العبيد أحمد مروح
أفاق السودانيون في بلاد المشرق صباح الأربعاء (18/9) على خبر يورد بياناً صادراً من الرئيس بايدن (شخصياً) عن الأوضاع في بلادهم، واستبشر بعضهم خيراً حينما قرأ عنوان الخبر، إذ كانوا يعتقدون أن قضية التدمير الممنهج لبلادهم والذي يجري منذ سبعة عشر شهراً، لا تقع ضمن أولويات صانع القرار في البيت الأبيض، وقد ترسخ هذا الانطباع بعدما خلت المناظرة الرئاسية بين نائبة الرئيس الحالية كمالا هاريس والرئيس السابق دونالد ترمب، والتي جرت مؤخراً، من أي ذكر لما يجري في السودان، فلما رأوا عنوان الخبر، وأن رئيس أقوى دولة في العالم يتذكرهم، انتابهم شعور بالفرح سرعان ما تبين أنه شعور بفرح زائف !!
وصف الرئيس الأمريكي، في بيانه، الحرب التي تدور في السودان بأنها “حرب عبثية”، وهو وصف لطالما ردده كبار المسؤولين في إدارته، وعلى رأسهم وزير خارجيته أنتوني بلينكن، والحقيقة – حتى نكون منصفين – فإن هذا الوصف أطلقه أيضاً الرئيس البرهان في أسبوع الحرب الأول، وعلينا ألاّ نلوم أحداً إن استخدمه حتى ولو كان الوصف يجافي جوهر حقيقة وطبيعة الحرب، أو أن المقصدين مختلفان.
ليس إطلاق وصف “عبثية” هو الأمر الوحيد اللافت في بيان الرئيس الأمريكي، والذي يبدو أنه لم يكن لديه منه سوى “أجر المناولة”، لكن اللافت أن البيان وقع في أخطاء جوهرية بعضها يتعلق بطبيعة الحرب والبعض الآخر يتعلق بطبيعة الموقف الأمريكي منها، ففي كل فقرات البيان يتساوى عند الرئيس بايدن جيش البلاد الوطني، والذي يقع على عاتقه حماية البلاد والعباد والدفاع عنهما، و “قوات متمردة” – سمها كذلك إن شئت، أو سمها مليشيا إرهابية أو جيش من المرتزقة – وهذا لعمري في القياس بديع !!
ثم إن الرئيس بايدن حمَّل “الطرفين” مسؤولية المعاناة التي يتعرض لها السودانيون، واتهمهما بارتكاب “جرائم حرب”، لكنه خصّ متمردي الدعم السريع بتهمة إضافية هي تهمة الجرائم ضد الإنسانية، ولئن كان قد قارب الحقيقة في الأخيرة فإن مقاربته في الأولى كانت منحازة ضد الجيش السوداني الذي من واجبه الدستوري أن يتعقب المتمردين بالقتال المباشر وبالقصف الجوي أينما كانوا، ما دام المتمردون يصرون على البقاء داخل بيوت الناس التي احتلوها و داخل الأعيان المدنية، وما داموا قد نكصوا عن الوفاء بما وقعوا عليه في جدة قبل أكثر من عام بشهادة الأمريكان أنفسهم، فإذا كان الرئيس بايدن يرى أن ما يفعله الجيش السوداني هنا “جرائم حرب” فعليه أن يمتلك الجرأة اللازمة ليصرّح بماهية ما تفعله إسرائيل في غزة وفي غيرها من الأراضي المحتلة، وفي لبنان، بل عليه أن يعترف بما فعله جيش بلاده في أفغانستان وفي العراق !!
بيان الرئيس الأمريكي، في حقيقة الأمر، هو تعبير عن المقاربة الأمريكية الخاطئة لطبيعة الحرب في السودان، وهو في نفس الوقت تعبير عن التجاهل المتعمد لذكر مَن يقفون وراء هذه الحرب، ويشعلون نيرانها بإمداد المليشيا بالمال والسلاح والعتاد العسكري، ومن عجب أن الرئيس بايدن لم يأت على ذكر هؤلاء لا تلميحاً ولا تصريحاً في حين أن أضابير إدارته وأضابير اللجنة الأممية المعنية بمراقبة تنفيذ قرار مجلس الأمن بشأن دارفور(1591) تمتلئ بالتقارير التي توضح وتسمي مَن يزيدون نيران الحرب في السودان اشتعالاً !!
ومالنا نذهب إلى الأضابير والتقارير، فالمبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيريللو قالها، في الغرف المغلقة، لسياسيين سودانيين التقاهم في عدد من العواصم، فأقر أن لدى بلاده مصالح متعددة مع الإمارات ولا يفضلون المجاهرة بتحميلها مسؤولية تطويل أمد الحرب وزيادة معاناة السودانيين، وهذا يفسر لنا كيف أن الرئيس بايدن الذي أسهب في بيانه في ذكر معاناة السودانيين، تجاهل عن عمد أن يأتي على سيرة المتسبب الحقيقي في هذه المعاناة وفي طول أمد الحرب.
في سلوكها العملي، تتعمد الإدارة الأمريكية أن تظهر أنها لا تعترف بمشروعية الحكومة السودانية، إلاّ كونها حكومة أمر واقع، وما حدث في كواليس مجلس الأمن الدولي الأربعاء قبل الماضي من طرح المسودة الأولى لقرار “التمديد الفني” لقرار العقوبات على دارفور والتي صاغتها الولايات المتحدة وحاولت من خلالها أن تستبدل عبارة الحكومة السودانية ب “السلطة في السودان”، وما سبق ذلك في جدة مع الوفد الذي قاده وزير المعادن وفي جنيف عقب ذلك، وإصرار المبعوث الأمريكي على أنه يريد وفداً مفاوضاً من الجيش وليس من الحكومة، ليس سوى بعض الأمثلة على ذلك، وهو ما أكده – قولاً – بيان الرئيس بايدن أمس الأربعاء.
وعلى الرغم من ازدواجية المعايير التي تبدت في بيان الرئيس الأمريكي إلا أن رئيس مجلس السيادة الإنتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ردّ على التحية بما هو أحسن منها وجاء رده – بعد أقل من 24 ساعة – مليئاً بالعقلانية والرشد، إذ بينما اتفق مع بايدن في وصف معاناة السودانيين أعاد الكرة إلى الملعب الأمريكي محملاً المسؤولية عن ذلك ل “الطرفين” الحقيقيين، وهما متمردي الدعم السريع والقوى الإقليمية التي تدعمهم، ولم تعد تخفي ذلك، ثمّ لم يكتف بيان البرهان بذلك بل وضع الجانب الأمريكي أمام مسؤوليته التاريخية لاختبار جديته في وقف الحرب، وأعلن عن تطلعه للقاء المسؤولين الأمريكيين – دون أن يسمي أحداً – على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والقمة رفيعة المستوى التي ستنعقد في نيويورك الأسبوع القادم.
في غضون ذلك، أعلن البيت الأبيض رسمياً أن الرئيس بايدن سيستقبل يوم الأثنين القادم الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات، ونقلت وكالة رويترز أن موضوع الحرب في السودان وفي غزة سيكون ضمن الموضوعات التي سيتم التطرق لها، إلاّ أنني شخصياً لست متفائلاً بإحداث اختراق في جدار الأزمة السودانية لجهة وقف الحرب على الرغم من أن الجميع يدرك أن “الطرفين” المجتمعين في البيت الأبيض هما مَن بيدهما إعطاء الإشارة بأن كفى دماراً وخراباً للسودان وقتلاً وتشريداً لأهله، فالإدارة الأمريكية الحالية أعجز من أن تقول للمخطئ أخطأت، والوضع في السودان ليس سوى أحد الأمثلة على ذلك.