لم أجد وصفاً أدقّ من العبارة السودانية الدارجة “اللّت والعَجن” لأطلقه على الحالة السياسية التي تعيشها بلادنا منذ الإطاحة بحكم الإنقاذ قبل تسعةٍ وثلاثين شهراً.
تسعةٌ وثلاثون شهراً والبلاد في حالة عجزٍ وشللٍ تامين، فلا نحن أنجزنا مشروع التحول الديمقراطي ولا التحول الإقتصادي ولا أقمنا صروح العدالة ومؤسسات الحكم الرشيد ولا تمّ بسط السلام في ربوع البلاد كافة، ولا نحن نعرف إلى أين نسير!!
الانتقادات التي وجهتها جماعات المعارضة مطلع العام ٢٠١٩ وما قبله، والتي بموجبها تمت تعبئة المتظاهرين ضد حكم الإنقاذ، تتلخص في كون النظام رفع أسعار رغيف الخبز إلى جنيهين وجالون البنزين إلى ثمانية وعشرين جنيهاً، وأن مساحة الحريات العامة كانت تضيق كلما مرّ النظام بأزمة سياسية، وأن السلام لم يعمّ كل أرجاء الوطن، وأن الأفق السياسي غير واضح في ظل الخطوات الإقليمية والدولية التي أكملت – وقتها – إحكام الحصار الإقتصادي والدبلوماسي على البلاد.
والوعود التي قطعتها المجموعة العسكرية التي نفذت الإنقلاب في أبريل ٢٠١٩ ورديفتها المدنية التي تصدرت المشهد السياسي، هي أن حال السودان وأهله سينصلحان بمجرد سقوط النظام “تسقط بس”، وقد صدّقها الكثيرون حتى أن المجموعات الشبابية التي أخذت تتقاطر على ميدان الاعتصام أمام قيادة الجيش، كانت تتصور أن البديل الذي سيتولى السلطة سيحوِّل الشحّ إلى وفرة والغلاء إلى رخاء في غضون أشهر معدودات، وستتدفق على البلاد مليارات الدولارات سواء من المانحين أو المستثمرين، بل إن أول وزير للمالية في العهد الجديد قدّر أن حجم التدفقات المالية سيكون في حدود ثمانية مليارات دولار!!
ولم يقف ما بشرونا به عند حدّ الوفرة والرخاء الماديين، بل وعدونا بأن بلادنا ستتحول إلى أحد أنصع نماذج الحكم الديمقراطي في العالمين العربي والأفريقي، وأن قيم الحرية والعدالة والشفافية والحكم الرشيد هي التي ستسود، بحيث سيخضع الحاكم قبل المحكوم إلى سلطة القضاء وحكم القانون ورقابة الإعلام، وأنه لن يحول بين الناس وحقهم في اختيار مَن يحكمهم إلاّ فترة قصيرة يُصار خلالها لتنظيم مؤسسات الإنتقال بما في ذلك السلطة التي ستشرف على قيام ومراقبة الإنتخابات؛ لكن كل هذه الوعود أصبحت هشيماً تذروه الرياح.
العنوان الأبرز للمرحلة الإنتقالية التي نعيشها الآن هو الفشل. الفشل حتى في إبقاء الوضع المعيشي للناس على ما كان عليه، والفشل في تحديد هوية الفترة الإنتقالية وإقامة مؤسساتها وتحديد مطلوباتها ومدتها، ونتيجة لذلك الفشل المتراكم انحدرت البلاد إلى خطر المجاعة الشاملة في ظل وضع اللا دولة واللا قانون، وأصبح الكثيرون الآن، في الريف والحَضَر،عليهم أن يختاروا بين أخذ القانون بيدهم لحماية أنفسهم أو قبول التعايش مع حالة اللاقانون التي تتسيد الشارع العام والأسواق والطرق ومناطق الزراعة والرعي، وتتسيد حتى المظاهرات التي يناهض أصحابها السلطة القائمة!!
والذي يثير الدهشة والحيرة ليس هو هذا فحسب وإنما أيضاً الإحساس الذي يتملكك وأنت تراقب أداء وسلوك “المسؤولين” وكبار السياسيين، إذ لا يبدو أن أحداً منهم يشعر بما يشعر به المواطنون من خوف وضياع ومكابدة عيش، أو يحس بوجود أزمة أصلاً!!
لم يبق تنبيهٌ أو نصحٌ أو تحذيرٌ يمكن بذله لمن بيدهم الأمر، أو من الفاعلين السياسيين إلا وقِيل لهم، ولم يبق من خيار لتجاوز حالة الانحدار المتسارع إلاّ ووُضع أمام مَن بيدهم الأمر، لكنهم لم يأخذوا بما بُذل لهم من نصح ولا تفاعلوا بما قُدم إليهم من مبادرات، ولم يبادروا بخيارات بديلة تتفوق على ما أتاهم، وفي الأثناء تبقى الهزّات الارتدادية لزلزال الخراب الذي ضرب أرض السودان تفعل فعلها فتُقَسّم المقسم وتُعَقّد المشكلات المعقدة أصلاً وتضيف إليها مشكلات جديدة.
أخشى أن يتسرب إلى الناصحين والمحذرين والمبادرين الشكُ بأن ما يحدث أمرٌ مقصودٌ لذاته، وأنهم “ينفخون في قِربة مقدودة”، وأن شعبنا يُساق إلى حتفه كما سِيقت شعوبٌ من حولنا، أو كما تُساق الشاة إلى الجزّار!!
على الرغم من قتامة المشهد الماثل أمامنا إلاّ أننا سنبقى مستمسكين بالأمل، ثقة في الله أولاً، وأملاً في أن يثوب بعضُ السياسيين إلى رشدهم، وأن يتعاظم الرأى العام وسط المؤسسات الحاكمة فيدفع باتجاه إحداث اختراق وسط حالة الجمود السياسي وانسداد الأفق التي تهيمن على طول البلاد وعرضها، واللهُ المستعان.