✍️ أمانى الطويل •
برز في السودان خلال الأسبوع الماضي مشهدان بارزان يوضحان عمق أزمة رئيس الوزراء السوداني، عبدلله حمدوك، المشهد الأول اجتماع مجلس الوزراء بلا وزراء تقريباً، واحتلال وكلاء الوزارات مقاعد الوزراء.
المشهد الثاني هو مطالبة جهات دولية بتشكيل الحكومة السودانية، لمباشرة مهام تسيير المؤسسات العامة، وتوفير الخدمات الأساسية للشعب السوداني، إذ مر ثلاثة أسابيع تقريباً من عقد الاتفاق السياسي بين رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء، بينما الوضع السياسي يبدو مجمداً.
“تغوّل”
وفي حقيقة الأمر، يواجه حمدوك تحديات متعددة المصادر لتشكيل حكومة تكنوقراط، قوية وقادرة على عبور ما بقي من المرحلة الانتقالية السودانية حتى صيف 2023. ويبدو أول هذه التحديات هو الرفض الشعبي للاتفاق السياسي، على الرغم من أنه ليس رفضاً شاملاً بمعنى أن هناك انقساماً في الشارع السياسي إزاء الاتفاق، لكنه رفض مؤثر على قدرة حمدوك في الاستعانة بتكنوقراط مستقلين، الذي قد يجد قطاع كبير منهم أن المهمة صعبة في المناخ السياسي الحالي، وأن العائد محدود على الصعيدين المالي والمعنوي، خصوصاً أن غالبية التكنوقراط السودانيين مؤهلون لتولي مناصب في منظمات دولية وإقليمية، ولهم مواقع في الجامعات وغيرها من المؤسسات، وفي غير حاجة للوصم من جانب قوى الانتفاضة والأحزاب السياسية، في بلد يعد فيه “الشرف السياسي” رأسَمالٍ لا يُستهان به.
المصدر الثاني للتحدي الراهن أمام رئيس الوزراء السوداني هو المجلس السيادي، الذي يمكن القول إنه يمارس حالياً حالة من حالات “التغوّل” على صلاحيات مجلس الوزراء، المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، خصوصاً فيما يتعلق بالمهام التنفيذية، إذ استضاف اجتماعيين في شأن الوضع الصحي في البلاد، وكذلك متابعة الموسم الزراعي، وذلك في رسالة للداخل والخارج بأن المجلس السيادي وليس الحكومة، هو من يحافظ على مؤسسة الدولة، وقادر على الحفاظ على شروط استقرارها.
وبطبيعة الحال، يضع هذا “التغوّل” حمدوك في حرج أمام الرأي العام السوداني، فضلاً عما يمارسه خصوصاً رئيس المجلس السيادي الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه حميدتي من ضغوط في شأن آليات اختيار الوزراء، ذلك أن الرجلين يطرحان منهج المحاصصة وفق ما يمكن الإشارة له “بالقبلية والجهوية” لتكوين الحكومة، وهو منهج قد يكون خطيراً وسلبي الأثر، لسببين أنه ليس بالضرورة أن يصعد كفاءات مهنية، بما يعني واقعياً إضعاف قدرات الحكومة المقبلة، وذلك في مرحلة حرجة للغاية في التاريخ السوداني. والسبب الثاني أن هذا الوضع سينتج انقسامات قد تعبر عن نفسها سياسياً في مراحل لاحقة، كما هو الحال في نموذج شرق السودان، بما يعني في الأخير إنتاج مقدمات لانهيار مؤسسة الدولة، فضلاً عما يطرحه منهج المحاصصة من أثر على المستوى العرقي، ولنا في النموذج العراقي خير شاهد أن مناهج المحاصصة قد قادت في حقيقة الأمر نحو الاحتراب، وليس الاستقرار.
ضغوط يقاومها حمدوك
وتحوز الحركات المسلحة، وخصوصاً “الجبهة الثورية” الموقعة على اتفاق سلام جوبا، موقع المصدر الثالث في ممارسة الضغوط على حمدوك، ذلك أن “الجبهة الثورية” تسعى لتحقيق أقصى استفادة لها من التحالف مع المكون العسكري في هذه المرحلة، بالسعي نحو وجود واسع في الحكومة المزمع تكوينها، وهي ضغوط يقاومها حمدوك راهناً، لأسباب يدركها الجميع، ذلك أن اختلال التوازن على أسس عرقية في الحكومة السودانية قد ينتج احتقانات كبيرة، خصوصاً أن “الجبهة الثورية”، موجودة بعتادها العسكري في الخرطوم، ومارست بعض فصائلها اشتباكات مسلحة في بعض أنحاء الخرطوم، وكلها أمور أثارت، ولا تزال، احتقانات في منطقة الوسط السوداني.
جهات من نظام البشير من جهتها تمارس ضغوطاً للوجود في الحكومة السودانية المقبلة، خصوصاً من عناصر الصف الثالث أو الرابع من كل من “حزب المؤتمر الوطني” المحلول أو “الجبهة القومية الإسلامية” التي تستفيد من كونها غير معروفة نسبياً، وتحاول أن توفر لنفسها أسباباً للتأثير في المعادلة السياسية اللاحقة للفترة الانتقالية من ناحية، وكذلك حماية مصالحها من ناحية أخرى.
كل هذه التحديات والضغوط تقف منتصبة أمام رئيس الوزراء السوداني، بينما هو يبدو معزولاً نسبياً على المستوى الداخلي بلا حاضنة سياسية، بعد أن تمت إزاحة حاضنته تحالف “الحرية والتغيير” من المعادلة السياسية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بينما تقف لجان المقاومة ذات التكوين الشبابي لحمدوك بالمرصاد، وتعتبر اتفاقه مع المكون العسكري “خيانة للثورة”، بل إنها حالياً بصدد بلورة إعلان سياسي شامل يعتبرونه برنامجاً لقوى الانتفاضة على المستويين الداخلي والخارجي.
هذا المجهود الشبابي يبدو تعبيراً جيلياً مغايراً عن الواقع السياسي الراهن في السودان، كما يشكل حماساً لتأسيس بنية دولة جديدة، لها ملامح الدولة الحديثة التي تقوم على عقد اجتماعي أسسه المواطنة المتساوية. وعلى الرغم من نبل المطامح ومشروعيتها، ففي تقديرنا ستواجه عدداً من التحديات منها نوع من “الشطط في الطرح” القائم على ضعف الخبرات السياسية، والتي تراهن فيها لجان المقاومة على الدعم الشعبي المستمر، وهو دعم بطبيعته مؤقت كما هو معلوم في الخبرات التاريخية لثورات الشعوب. أما ثاني التحديات فهو طرح المشكلات الإقليمية للسودان مع دول الجوار، بما يجعل لجان المقاومة محلاً لمقاومة الخارج لها في توقيت حرج لبناء قدراتها.
تحديات كبيرة
كما يبدو أن مجهودات لجان المقاومة في بلورة مشروعها السياسي معزول حتى اللحظة الراهنة عن دعم القوى والأحزاب السياسية السودانية بعد فشل اجتماع بين الطرفين أخيراً. وهو ما قد يسبب تحدياً كبيراً أمام مجهود لجان المقاومة في بناء قدراتها وتأثيرها السياسي الضاغط على رئيس الوزراء السوداني في مرحلة تشكيل حكومته، أو حتى في مرحلة ما بعد التشكيل إذا نجح فيها.
في المقابل، يحظى حمدوك بدعم دولي منقطع النظير، بل إن وجوده يبدو شرطاً لاستمرار الدعم الدولي للسودان، خصوصاً في مجالات الدعم الاقتصادي والمساعدات المالية، إذ نلاحظ أن المجهود الذي تقوم به بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان والمؤسسة طبقاً للفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وقرار مجلس الأمن رقم 2425، هو مجهود ما زال محدود الأثر، وذلك من حيث القدرة على الإعلان السياسي بين حمدوك والبرهان في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أو من حيث تبرير أسبابه أنه لحقن سفك الدماء في الشوارع، وكذلك من حيث تشجيع فتح التحقيقات في مقتل المتظاهرين في التظاهرات والمواكب السودانية اعتباراً من 21 سبتمبر (أيلول).
وعلى الرغم من هذا الدعم الدولي لحمدوك، فإنه قد يكون قابلاً للاختراق من جانب المكون العسكري، خصوصاً بعد “تجريم” البرهان أخيراً للأداء الاجتماعي من جانب السفير الأميركي في السودان، بعد قيام الأخير بتعزية أسر ضحايا التظاهرات، إذ اعتبر ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية السودانية، وبطبيعة الحال هذا التجريم ليس مستهدفاً به السفير الأميركي، ولكنه إشارة لكل مُستقوٍ بالخارج على حساب المكون العسكري، وأول المستهدفين في رسائل البرهان قد يكون رئيس الوزراء عبدلله حمدوك نفسه.
وقد تبدو رسائل البرهان معروفة الأسباب منها أنه لا مجال لفتح تحقيقات في شأن حوداث مقتل المتظاهرين بما يجرِ ذلك من مشكلات سياسية عميقة الأثر، إذا كان المتورطون ينتمون لأي تشكيلات مسلحة رسمية كانت أو غير رسمية.
المجتمع الدولي
كما أن الضغط على المؤسسة العسكرية بموجب قانون دعم الانتقال في السودان الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 2020 من جانب الكونغرس الأميركي والقاضي بتسليم مؤسسات الجيش الاقتصادية للحكومة السودانية، هو غير مطروح للتنفيذ أو التفعيل من جانب أي طرف داخلي مهما كان حجم الإسناد له، خصوصاً في ضوء موقف المجتمع الدولي في التمسك بالمكون العسكري في المعادلة الانتقالية السودانية.
أما ثالث أسباب البرهان فهو تحييد عنصر الضغط الدولي فيما يتعلق بتسليم البشير خصوصاً للمحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن عمر البشير مُنتمٍ للمؤسسة العسكرية السودانية، وتسليمه قد يسبب حرجاً لهذه المؤسسة، التي قد تكون متهمة من قطاعاتها العاملة بالتفريط في السيادة الوطنية السودانية.
إجمالاً، يبدو أن فرص حمدوك في القفز على التحديات التي تبدو شاخصة في الواقع السياسي السوداني راهناً هي فرص محدودة، وقد يتطلب تطويعها صبراً وقدرات هائلة في التعامل مع التناقضات البارزة بين الداخل السوداني والمتطلبات الدولية. أعان الله الرجل والسودان على ما ابتُليا به من مصاعب وتحديات.
• كاتبة وباحثة
مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة أفريقيات.
{ نشرته : إندبندنت – عربية }