الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي

إسرائيل وإيران: حرب القتال عن بُعد

د. اسامة محمد عبدالرحيم يكتب:-

(محاولة لقراءة استراتيجية لطبيعة المواجهة الحديثة بين خصمين بلا تماس جغرافي بينهما، وبأستخدام أدوات القتال عن بُعد)

لم يكن العالم المراقب متفاجئاً صبيحة الاثنين 16 يونيو 2025 م عندما اعلنت إسرائيل اندلاع الحرب بينهما و خصمها اللدود ايران باغتيالها لعدد من القادة العسكريين و العلماء النوويين الايرانيين و مهاجمتها بالطيران المقاتل و المسير و الصواريخ لعدد من المواقع المهمة و الاستراتيجية بالتركيز على المواقع النووية، اذا ان كل الارهاصات و المؤشرات كانت تؤكد اقتراب حدوث اعمال عسكرية و قتالية بالمنطقة.

كذلك، لم يعد الصراع بين الدول حكرًا على جبهات القتال التقليدية، ولا محصورًا بوجود حدود مشتركة أو مواجهات ميدانية مباشرة. فالحرب التي تخوضها إسرائيل وإيران اليوم تمثل نموذجًا متقدمًا لما يمكن تسميته بـ”حرب القتال عن بُعد”، حيث تجتمع في مسرحها كل عناصرالحرب السيبرانية و الحروب الالكترونية،حرب الطيران الحربي المقاتل، حرب المسيرات، حرب الصواريخ، حرب الوكلاء، وحتى حرب الجواسيس، لتنتج صراعًا شاملاً يدور خارج حدود الدولة، وعبر أدوات بعيدة المدى ومتعددة الوسائط.

و بالرغم من أن إسرائيل وإيران لا تربطهما حدود مباشرة، لكن تظل المواجهة بينهما مستمرة، عميقة، ومتعددة الساحات. إنها حرب غير تقليدية تتجاوز المكان والزمان، وتعكس تحوّلًا نوعيًا في طبيعة النزاعات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين. و عليه يمكن ان نشرح و نشير لهذا التحول في الاتي:

أولًا: غياب الحدود وصراع الجغرافيا المفتوحة:

حيث ان الخاصية الأولى التي تميز هذا الصراع هي غياب الحدود المشتركة، ما يجعل أي مواجهة تقليدية بين الجيوش غير ممكنة. لكن هذا الغياب الجغرافي لم يمنع الحرب، بل دفعها للتوسع أفقيًا، لتُخاض عبر الجغرافيا المتداخلة للوكلاء والحلفاء ذوي التأثير على الاحداث، حيث تبرز:_
(سوريا ولبنان: كقواعد لحزب الله ولمنشآت إيرانية تتعرض لضربات جوية إسرائيلية دورية.)
(العراق: كمراكز نفوذ للحشد الشعبي أصبحت منصات لإطلاق المسيّرات.)
(اليمن: حيث ان الحوثيين يشكلون ذراعًا بعيدة المدى لإيران تهدد أمن البحر الأحمر وحتى إسرائيل.)
(غزة: و فيها علاقات إيران مع فصائل المقاومة تشكّل قناة ضغط دائمة على إسرائيل.)
بهذا الشكل، تحولت الجغرافيا إلى شبكة متداخلة من الساحات، ولم تعد الحدود شرطًا لاندلاع الحرب، بل أصبحت المرونة الجغرافية أداة تكتيكية واستراتيجية.

ثانيًا: أدوات القتال عن بُعد:

  1. الطيران الحربي بعيد المدى:_
    حيث استخدمت اسرائيل الضربات الجوية و التي امتدت إلى العمق السوري والعراقي، وصولًا إلى أهداف داخل الأراضي الإيرانية، مدعومة بقدرات التزود بالوقود جوًا والتنسيق الاستخباراتي الدولي. بالمقابل، تعتمد إيران على تهديدات جوية غير تقليدية مثل المسيّرات والصواريخ.
  2. الطيران المسيّر:_
    نجد ان إيران طورت برامج مسيّرات متقدمة مثل “شاهد” و”مهاجر”، تُستخدم للهجوم والاستطلاع وحتى في تسليح الحلفاء. في حين ان إسرائيل بدورها تُعد من الدول الرائدة في استخدام المسيّرات الاستخبارية والانتحارية بدقة عالية.
  3. الصواريخ بعيدة المدى:_
    نجد ان الطرفين يمتلكان صواريخ قادرة على الوصول إلى عمق الدولة الأخرى. إيران تعتمد على الصواريخ الباليستية (قيام، فاتح، شهاب) و كذلك الصوازيخ فرط الصوتية، فيما تعتمد إسرائيل على صواريخ “أريحا” وأنظمة ردع متقدمة مثل “حيتس” و”مقلاع داوود”.
  4. الحرب السيبرانية:_
    ان الهجمات المتبادلة على المنشآت النووية، البنية التحتية، شبكات الطاقة والمياه، تُعد و تمثل نهج و ساحة اشتباك متقدمة.حادثة “Stuxnet” كانت البداية، تلتها موجات متتالية من الهجمات السيبرانية المعقدة.
  5. العمليات الاستخباراتية والاغتيالات:_
    كلا الطرفين يستخدم أجهزة استخباراته بفعالية مدهشة، في الاغتيالات، التخريب، والتجسس. من اغتيال العلماء نوويين و تفجير المنشآت الحساسة، كل ذلك يجعل الحرب الخفية أحد أعمدة هذا الصراع. ثالثًا: ساحات القتال غير المباشر –( الحرب بالوكالة) :

تُعد الحرب بالوكالة جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية الإيرانية. فمن خلال تسليح وتمويل وتدريب حلفاء محليين في ساحات متعددة، تفرض إيران تهديدًا مستمرًا على إسرائيل. بالمقابل، تنشط إسرائيل في اختراق هذه المنظومة عبر الهجمات النوعية والمعلومات الاستخباراتية الدقيقة.

و لذلك نجد ان الحرب بالوكالة و الحلفاء تفرز جملة من اللاعبين الأساسيين ابرزهم:_
حزب الله:و الذي يمثل التهديد الأهم لإسرائيل على الحدود الشمالية.
الحوثيون: و هؤلاء يشكلون أداة ضغط على الممرات البحرية والمصالح الإسرائيلية في المنطقة .
الحشد الشعبي: و هو عنصر التهديد الرئيس و المستتر و ينشط ضمن المنظومة الإيرانية بالعراق.
فصائل غزة: و التي تعمل كرافعة ضغط دائمة تفتح جبهة للقتال او الاشتباك او الاشغال كلما تصاعد التوتر.

رابعًا: الطابع الجديد للحرب – بين اللاتماثل واللاتكافؤ و صعوبة التصنيف:

من ناحية اخرى نجد ان من ميزات هذه الحرب صعوبة تصنيفها و وضعها في الاطار التقليدي للحروب، فهي تتجاوز التعريفات الكلاسيكية. لكنها، من زاوية علمية دقيقة، تُعد نموذجًا مركّبًا يجمع بين الحرب غير المتماثلة (Asymmetric) والحرب غير المتكافئة (Unequal). فهي حرب غير متماثلة لأن الطرفين مختلفان في الشكل والأسلوب، فمن جانب نجد ان (إسرائيل) كدولة مركزية تواجه شبكة من الوكلاء ، في حين ان الطرف الآخر (ايران) يخوض المواجهة عبر أدوات نظامية و غير نظامية.
وهي حرب غير متكافئةكذلك، لأن الفارق التقني والتكنولوجي بين الطرفين واضح، لا سيما في سلاح الجو، أنظمة الدفاع، والسيطرة المعلوماتية. لكن إيران تعوّض هذا الفارق عبر أدوات غير تقليدية، مثل المسيّرات، الصواريخ الدقيقة، والتفوق في معارك “الإرهاق والردع غير المباشر”.
كذلك فإنه يمكن القول بانها حرب متعددة التصنيف، و هي حرب الصراع المركّب بين إيران وإسرائيل، حيث يصعب اختزال الحرب (الإسرائيلية – الإيرانية) في تصنيف واحد، فهي ليست مجرد حرب تقليدية بين دولتين، ولا مجرد حرب بالوكالة عبر أطراف ثالثة. بل هي في جوهرها حرب مركّبة ومتعددة التصنيف (Hybrid / Multi-typed Warfare)، حيث تتداخل فيها عدة أنماط من الحروب، وتعمل أدواتها في مستويات مختلفة، ومجالات متزامنة.
فمن جهة، فهي تحمل سمات الحرب غير المتماثلة بسبب التباين في البنية والأساليب؛ ومن جهة أخرى، تعكس عدم التكافؤ التقني في التسليح والقدرات بين الطرفين. كما تُخاض عبر وكلاء إقليميين، وتُدار في جزء كبير منها من خلال حرب سيبرانية خفية، وعمليات استخباراتية عالية الدقة، إلى جانب القتال الجوي والمسيّرات والصواريخ الدقيقة التي تُطلق من خلف الحدود.
ان هذا التداخل بين (الحرب المباشرة وغير المباشرة) ،(الحرب النظامية والحرب غير النظامية) ،(الحرب التقليدية والحرب الرقمية) ،(القتال العسكري والحرب النفسية والإعلامية) ، كل ذلك يجعل من هذا الصراع نموذجًا واضحًا لما بات يُعرف في الدراسات الاستراتيجية المعاصرة بـ “الحرب الهجينة” أو “الصراع متعدد الأبعاد والتصنيفات”،و الذي يعكس تحوّل الحرب الحديثة إلى مزيج من الوسائل والأدوات يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية للحرب والسلام.

خامسًا: التأثيرات الاستراتيجية للحرب الإسرائيلية الايرانية :

مثل كل الحروب الكبرى التي شهدها العالم عبر التأريخ، افرزت و لا تزال تفرز الحرب الإسرائيلية الايرانية جملة من التداعيات و التأثيرات الاستراتيجيةإقليمياً، و دولياً، بل و مفاهيمياً، يمكن تلخيصها في الآتي :_
إقليميًا:
تهديد مستمر لدول الجوار (لبنان، سوريا، العراق، اليمن). ارتفاع مستويات التسليح غير النظامي.
تفكيك الهياكل الأمنية الوطنية لصالح محاور النفوذ الكبرى . دوليًا: تهديد الملاحة في البحر الأحمر والخليج.
اضطراب في سلاسل الطاقة العالمية. تدخل متزايد من قوى كبرى (أمريكا، روسيا، الصين) لإدارة الصراع أو احتوائه.
مفاهيمياً:
انهيار الفاصل بين “الحرب” و”اللاحرب”. تآكل مفهوم السيادة التقليدية.
_صعود مفهوم “الصراع الشبكي متعدد الساحات” كبديل للحروب النظامية.
ختاما، و بكل تأكيد فإن الحرب بين إسرائيل وإيران لا تُخاض في ساحة واحدة، ولا بلغة واحدة، ولا بأداة واحدة. إنها حرب مركّبة، متعدّدة الوسائط، و بلا تماس مباشر، لكنها عميقة التأثير.
هي (حرب القتال عن بُعد) بامتياز، حيث يُستبدل الميدان بالمسافة، والجبهة بالشبكة، والجيش بالوكيل، والمواجهة المباشرة بالصراع السيبراني والطيران المسيّر.
في عالم تتداخل فيه الجغرافيا بالتقنية، والسياسة بالأمن، يقدم هذا الصراع نموذجًا متقدمًا لفهم الحروب القادمة، فهي حروب غير متماثلة، و غير متكافئة، لكنها شاملة، وشديدة التدمير، وإن لم تكن مباشرة. و لكن من الواضح انه و رغم تباعد الموقع الجغرافي بين إسرائيل و ايران، الا ان الطرفين تمكنا رغم عدم وجود تماس جغرافي بينهما من ادارة حربهما و تحقيق اهدافهما العسكرية و السياسية في هذه الحرب (بالقتال عن بعد).

السبت 21 يونيو 2025

اترك رد

error: Content is protected !!