
د. اسامة محمد عبدالرحيم
عرفت الهندسة الاجتماعية (Social Engineering) كمصطلح يُستخدم في عدة مجالات تختلف معانيه و مفاهيمه بحسب السياق.و ما يهمنا في هذا المقال مفهوم الهندسة الاجتماعية في مجال علم الاجتماع والسياسة، و التي تعرف بأنها عملية تخطيط وتطبيق سياسات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية و نشرها و بثها لتشكيل سلوك المجتمع أو تغييره بما يتماشى مع او لتحقيق أهداف معينة، و من اهم هذه الأهداف عملية إعادة بناء المجتمعات بعد الحروب و كذلك عملية خلق مجتمع جديد أو فرض اي إصلاحات لأي اختلالات سياسية او اجتماعية وثقافية.
هذا المفهوم “الهندسة الاجتماعية” تم استخدامه و تطبيقه بشكل واسع في ثورات الربيع العربي، و بصور متعددة ومعقدة، سواء بشكل عفوي أو مخطط، وبواسطة أطراف داخلية وخارجية، كذلك تم توظيف أدوات الهندسة الاجتماعية الرقمية بقوة و ذلك باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك) و(تويتر) و (واتساب) ، حيث تم التأثير على الرأي العام وتوجيهه باستخدام محتوى معين يخدم الغرض، كما تم العمل على نشر الشائعات والمعلومات المضللة للتأثير على معنويات الناس او لتبديل قناعاتهم ، أو لتشويه صورة أطراف سياسية، أو لتعبئة الجماهير.من ناحية اخرى، يمكن القول إن بعض القوى (داخلية أو خارجية) حاولت إعادة تشكيل المجتمعات العربية من خلال قيامها بتفكيك أنظمة قائمة وتفكيك المؤسسات القائمة بحجة التغيير أو الديمقراطية، كما عملت على إثارة الهويات الطائفية والقبلية والعرقية، بما يخدم أهدافاً معينة،و قامت كذلك بإعادة ترتيب القوى السياسية والاجتماعية، عبر دعم مجموعات معينة مناصرة لأجندتها على حساب أخرى ضد هذه الأجندة.
إن (العمل الإنساني) كنشاط مجتمعي يعتبر احد الانشطة و الأساليب التي يمكن إستخدامها في كثير من الأحيان كـ”مدخل ناعم” للهندسة الاجتماعية، خاصة في البيئات الهشة بعد الحروب أو الكوارث و كذلك في المجتمعات التى يتركز فيها ضعف التنمية و الاقتصاد و تتكاثر بها الشرائح الضعيفة من المجتمع ، حيث تكون المجتمعات نفسها هشة و غير متماسكة بشكلٍ كافٍ ومستعدة لتقبل التغيير تحت غطاء “المساعدات الانسانية”.
كذلك فإن (المنظمات الإنسانية) و (كيانات العمل الطوعي) قد تدخل بمجموعة برامج تبدو إنسانية في ظاهرها، لكنهاقد تحمل رسائل ثقافية أو اجتماعية او سياسية تُعيد بها تشكيل وعي وسلوك الأفراد،كدعم برامج المساواة بين الجنسين لكن بمنظور لا يراعي السياق المحلي، و كتشجيع أنماط جديدة من العيش أو اللباس أو التفكير تحت شعار “التمكين او الحرية”. و عندما تعتمد المجتمعات على المساعدات، يصبح للجهة المانحة قدرة كبيرة على التوجيه والتأثير خاصة ان عملية التبرعات و الدعم قد تُستخدم لتكريس نفوذ سياسي أو فكري على المجتمعات المحلية.و لعل اخطر ما في هذا الجانب هو القدرة على إعادة ترتيب النسيج الاجتماعي و ذلك عبر دعم فئة على حساب أخرى (مثلاً دعم النساء، الشباب أو الأقليات دون إطار شامل)، الامر الذي قد يُحدث تحولات أو توترات داخل المجتمع و على الراجح انه قد تستخدم هذه المجموعات و توجه بعد ترتيبها و تصنيفها تغذيتها بفكرة محددة لتحقيق اهداف و غايات مخطط لها. و من الاخطار كذلك امكانية جمع معلومات حساسة و رصدها و تحليلها عبر هذه المنظمات عن السكان، مواقعهم، حاجاتهم، هياكلهم القبلية أو الطائفية، وكل ذلك يمكن استخدامه لاحقاً في توجيه الهندسة الاجتماعية أو حتى التدخل السياسي. و هنا يجب علينا ان نثبت حقيقة ان ليس كل عمل انساني قد يستخدم للهندسة الاجتماعية لكنه يظل احد واجهاتها و اساليبها، فهناك كثير من الاعمال الانسانية الشريفة و النظيفة و المفيدة دون شك، و لكن و في سياقات النزاعات والفوضى و الاضطرابات السياسية و الاجتماعية،تظهر بعض الجهات التي قد تستخدم العمل الإنساني كحصان طروادة لتطبيق سياسات أو تغييرات اجتماعية وثقافية و سياسية مستهدفة حيث يتم توظيف الهندسة الاجتماعية كأداة للنفوذ والسيطرة والتفكيك أحياناً، أو لإحداث تغيير جذري أحياناً أخرى.
السودان، و ان اتى نصيبه متأخرا زمنيا ، لم يكن بمنأى عن رياح التغيير و ثورات ما عرف بالربيع العربى التي انتظمت المنطقة، و كغيره استخدم فيه اللاعبون الدوليون الاسلوبين، الاسلوب الاول تكتيكات المدخل الإنساني عبر التجمعات الانسانية و منظمات العمل الطوعي و مثالها البين ما عرف (بشارع الحوادث) و التي احدثت و اطلقت شرارة الحراكين الشعبيين، الاول في سبتمبر 2013م و الثاني في ديسمبر 2018 م و الذي انتهى بزوال نظام الانقاذ في ابريل 2019م.و الاسلوب الثاني هو تكتيكات استخدام الاعلام و وسائط التواصل الاجتماعي و منصاته في قيادة الجمهور و دفعه نحو تحقيق اهداف مصنوعة و موضوعة مسبقا.
(فارس النور)، شخصية برزت في المجتمع السوداني كناشط في العمل الانساني و المجتمعي، و نال حظا عظيما من الشهرة بما انجزه في المجتمع من اعمال يتفق او يختلف الناس عليها من حيث اثرها، ثم كان اوج ظهوره متزامنا مع احداث ثورة ديسمبر 2018م و التي صاحبها الاعتصام المعلوم امام بوابات القيادة العامة للجيش و في محيطها، حيث اقام (فارس النور) بميدان الاعتصام حينها اكبر مطبخ لتقديم الوجبات للمعتصمين تشجيعا لهم بالثبات و عدم المغادرة و الي حين تحقيق الآمال. هذا النموذج (فارس النور) خير من يتمثل فيه استخدام الهندسة الاجتماعية لتحقيق اهداف سياسية و اجتماعية عبر مظلة العمل الطوعي الانساني، حيث تم اختياره من قبل الرعاة الدوليين و الاقليميين و تربيته و تهيئته على مهل و بمنهج مدروس للقيام بادوار كبيرة و مشبوهة في مجتمعه و بيئته و هو ما لا يزال يمارسه فارس دون توقف.
بالامس، استضيف فارس النور و على مدى ساعتين في برنامج حواري اسمه (مع عزام) يبث مادته على منصات التواصل الاجتماعي و ربطا بموضوعنا نؤكد ان اللقاء نفسه يأتي في اطار (استخدام الهندسة الاجتماعية لوسيلة منصات التواصل الاجتماعي لبث محتوى مدروس بعناية لتحقيق اهداف اجتماعية و سياسية محددة)، و هنا نورد جملة من الملاحظات العابرة:
_ يحاول فارس النور تقديم نفسه كمصلح اجتماعي بعد انتهاء مرحلة (الناشط الانساني الاجتماعي)، حيث ان هناك فرق، فالمصلح الاجتماعي يعمل على معالجة جذور المشاكل و يعمل على تغيير المفاهيم، في حين ان الناشط الاجتماعي يعمل على معالجة نتائج المشاكل و امكانية تخفيف المعاناة، لكن الامر برمته يأتي في إطار التربية و التنشئة التي رسمها الراعي الرسمي و ارتضاها لاعب الدور (فارس النور) و كل ذلك لاجل دور مطلوب و قادم من خلال الاستمرار في هندسة المجتمع من مداخل العمل الانساني و الاصلاح الاجتماعي و بالتالي تطور الدور المرسوم لدور سياسي و اجتماعي استشرافا للمرحلة القادمة.
_ حاول (فارس النور) ، تلميع قائد قوات الدعم السريع المتمردة (حميدتي) و عمد الى تحسين صورته الذهنية لدى الرأي العام و تحدث عن كثير من الخصال الحميدة فيه من وجهة نظره ابرزها تقديمه كداعية سلام، كل ذلك يأتي وفق مطلوبات المرحلة، و قال فيما قال:( ان التأريخ سوف ينصف حميدتي)، و لكن نقول:( ان الواقع المشهود هو دليل لا يحتاج بعده لدليل فالكل شاهد و الكل حاضر سمعا و بصرا و عقلا، و غدا سوف ينصف التأريخ الشعب السوداني و سوف يحاسب حميدتي و من شايعه).
_ الترويج للقاء تحت عنوان (فارس النور، في اعتذار للشعب السوداني)، هو نفسه اسلوب من اساليب استخدام وسائط التواصل في الهندسة الاجتماعية، كان الغرض من هذا العنوان الاثارة و ضمان اجتذاب اكبر قدر من الجمهور المستهدف للحضور و الاستماع و المشاهدة و بالتالي زيادة نسبة احتمالات التاثير.
توقيت البرنامج و ظهور فارس النور عبر منصته، ليس وليد صدفة، و انما هي مسألة مقصودة لاحداث توازن يغطي على الهزائم المتلاحقة التي منيت بها قوات الدعم السريع المتمردة في الفترات الاخيرة و ظهور بوادر انهيار و تصدع في بنيتها الاساسية، كما ان الاطلالة جاءت متزامنة مع اعلان نيروبي عبر كيان (تأسيس) لفرض حكومة موازية للحكومة الشرعية (حتى و لو جاءت قبلية و مناطقية) و محاولة الترويج لهذا الواقع و التمهيد لواقع جديد يحاول الرعاة الرسميون فرضه مضاغطة و مخاشنة لحكومة المركز(فرض نموذج ليبيا) . حاول فارس النور، التماهي و التماشي مع موجة تصويب السهام تجاه الاسلاميين و تحميلهم كل أوزار الماضي و الحاضر تأريخ السودان بطريقة فيها الكثير من التجني و تغبيش الحقائق و التضليل.
فقرة الاعتذار نفسها و فكرتها جاءت على لسان فارس النور كمداهنة و مخادعة خبيثة لدعاوى التهميش والاسباب المتوهمة لصراع المركز و الهامش و اغفلت ان الحاضر وحده و ما افرزته حرب 15 ابريل 2023م لا يؤهل فارس و لا حميدتي و لا كل مليشيا التمرد و لا المتعاطفين او المؤيدين لاكتساب اي صفة اخلاقية او قيمة انسانية و بالتالي لا مكان لهم في مستقبل الحياة للمجتمع السوداني. من واقع الحوار، حتى و لو اصاب فارس النور نجاحا في مجال العمل الانساني، إلا انه في هذا اللقاء اثبت ضعفا بينا و خوارا و وهنا سياسيا و فكريا كبيرا، كما أكد عمالة موغلة في السذاجة و الرخص، إن العمالة لا تمارس وفق عقد عمل محدد الشروط واضح المهام و لكنها تولد نتاج تخطيط و ممارسات و رسم لأحداث و سيناريوهات مرتبة و محكمة تنتهي باغراق الهدف العميل في مستنقعها الآسن و هذا يطابق تماما ما ظل يرويه فارس النور عن كيفية نشوء علاقته بعدد من الدوائر الاقليمية و الدولية و حتى تفاصيل لقاءاته بقائد المليشيا المتمردة و كيف تطورت الامور حتى وصلت الى ما وصلت اليه (قصة و سيناريو مكتمل الاركان، فيه كل عناصر الفيلم السينمائي الناجح).
الثبات الانفعالي الذي ظهر به فارس النور و هذا البرود المقيت و يواجه تهما على وزن (عميل) ، انما يؤكد مدى التدريب و التأهيل الذي وصل اليه وكذلك مدى النضج الذي وصلت اليه ثمرة العمالة، كذلك المراوغة و التجاهل الذي مارسه و هو ينتقي بعض الاسئلة متجاوزا للرد عليها بما يجب و بما يستحق. ان ما قام به فارس النور من تقديمه استقالته من رئاسة وفد التفاوض عن قوات الدعم السريع المتمردة، يجعل واحدة من الاحتمالات ان هذا السلوك، قد قام به فارس تحت ضغط اهله و المقربين او اي ضغوط اخرى محتملة الامر الذي استهجنه حميدتي و تابعيه وقتها و جعل منه شخصا غير مرضي عنه ،لذا قد تكون كل عملية فكرة اللقاء الاساسية اضافة الى ما ذكرناه هو استرضاء (حميدتي) و الاعتذار المبطن و رسالة اذعان و طمأنة للراعي الاساسي، و ان كان ذلك صحيحا فكان يجب ان يكون عنوان الحلقة (فارس النور، اعتذار للقائد حميدتي).
من الملاحظات كذلك، ان فارس تبنى رواية حميدتي (المتهم الرئيس بفض الاعتصام هو وقواته ) في قضية فض الاعتصام و ما لازمها من جرائم قتل و ممارسات تعذيب و خلافه على حساب اي رواية اخرى، و هي مسألة في سلك العدالة و ضروبها غير معتمدة و كأنما ما يتفوه به حميدتي يأتي منزها مقدسا لا يأتيه الباطل من اي ناحية او ان حميدتي لا ينطق عن الهوى. كذلك جاءت كل تبريرات فارس النور لانحيازه لحميدتي و لقوات الدعم السريع المتمردة و مسوغاته و دفوعاته، جاءت كلها عاطفية لا تليق بممارسات هذه القوات المتمردة و لا بمواقفها في هذه الحرب و وقائعها و ما لازمها من انتهاكات و ممارسات غير انسانية و لم يستح فارس مما فعلته و تفعله المليشيا بكل اسف ،بل ان فارس لم يحترم فكرة ان الخصم في هذه القضية هو الوطن و ان الضحية هو المواطن.
و انا اتابع الحوار، قفزت الى ذهنى عدة اسئلة، و اورد هنا واحدا منها، و السؤال هو (في اطار قدرة و خبرة اجهزة المخابرات الاقليمية و الدولية على ادارة العملاء المختلفين و توظيف امكاناتهم و طبائعهم و تناقضاتهم و سوقهم سوقا من اجل الوصول لغاياتها و تحقيق اهدافها،تُرى من كان الاكثر تأثيرا على الاخر في سبيل ذلك حميدتي ام فارس و من كان الاكثر قدرة على توجيه الآخر نحو مرامي اصحاب المصلحة الحقيقيين و غاياتهم النهائية) ؟ هذا مع اليقين بان كلاهما ظل و لا يزال يخضع بوعي او دون وعي و بعلم او دون علم و بالكامل لسلطان الخارج، و ان المؤكد لدى ان لكل منهما دور مرسوم و محدد بمساره قد تلتقي المسارات أحياناً و قد تتفارق وفق خطة كلية موجهة، و غدا ينتهي الغرض و يقذف به( او بهما) فى سلة النفايات ليبدأ البحث عن البديل الذي يكمل المشوار.