و كنت في غاية الحرجْ، إلا أن سعادة السفير الكردفاني رفع عني الحرج عندما قابل الأمر بروحٍ طيبة، فقال: ( هناك أمور يقتضي طرحها بين أثنين لا ثالث لهما و الله شاهد)!
٢١.لازلتُ أذكُرُ ذاك الوجه السمح البشوش، و الإبتسامة المشرقة التي أستقبلنا بها صاحب السمو الأمير حمد بمكتبهِ، و التي مضى عليها زهاء أربعة عقود. فعانق سعادة السفير، و صافحني بحرارة، و جلس إلينا في تواضعٍ جمْ.و سأل عن أحوال بلادنا و ودَّ أن يطمئن على القيادة و الرعيّة و تم تسليمهُ الرسالة. و كان على علم بموضوعها بالتفصيل. و وعد خيراً. عندها إستأذنهُ السفير بالخروج فأذن له. و بقيت معهُ مثل السيف وحدي !! و أعترف _ الآن_ أنني لم اخلُ من حال إرتباك إجتاحني أن يفتتح سمو الأمير، النصف الأٓخر من اللقاء.
٢٢• كانت لحظة فتح بحق، عندما ترك سمو الأمير مقعده الذي كان قبالتي و جلس على المقعد الذي كان بشغلهُ السفيرةقبل مغادرتهِ. و وضع يدهُ على ركبتي في حنوٍّ و وُدْ أزال عني خال الإضطراب و التساؤل، في إنتظار كشف حُجُب السر الخفي الهام، و الوطني العاجل، كما وصفهُ رئيس مراسم الدولة الليلة الماضية.
٢٣. كان المدخل رائعاً، إنشرح لهُ صدري، و قربني أكثر من سمو الأمير إذ سألني : ( كيف حال الأخوين عثمان عبدالله و عثمان السيد؟) و أجاب على السواحل بنفسهِ فقال : ( أنا أعلم بحالهما عموماً و لكن أود أن تطمئنني على الخاص!) فأجبتهُ بما يحب أن يسمعه…فعثمان الأول جاري في السكن، و تربطني به علاقة مميزة سبقت فترة إنتدابه بالبعثة العسكرية في دولة قطر و هو عضو المجلس الإنتقالي و وزيراً للدفاع في حكومة الجزولي دفع الله، أما عثمان الثاني؛ الذي عرفتُه عند بداية تكليفي بمهمة تصفية الجهاز، فكان أكبر معين لنا لأداء واجبنا، في صدقٍ و أمانة و خاصة في شؤون إدارة الأمن الخارجي. فسعد سمو الأمير بما سمع و شرع في الحديث عن الأمر الهام.
٢٤ • قال سموه مبتسماً : ( يا أخي العقيد دفعني إلى أن أفتح معك هذا الموضوع إثنان من أصدقائك و زملائك السابقين هما العقيد محمد نصر الدين و العقيد حيدر المشرف لأعرف يقيناً ما دار و يدورُ حول جهاز أمن الدولة السوداني السابق ) .
٢٥ ٠ أخرج من جيبهِ قصاصات صحف سودانية عديدة. طالعت بعضهاكطلبهِ و قال : أنا في غاية القلق شخصياً و رسمياً بما تم نشرهُ عن هذا الجهاز !! رجائي أن تصدقني القول إن كان ذلك صحيحاً لا سيما ما يُكتب عن الجهاز في إدارة المعلومات و السجلات و الأمن الخارجي و الداخلي و مهددات الأمن السوداني ! ) ٢٦فالتقطتُ القفاز…و كانت تلك فرصة ذهبية، هيئها ربي لي في مكان آمن أمام إنسان أمينٍ و مؤتمن…فأعتدلتُ في جلستي و بدأت نثر ما في كنانتي، الذي كتمتُهُ في صدري طوال ثمانية أشهرٍ صعبة، بيد أني سألت سموهُ عن الوقت المتاح لأحكي كل شيء، فقال للتوِّ: ( الوقت كله متاح لك ) .
٢٧. سمحتُ لنفسي أن أكشف عن الصورة الكاملة عن ما رأيت و سمعت ثم عملت بناءً على ذلك ، لأصل إلى ختام هو : ( إن صورة جهاز أمن الدولة المحلول و التي كتبت و نُشِرت و تُداول حولهُ، هي صورة في غالبها الأعم، لا تشبه حقيقتهُ، و أنه لايقل أهمية عن القوات المسلحة و قوات الشرطة، التي تدير البلاد مع الحكومة المدنية حتى نهاية الفترة الإنتقالية). كنت قد أجبت على عدة أسئلة طرحها أثناء حديثي معه.
٢٨ ٠ عند خاتمة لقائي الثنائي السرّي معهُ و الذي أستمرَّ لساعتين، شكرني سموه و ودعني قائلاً : ( كل مايدور الزمن ينتابني شعور يأكِّد لي أن صلتنا في قطر مع بلدِكُم و شعبهِ، تزدادُ عمقاً و قوة و محبة متبادلة. وفقنا الله و إياكم لعمل الخير لقطر و السودان، و للإنسان في كل مكان…آآآمين !! )
الفريق المصباح و ما وراء الأكمة !!
٢٩ ٠ عدتُ إلى الخرطوم ، بعد زيارتي إلى مسقط التي أستمرت لعدة أيام. عندها علمت أن ما كنا بصدده في الرسالة الخطيّة، قد تمَّ الوفاءُ بهِ بأفضل مما كنا نتوقع. و تحت الإشراف المباشر من سمو الأمير حمد بن خليفة آل ثاني. فحمدتُ الله..
٣٠ ٠ بعد مضي أشهر قليلة، تولى سمو الأمير حمد السُلطة في بلادهِ. و شرع في ترتيبات مهمة، كان للسودان دورٌ فيها و لله الحمد و الشُكر و المنّة!!
٣١ ٠ وصل إلى البلاد العقيد معاش محمد نصر الدين أحمد الشريف. وهو ضابط سابق بالقوات المسلحة ( أول الدفعة ١٨ ) وقد إنتقل إلى قطر و عمل بمكتب سموَّ الأمير. و أصبح من أهل ثقته و تقديرهِ.
٣٢ ٠ حمل العقيد محمد نصر الدين رسالة خطيّة سريّة عاجلة من سمو الأمير مع رجاء الموافقة على ما مطلوب، و تنفيذهِ بأسرعِ ما تيسّر. و قدم الرسالة إلى السيد الفريق عبد الرحمن سوار الدهب، الذي وافق على المطلوب فوراً، و قال المبعوث ضاحكاً : ( أعرض موافقتي هذه على الفريق تاج الدين، و أنقلها إلى صاحبك الهادي بشرى، و أشرعوا فوراً في التنفيذ. هذه خطوة مباركة، توكد مهنية و براءة جهاز أمن الدولة من ما يشاع عنهُ من إفتراءٍ و كذِب. !! )
٣٣ ٠ كانت تلك الرسالة تطلب التعاقد مع عدد ١٦ من ضباط الجهاز السابق، في ثمانية تخصصات و خبرات بعينها، للمساهمة في إعادة تنظيم و تدريب أعضاء جهاز الأمن القطري، لفترة ٤ إلى ٥ سنوات قابلة للتجديد.
٣٤ ٠ التخصصات و الخبرات المطلوبة في الآتي :
أ.الأمن الداخلي
ب.المخابرات المضادة
ج.المعلومات و السجلات
د.التدريب و التطوير
ه. الشؤون الإدارية و الإمداد
و. الشؤون المالية
ز.الأمن الإقتصادي
ح. الشؤون الفنيّة
٣٥ ٠ جاءني الصديق العزيز محمد نصر الدين يحملُ الرسالة البُشرى، التي أسعدت كل أعضاء اللجنة و معاونيهم. فهي دفعة معنوية للجميع، و مثلها لدى كل عضوية الجهاز من كل الرتب. إذ أنها شهادة إعتراف بالأمانة و الكفاية المهنية و العلمية، من قيادة دولة شقيقة محترمة، لها مكانتها المرموقة على المستوى الإقليمي و الدولي.
٣٦ ٠ إستجابة للمطلوب؛ تم أختيار لجنة من ضباط الجهاز السابقين برئاسة اللواء أمن معاش عثمان السيِّد كرار المدير السابق لإدارة الأمن الخارجي و عضوية خمسة آخرين. و أوكل إليها ترشيح إثنين من كل تخصُّص. و قد راعينا أن يكون أعضاء اللجنة من تخصُّصات أخرى كشأن رئيسها اللواء معاش عثمان السيِّد و نجحت اللجنة في التوافق على المرشحين. فأجزنا إجراءاتها و بدأنا تنفيذها.
٣٧ ٠ كان الفريق المصباح أول من تم إبلاغهُ بالأمر و طلبنا إليه مقابلتنا عاجلاً..عندها عرضنا عليه شروط عقد العمل المفصّل. و كان يحتوي على ست صفحات و سلمناه العقد للإطلاع و إبداء ملاحظاتهِ إن رأى ذلك. و يسلمنا لهُ في الأيام التالية، إذا وافق على التعاقد.
٣٨ . كانت مفاجأة بحق، إذ قال بعد أن شكر الله، و أثنى عليهِ في تبتُّل : ( يا إخوان هذا عقد براءة و إعتراف خارجي مشرِّف بمهنيّة كل من إنتمى للجهاز. و طلبٌ محترمٌ من دولة قطر المحترمة على لسان أميرها. لنعينهم في أمور الأمن عندهم.. ) و صمت لثواني، ثم ألتقط العقد، و قلّب صفحاتهُ دون قراءة حرف واحد فيها. حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة. فكتب رتبتهُ و إسمهُ و وقّع عليها و أعادها لي شاكراً، و قال : ( إنني أوافق و جاهز للتحرك في أي وقت إلى قطر، دولة صاحب السمو الذي أرسل إلينا صكَّ براءة )
٣٩. أدخل تصرف الفريق المصباح المسرّة في نفوسنا إلا أننا لم نستغربُه. و عندما عرضنا ذلك على الفريق سوار الدهب، سعد أكثر و قال : ( هذا هو معدن المصباح. و الشيء من معدنهِ لا يُستغرب، لقد أحسنتم الإختيار )
٤٠. أعلن بقية الضباط الذين تم اختيارهم للحضور. و تم عرض الوثائق عليهم. فتعاملوا معها بذات الطريقة التي تعامل بها كبيرهم ( المصباح ) … لكأنهم كانوا على أتفاق. و ما لبثوا إلا قليلاً، ليرحلوا إلى قطر و أدوا الواجب.
٤١ ٠ تلك صفحة مشرقة و مشرِّفة للبلاد. كتبها رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله و وطنهم عليه فمنهم من قضى نحبهُ و منهم من ينتظر، و ما بدلوا تبديلا. و يبقى أثر ما قدموا لبلادهم و غيرها ما بقيت الحياة…فالعملُ الصالحُ يبقى و الجّزاء الأوفى يوم لقاء الربِّ الرحيم.
عودة الرسول الحميدة .
٤٢. عطاءٌ ثرٌّ دؤوب كان سمة الفريق المصباح المميزة فأدى الواجب كما ينبغي و أكثر. و بذل كل علمهُ و خبرتهُ المهنية و مواهبه القيمية الإنسانية خلال فترة العقد الذي إستمر لسنوات عديدة. و قابلهُ المضيف الشفيف سمو الأمير حمد و أهله، بما يقتضيهِ واجب الكرم و الضيافة و التقدير لمعلمٍ أوفى بما يُنتظر منه و أفاض.
٤٣. عاد المصباح إلى الوطن بناء على رغبته بهدوء لم يعكره شيء سوى، ما أعتاد عليه العامّة من تسأٓل في ما يعنيهم و ما لا يعنيهم : ( لماذا ترك المصباح النعيم، و عاد إلى البلد الذي لا يقدِّرُه؟ ) فذهبوا مذاهب شتى في روايات و حكايات هباء !!!
٤٤.عدتُّ إلى البلاد بعد غياب إستمرّ لخمس أعوام كنت خلالها معارضاً لنظام الإنقاذ الوطني بالخارج ضمن فصيل (القيادة الشرعية) التي تمثل الضلع العسكري مع ( الحركة الشعبية في مثلث التجمع الوطني المعارض، الذي يحكمُهُ ميثاقهُ المعلن، و يتكون الضلعين الأخرين من الأحزاب السياسية و الهيئات النقابية، و قد فعل ( إعلان أسمرة يونيو ١٩٩٥م) بيني و بينهم في القيادة الشرعية و التجمع الوطني الديمقراطي ما فعل النجار !! فعدتُ أدراجي إلى وطنٍ يرفضُ الإنصياع و الإنقياد للغير. و أنضممت إلى صفوف نظام الإنقاذ بعد ترتيبات هذا ليس مقام عرضها.
٤٥ ٠ بعد عودتي بقليل علمت أن الفريق المصباح يعمل محافظاً في محافظة ود مدني. ثم رئيساً لمجلس الجزيرة التشريعي، إذ نال ثقة أعضاءه . و بذل جهداً كبيراً في تثبيت دعائم النظام الفدرالي الجديد، الذي يمهِّد لتحقيق التعددية الحزبية. ثم تم تعيينهُ مديراً لجهاز المخابرات الوطني لفترة قصيرة. و أنتقل إلى أمانة التخطيط الإستراتيجي بمجلس الوزراء الذي شرفت بتأسيسها عام ٢٠٠١م و أعددتُ وثيقة ( الإستراتيجية ربع القرنيّة) و أجازها مجلسها الأعلى في نوفمبر ٢٠٠٢م. عندها كلِّفت بمهمة والي الولاية الشمالية. كنت مهموماً بها و زال همي عندما علمتُ أن اللذي سيقوم بمتابعة تنفيذها هو الفريق الفاتح المصباح، الذي ولي أمرها من بعدي… إلا أن التطورات السياسية جمّدت العمل بها، إلى ما بعد إكتمال المفاوضات مع الحركة الشعبية و التي استغرقت سنين عديدة. تبدّلت خلالها أمورٌ كثيرة.
٤٦ ٠ رغم تبدل الأحوال و الظروف طوال ٤ عقود طُويت. و تباعد المسافات بيننا، ظلّ حبل علاقتي متيناً مع المصباح الوضّاء. و بقيت صلتي بهِ قوية على الدوام. و كان آخر لقاء لي معهُ و ثلةٌ من ضباط جهاز الأمن عبر حلقة تلفزيونية بقناة النيل الأزرق بعنوان ( الأمن كما عرفناه). شاركنا خلالها الفنان الكبير الراحل عبد الكريم الكابلي بصورة فعّالة، لا بفنهِ الاصيل فحسب، بل بتساولاتهِ التي أحالت الحلقة إلى ندوة مفيدة. لفتت نظر الكافة إلى حقيقة أن أمن البلاد ينبغي أن يوليه كل مواطن حقه من الإهتمام. فأمن السودان هو أساس البناء الوطني و الإستقرار و النماء في كل مجالات الحياة.
خاتمة
٤٧ ٠ تحدثت إلى الراحل،الماجد،الصديق،الوفي و العزيز قبل أسابيع قليلة من أحداث ١٥ أبريل ٢٠٢٣م و دارت بيننا محادثة هاتفية طويلة. كان كلاما مشفقٌ على حال البلاد و العباد و سألنا الله أن يكفيها الشرور و مكرِ اللِّئام و أن يبعدها عن ما يشبه ما حلّ بعادٍ و ثمود. و أن يرفع عنها البلاء اللذي بدت أظافرهُ واضحةً للعيان. و جرت أقدارُ الله بما كان لكن هو الله اللذي يبتلي الناس إبتلاءات جمّة…و يبشِّرُ الصابرين. ألا…تغمّد الله الإنسان النبيل الفاتح المصباح برضاه و رحمتهِ. و أسكنهُ فسيح جناتهِ مع النبيين و الصالحين و الشهداء و حسن أولئك رفيقا. جزاءً وفاقاً لما قدم للبلاد و العباد من عملٍ صالح، يبقى منارة للأجيال، في زمان عزّ فيه الرجال الصادقين المخلصين الأوفياء.
(إنا لله و إنا إليه راجعون)
صدق الله العظيم
لواء ركن م الهادي بشرى
١٧/١/٢٠٢٤