كان الناس فى بلدى أعِزةً فى ديارهم ، آمنون فى دورهم يعيشون حياةً مُستقرة وكريمة رغم المسغبة ورِقَّة الحال ، فطاف عليهم طائفٌ من أهل البغى فولغوا فى عاصمتهم وبعضِ مدنهم وقراهم ، وتسلطت عليهم كلاب التتار فعملت على قهرهم وإذلالهم حسداً من عند أنفسهم ، ولم تترك لهم أملاً يعيشون ويبقون لأجله ، أو إنفراجاً للأزمة يترقبونه ، فغادر أهل السودان إلى دول الجوار لجوءاً وإلى الولايات الأخرى نزوحاً ، بل هُجِّروا من ديارهم قسراً وحَمَلوا هُمومَهم وآلامهم ومآسيهم معهم والحُزن يعتصر قلوبهم ..
فأهل بلادى بفطرتهم النقية يكرهون الوداع ومغادرة الديار ويُبغِضون لحظاته المريرة ولو كان طوعاً وإختياراً ، فعندما ظهرت ثقافة الإغتراب والضرب فى الأرض بحثاً عن الرزق الحلال فى مطلع السبعينيات لم تترك الغربة بيتاً سودانياً إلاَّ وكان منهم مُهاجرٌ فى بلاد الله الواسعة يدفعهم حُلم التغيير للأفضل ، ولم يكن الوطن يومذاك طارداً أو ولغت فيه الكلاب ، وكان المغترب محط آمال الأهل والجيران ومهوى أفئدة الحسان .. وكان الجميع يتطلع ويحدوه الأمل والرجاء فى العودة والتلاقي والتحنان فغنَّى مُغنيِّهم : يا قطار الشوق لو تعرف غلاوة الريد كنت نسيت محطاتك .. وكان بدَّرت فى الميعاد وحركت عجلاتك .. وكان حنيت على مرة وكان قللت ساعاتك .. وبعد كُل هذا التهجير القسري الذى كانت كلماته القاطعة والفجيعة به بفوهات البنادق وبطريقة مأساوية ، وحَلَّ على الناس دون سابق إنذار كما المصيبة ، وحلَّت سحابات حزنه وكآبته على الأبرياء دون أن يعرفوا من أين أتى دخانها الذى كان قاسياً على النفس وحارقاً فى العين مُدمِعاً ومُبكياً لها وباقياً فى الذاكرة .. ورغم كل ذلك يطلَّ علينا إفكاً وينبعث أشقى القوم معتذراً للشعب السودانى إعتذاراً باهتاً كالمقطع الذى ظهر فيه ..!! فمن يُخبر الهالك فى مرقده أن هذه الأرضُ لنا نستظل بفئ ظلالها وما تلقى به من ثمرات أشجارها ويَعِزُّ علينا مفارقتها ، نستمتع بسمومها ونسماتها ، وشمسها وغماماتها .. !! ومن يُخبر كلاب الصيد أولئك بإن التأريخ يربط بين التهجير وأحزان الفراق وبين الأمل فى العودة إلى الديار التى تعلوها أكاليل الإنتصار ..!!
سنعود إلى دورِنا أيها الباغى الشقى بعز عزيزٍ أو ذُلِّ ذليل بحول الله وقوته ، ونُغَنِّى مع الباشكاتب : جيناكم يا حبابيبنا بعد غُربة وشوق نغالب فيه ويغالبنا .. ونكتم آهة تظهر آهة تتعبنا .. حنين لشوفة الغاليين ..!!
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .