أمريكا… ظاهر أزمة السودان وباطنها(قراءة إستراتيجية في هندسة النفوذ و المصالح بالبحر الاحمر)

منذ فجر الاستقلال ظل السودان أحد مفاتيح الجغرافيا السياسية في القارة الإفريقية والبحر الأحمر، تلتقي على أرضه مصالح القوى الدولية والإقليمية، وتتشابك فيه خطوط التجارة والطاقة والأمن المائي والغذائي. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة في كل تلك التحولات، ظاهراً بالتصريحات والدبلوماسية، وباطناً عبر أدوات النفوذ والضغط وتغيير الأنظمة والعقوبات. فكلما حاول السودان أن ينهض مستقلاً بسيادته، اشتدّ حوله الحصار، واشتغلت عليه الأجندات المتقاطعة باسم الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو مكافحة الإرهاب.
العلاقات السودانية الأمريكية تاريخيًا
بدأت العلاقات الرسمية بين الخرطوم وواشنطن عقب الاستقلال مباشرة في عام 1956م، وسارت في مسار متذبذب بين التعاون الحذر والقطيعة. في حقبة الستينات والسبعينات كانت أمريكا تنظر إلى السودان من زاوية موقعه الجغرافي في قلب إفريقيا ومحاذاته و اطلالته المتميزة على البحر الأحمر، فدعمت بعض البرامج الزراعية والتعليمية ضمن مشروع التنمية. إلا أن تلك العلاقة لم تتحول يوماً إلى شراكة متكافئة او تعاون استراتيجي، بل ظلت محكومة بمبدأ “الوصاية السياسية” والربط بين المساعدات والاصطفاف في المعسكر الغربي.
ماذا قدمت أمريكا للسودان؟
رغم عقود من التعامل، لم تقدم الولايات المتحدة للسودان سوى القليل من المساعدات المشروطة، مقابل الكثير من التدخلات والإملاءات. لم تساهم واشنطن في بناء بنية تحتية، ولا في تنمية زراعية أو صناعية حقيقية، بل استخدمت أدواتها الاقتصادية والسياسية لفرض توجهات تتقاطع مع مصالح السودان، بينما ظل الدعم الأمريكي الفعلي موجهاً للمنظمات المرتبطة ببرامجها أو لمناطق النزاع لأغراض نفوذ سياسي وإنساني مزدوج.
التدخل الأمريكي وتبدّل الأنظمة في البلدين
منذ عهد الفريق عبود مروراً بنميري والبشير وحتى الفترة الانتقالية (الممتدة حتى الآن دون افق محدد)، كانت الولايات المتحدة تتعامل مع السودان وفق مصالحها الآنية لا وفق مبادئ ثابتة. فإذا تقاطعت المصالح أبدت المرونة، وإذا تعارضت أطلقت العقوبات والعزل ومارست الضغوط. عمليًا؛ لم يتغيّر الموقف الأمريكي بتغيّر الإدارات الحاكمة فيها، إنما يتغير الاسلوب. ففي واشنطن الجمهوريون يميلون إلى الضغط العسكري والعقوبات المباشرة، بينما يتّبع الديمقراطيون سياسة “الاختراق الناعم” عبر المنظمات والاتفاقيات والدبلوماسية متعددة الأطراف.
دور أمريكا في انفصال جنوب السودان
تُعتبر واشنطن الفاعل الأبرز في فصل جنوب السودان عام 2011م. فمنذ اتفاقية نيفاشا 2005م مارست ضغوطًا هائلة على الحكومة السودانية، وقدّمت دعمًا سياسيًا واقتصاديًا لحركة التمرد في الجنوب، وأدارت العملية عبر مبعوثيها الخاصين. النتيجة كانت تقسيم السودان وإضعافه استراتيجياً، دون أن تحقق واشنطن استقراراً في الدولة الجديدة التي أصبحت لاحقاً عبئاً على الإقليم مما يثبت و يدعم حقيقة أن القراءات و التحليلات و القرارات الامريكية دومًا خاطئة تجاه السودان.
دور أمريكا في إشعال أزمة دارفور
في 2003م، تحوّل ملف دارفور من قضية داخلية إلى أزمة دولية بفعل التدخل الأمريكي المكثّف عبر الإعلام والمنظمات، مما مهّد الطريق لقرارات مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية. استخدمت واشنطن دارفور أداة للضغط السياسي على الخرطوم لتليين مواقفها الإقليمية، في وقت تجاهلت فيه جذور الأزمة الحقيقية التنموية والسياسية.
استمرار العقوبات رغم تغير الأنظمة
لم تتوقف العقوبات الأمريكية حتى بعد سقوط نظام الإنقاذ، وهو ما يؤكد أن واشنطن لا تعاقب الأشخاص بقدر ما تستهدف استقلال القرار الوطني. فالعقوبات لم تكن مرتبطة بسلوك حكومة محددة، بل برغبة في الإبقاء على السودان في حالة ضعف مزمن يسهل التحكم في مساراته الاقتصادية والسياسية.
أمريكا الفاعل الرئيسي، والإقليم وكلاء منفذون
كل الوقائع تؤكد أن واشنطن هي الفاعل الأكبر في أزمات السودان، بينما تمثل بعض دول الإقليم – مثل الإمارات وإسرائيل وغيرهما – أذرع تنفيذ لمشروعاتها في إعادة هندسة المشهد السوداني. فالموارد الهائلة، والموقع الجيوسياسي، والساحل الممتد على البحر الأحمر، كلها تجعل من السودان ساحة تنافس وموقع نفوذ استراتيجي أمريكي.
الرباعية والاتفاق الإطاري قبل الحرب
قبل اندلاع الحرب، عملت واشنطن عبر “الرباعية” (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات) على فرض اتفاق إطاري كان يُفترض أن يقود إلى انتقال مدني، لكنه في الحقيقة عمّق الانقسام بين القوى الوطنية، وأضعف المؤسسة العسكرية، ومهّد لشرخ أمني كبير. جاء ذلك في سياق سعي أمريكي لإعادة تشكيل السلطة بما يخدم توازنات محددة أكثر من خدمة السودان نفسه.
من مفاوضات جدة إلى بيان الرباعية
عقب اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م، تحركت أمريكا لإدارة الأزمة لا لإنهائها. فمفاوضات جدة كانت امتدادًا لسياسة “إدارة الصراع” وليس حله، إذ ركّزت على وقف إطلاق النار دون معالجة جذور التمرد وداعميه. ثم جاءت بيانات “الرباعية” لتُظهر واشنطن بمظهر الوسيط، بينما كانت فعلياً الطرف الأكثر تأثيرًا في ميزان الميدان والسياسة.
الحراك الأمريكي الأخير ومسعد بولس
يأتي ظهور المستشار الأمريكي للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، في هذا السياق، ليعيد التأكيد أن واشنطن تدير ملف السودان وفق أجندة إقليمية أوسع. فزياراته وتصريحاته وتوقيت ظهوره ليست عفوية؛ بل تمثل غطاءً دبلوماسياً لتحريك ملفات التفاوض وفق مصالح البحر الأحمر وإعادة هندسة الإقليم.
التفاوض، الرباعية، والبحر الأحمر
لطالما كان البحر الأحمر أحد أهم مفاتيح الجغرافيا الاستراتيجية للولايات المتحدة. فمنذ انسحابها من الصومال وتراجع حضورها في اليمن، تسعى واشنطن لتثبيت موطئ قدم دائم على سواحل البحر الأحمر عبر شركاء ووكلاء إقليميين، ومن هنا فإن الأزمة السودانية تمثل بالنسبة لها مدخلاً لإعادة التموضع في المنطقة تحت مظلة “الأمن الملاحي ومحاربة الإرهاب والتهريب”.
بعد جنوب السودان ودارفور… البحر الأحمر هو العنوان القادم
كنت دوماً أوقن إن ما بعد حرب جنوب السودان وأزمة دارفور ستكون معركة السودان الكبرى بسبب البحر الأحمر. واليوم تتحقق تلك النبوءة حيث تتكثف التحركات الأمريكية، تتعدد البيانات، وتتزايد اللقاءات حول “الأمن الإقليمي”. بيان الرباعية (بتاريخ 12 سبتمبر 2025م) تضمّن إشارات واضحة إلى ترتيبات جديدة تخص البحر الأحمر، وهو ما يؤكد أن السودان بات جزءاً من معادلة أمن الملاحة والطاقة العالمية.
أمريكا والمصالح الاقتصادية
ترى واشنطن في السودان سوقاً واعداً للموارد الزراعية والتعدينية، ومعبراً استراتيجياً نحو إفريقيا الوسطى والقرن الإفريقي. مصالحها الاقتصادية تشمل المعادن النادرة، الذهب، النفط، وممرات الطاقة البديلة التي قد تعوض بعض مسارات الخليج أو قناة السويس مستقبلاً.
أمريكا والمصالح السياسية
سياسيًا، تهدف واشنطن إلى منع تمدد النفوذ الروسي والصيني والإيراني في الإقليم، والحفاظ على “إطار ليبرالي” تتحكم فيه عبر المؤسسات الإقليمية والمنظمات، مع الإبقاء على السودان في موقع غير قادر على صياغة قراره السيادي بصورة مستقلة.
أمريكا والمصالح العسكرية
عسكريًا، يمثل البحر الأحمر واجهة عمليات بحرية حيوية للأسطول الخامس والسادس الأمريكي، ومسرحاً مهماً للمراقبة الجوية والاستخبارية. لذلك تسعى واشنطن لتأمين قواعد مراقبة واتصالات، سواء بشكل مباشر أو عبر شركائها في المنطقة.
المنافسون لواشنطن
الصين: الحضور الاقتصادي والاستثماري الكثيف في البنية التحتية والموانئ، ما يثير قلق واشنطن من مشروع “الحزام والطريق”.
روسيا: سعيها لإقامة قاعدة بحرية في بورتسودان، ما يُعتبر تحدياً مباشراً للهيمنة الأمريكية.
إيران: استعادة التواصل مع السودان وموانئه بعد عودة العلاقات، وهو ما تراه واشنطن تهديداً مزدوجاً.
إسرائيل: رغم أنها حليف لواشنطن، إلا أن التداخل بين مصالحها الأمنية ومشروعاتها في البحر الأحمر أوجد تقاطعاً غامضاً يجعلها شريكاً في بعض الملفات ومنافساً في أخرى.
إعادة ترتيب الإقليم على أساس البحر الأحمر
تعمل واشنطن حالياً على بناء منظومة جديدة لإدارة البحر الأحمر، تربط فيها أمن الممرات الملاحية بالمصالح السياسية والعسكرية. السودان في قلب هذه المنظومة، لا بوصفه طرفاً مستقلاً، بل بوصفه ساحة لإعادة توزيع النفوذ، في مواجهة القوى الصاعدة في الشرق.
انعكاس الحرب في السودان على البحر الأحمر وأمن الإقليم
الحرب في السودان أعادت رسم خريطة القوة حول البحر الأحمر، وأعطت مبرراً إضافياً للتدخل الأمريكي بحجة حماية الملاحة ومكافحة الفوضى. لكن الحقيقة أن هذا التدخل يعمّق التبعية، ويعيد إنتاج الأزمات بدلاً من معالجتها.
ماذا تريد أمريكا من السودان؟
يمكن القول، و بشكل واضحٍ وصريحٍ أن واشنطن تسعى إلى:
تأمين ممر استراتيجي على البحر الأحمر يخدم مصالحها وشركاءها.
إخضاع الاقتصاد السوداني لمنظومات التمويل الغربية.
ضمان عدم تحوّل السودان إلى قاعدة نفوذ روسي أو صيني.
توجيه العملية السياسية بما يضمن نفوذاً طويل الأمد داخل النخبة الحاكمة.
ماذا تريد أمريكا من الجيش السوداني؟
تهدف واشنطن إلى إعادة صياغة المؤسسة العسكرية السودانية وضمان عقيدة عسكرية و قتالية جديدة منزوعة الايدلوجيا الاسلامية، لتكون جزءاً من منظومة الأمن الإقليمي المتكيفة مع مصالحها، عبر “إصلاحات هيكلية” تضمن تقليص استقلالية الجيش ومنع ظهوره كقوة وطنية مستقلة ذات مشروع سيادي.
أمريكا والإسلاميين في السودان
تمثِّل التيارات الإسلامية في السودان — بمختلف مدارسها الفكرية والتنظيمية — أحد أكبر هواجس الولايات المتحدة منذ تسعينات القرن الماضي. فواشنطن ترى أن السودان، بحكم موقعه وتركيبته الاجتماعية، يمكن أن يكون مركز إشعاع لفكرٍ إسلامي سياسي معتدل لكنه مؤثر، قادر على إلهام تيارات مشابهة في إفريقيا والقرن الإفريقي والعالم العربي.
ومنذ ذلك الحين تتعامل الإدارة الأمريكية مع الإسلاميين في السودان باعتبارهم تهديدًا مستمرًا لمشروعها في إعادة هندسة المنطقة، لا سيما بعد تجارب أفغانستان ومصر وتونس.
لذلك تعمل واشنطن — بشكل مباشر أو عبر حلفائها الإقليميين — على إزاحة الإسلاميين من المشهد السياسي السوداني، ليس فقط بمنعهم من العودة للحكم، بل بضمان تحييدهم الكامل من أي صيغة سلطة مستقبلية، وتشويه صورتهم في الوعي العام عبر الإعلام والمنظمات.
هذا التخوف الأمريكي لا يستند إلى مؤشرات أمنية راهنة بقدر ما يستند إلى هاجس أيديولوجي عميق من عودة الإسلاميين كقوة اجتماعية متجذرة يمكنها إعادة إنتاج مشروع وطني مستقل، أو بناء تحالفات سياسية إقليمية لا تخضع للمحور الأمريكي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ومن هنا يتضح أن إعادة صياغة المؤسسة العسكرية وتوجيه العملية السياسية ليست سوى وجهٍ آخر لمحاولة واشنطن تفريغ السودان من أي تيار وطني ذي مرجعية فكرية مستقلة.
ماذا تريد أمريكا من المفاوضات؟
من المفاوضات تسعى واشنطن لاستخراج ترتيبات طويلة المدى حول البحر الأحمر، وتحديد مواقع النفوذ والمراقبة، وربما إنشاء تحالف بحري جديد، مع الإبقاء على السودان دومًا ضعيفاً، محتاجاً، ومنفتحاً اقتصادياً دون شروط وطنية.
المآل الذي تريده أمريكا للسودان
إن المآل الذي تسعى إليه الولايات المتحدة ليس سلامًا مستقرًا ولا ديمقراطية حقيقية، بل سودانٌ مُعاد تشكيله بما يخدم هندسة المصالح الأمريكية والإقليمية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. تريد واشنطن دولة ضعيفة السيادة، متشظية القرار، مفتوحة اقتصادياً دون ضوابط وطنية، ومُقيَّدة سياسيًا بموازين القوى التي ترسمها الرباعية ووكلاؤها في الإقليم.
إنّ المآل الأمريكي المقصود هو سودانٌ قابل للإدارة لا للقيادة، تتحكم في بوصلته المساعدات الخارجية والضغوط السياسية، وتُدار موارده عبر منظومات التمويل الغربية، وتُرسم سياساته الخارجية بما يضمن استمرار الدور الأمريكي في البحر الأحمر والشرق الإفريقي، دون أن يمتلك السودان قراره المستقل أو مشروعه الوطني الكامل.
ما المطلوب من السودان لمواجهة ذلك؟
إن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من سياسات و تحركات و إجراءات تجاه السودان، يتطلب من القيادة السياسية السودانية حذرا و ترتيبات محكمة، ولمواجهة هذا الواقع المعقد والتحديات المتشابكة، فإن الواجب الوطني يقتضي أن تعتمد الدولة السودانية نهجًا استباقيًا يستند إلى الآتي:
بناء رؤية استراتيجية متكاملة للأمن الوطني تخدم المصالح الوطنية العليا، تشمل البحر الأحمر كمكوّن سيادي لا تفاوضي.
تنويع الشراكات الاقتصادية لتقليل الاعتماد على محور واحد.
إصلاح العلاقات الإقليمية على أساس المصالح المتبادلة لا الوصاية.
تعزيز القدرات الدفاعية والبحرية وتأمين الموانئ.
اعتماد سياسة خارجية واقعية تحفظ التوازن بين الشرق والغرب دون تفريط أو مغالاة.
أمريكا لم تكن يومًا بعيدة عن أزمات السودان، بل كانت دوماً في قلبها فاعلاً مباشرًا أو موجِّهًا من وراء الستار. ظاهر سياستها خطاب عن الديمقراطية، وباطنها سعي للسيطرة على الممرات والثروات وفرض النفوذ. وما لم يدرك السودان أن معركته الحقيقية هي معركة وعي وسيادة وإدارة موارد، سيظل أسيراً في دائرة الأزمات.
إن الطريق إلى الاستقلال الكامل يبدأ بفهم موازين القوة، وبناء مشروع وطني متكامل يقف على قدميه بثقة، ويجعل من السودان دولة فاعلة لا ساحة صراع.
الخميس 30 اكتوبر 2025م



