✍️ الواثق كمير
تورونتو، 8 ديسمبر 2021
يبدو أنه في هذا الزمن المرير لا ولن تتوقف ساقية الأحزان من الدوران، فأصبحنا وكأننا موعودين بفقدِ عزيزٍ لدينا بين كلَ عشيةٍ وضُحاها! طلبَّ مني الصديق أحمد حسين آدم، في رسالة صوتية على الواتساب من الدوحة، أن استضافة مثقف مصري ليكون ضيفاً على أحد حلقات الوراق (سودانية 24) ستضفي قيمة مضافة لإلقاء الضو على كتاب رحلتي مع منصور خالد، بعد أن شاهد حلقة البرنامج الأولى مع د. لام أكول. أجبِتُ على أحمد بأن فكرته جيدة سأقوم بطرحها على الأستاذ غسان، مقدم البرنامج، وإن كان هناك من أرشحه للمشاركة في البرنامج فهو الصديق المهتم والمهموم بالشأن السوداني، الأستاذ هاني رسلان. فقد تعددت اسهامات هاني في هذا المجال، بل وقد كان متابعاً كل حلقات الكتاب (61 حلقة) التي كنت أرسلها له بانتظام وأتلقى تعليقاته وأُسجلُ ملاحظاته القيمة (وأهديته نسخة منه عند زيارته لي بمنزلنا في المعادي في بعد ظهر الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021). ومع ذلك، أضِفتُ لأحمد أن هاني يبدو متوعكاً بعض الشيء فهو لم يرد على آخر رسائلي له على تطبيق الواتساب وذلك على غير عادته، فلم يتأخر يوماً عن الردِّ عليَّ إلا ببضع سويعات على الأكثر. هكذا، ما أن انتهت محادثتي مع أحمد، وجدت نفسي تلقائياً أبعثُ بتسجيل صوتي مُقتضب إلى هاني (منتصف ليلة الجمعة، في تورونتو، الساعة السابعة من صباح السبت، 4 ديسمبر، بتوقيت القاهرة) أستفسر عن حاله طالباً منه أن يطمئنني على صحته. ظللت أُتابعُ رسائل الواتساب حتى الثالثة صباحاً (العاشرة يتوقيت مصر) ولكن هاني لم يستلم الرسالة الصوتيه، فانتابني قلقٌ مُزعج فخلدتُ إلى النوم وقلبي مُنقبض وبالي مُنشغل، خاصةً وهاني كان يتعرضُ لجلسات غسيل الكلى ثلاثِ مراتٍ في الأسبوع. استيقظتُ مُتأخراً بعض الشيئ، وما أن شرعتُ في تناول الحِصة الأولى من أدوية الأمراض المُزمنة حتى أبلغتني رفيقة دربي، زينب البكري، بفاجعة رحيل هاني عن دنيانا في توارد خواطر عجيب وحزين، فارتبكتُ وفقدتُ تماسكي لبرهة طويلة.
تعرفت على هاني رسلان من بُعدٍ منذ عام 2007، منذ أن أصبحَّ رئيساً ل “وحدة دراسات السُّودان وحوض النيل”، فقاد من منصة هذا الموقع نشاطات متعددة عكست بجلاء اهتماماته وهمومة بالسُّودان وقضاياه المتنوعة. ومع ذلك، لم نلتق كفاحاً إلا في أواخر عام 2009، عن طريق المُفكر السفير السُّوداني الراحل بشير البكري الذي كان من المُراوِدين الدائمين لندوات مركز الأهرام للدراسات بكل أقسامه، وكان دوماً يلتقي بهاني في جُلِ الفعاليات الفكربة والسياسية والثقافية. ويبدو أن هاني كان أيضاً، قبل لقائه به، لمقالاتي المنشورة في موقع “سودانايل” الذي ظل هاني من كتاب الرأي المشاركين فيه. ففي 25 مايو 2010، كتبَّ هاني مقالة ضافية تعقيباً على مقالٍ لي نُشرَّ في 12 مايو 2010، بعنوان “طلقة أخيرة في الظلام: كيف يُرضي الرئيسان شعبيهما؟” (هاني رسلان، الواثق كمير: دور المُثقف الوطني!، الأهرام الاقتصادي، أُعيد نشره في الموقع الإلكتروني ل”الرواية الأولى”، 5 ديسمبر 2021).
منذ ذلك الحين، ظللنا نلتقي دوماً في القاهرة، التي “أحِجُ” إليها في صيف كل عام خلال عقدٍ من الزمان، فيزورني في البيت ويدعونا إلى منزلة لإفطار رمضان ونجتمع في دعوات متبادلة، وكثيراً ما نذهب إليه في مكتبه بالأهرام ونتاول معه الغداء في كافتيرا المركز (برفقة صديقنا المشترك المحبوب عبد السلام في مرات عديدة). قبل عودتي إلى كندا، دعانا هاني إلى أحد مطاعم “النايل سيتي” على كورنيش الزمالك، ومعي المحبوب، في عصرِ يوم الأحد 22 أغسطس، ومن ثم التقيته آخر مرة عندما زارني في البيت ليأخذ نسخنه من الكتاب يوم الثلاثاء 28 سبتمبر 2021. جسدَّ هاني رسلان الصفات الأصيلة للمصري “الصعيدي”، وليست الصورة “النمطية” التي ترسمها الدراما المصرية. فقد كان هاني رزيناً في تعامله ومتزناً في انتقاء العبارات الخالية من تجريح محاوريه، ولكن كان الدم “الحامي” يُجري في عروقه، بما يتطابق مع مزاج أهله السُّودانيين. فقد كان كريماً معطاءاً مُتجلياً في البيت المفتوح للقريب والبعيد وإكرام الضيف، واحترام العادات والتقاليد، حيث لا مكان للخيانة في قاموسه. كان هاني يتبنى مبدأ التكافل الاجتماعي ومواصلة الأرحام، ولذلك تجده يُغادر القاهرة كل نهاية أسبوع ليكون بجانب أهله وأسرته الُممتدة ليتابع ويُسهم في شأن أهل مسقط رأسه في قرية “دندرة” محافظة قنا، التي سار عليها إسم “باريس الصعيد”، وتم دفنةجسمانه الطاهر في مقابر الأسرة! كان هاني صبوراً وصامداً في مقاومة سلسلة من الإبتلاءات الصحبة لسنوات طويلة، فتعرض لعملية زرع الكبد، ومن ثم أصابه الفشل الكلوي الذي فرض عليه ثلاث جلسات غسيلٍ للكلى في الأسبوع أرهقت جسَّده وأثقلت على حركتة. وبالرغم من معاناته لم يستسلم للمرض وقاومه بكل ما يملك من عزيمةٍ وصلدٍ، ولم يدعُ تداعياته تؤثر على أداء مهامه وعلاقاته الاجتماعية، فظل مُواظباً على لقائنا والإصرار على دعوتنا بانتظام.
وبذلك، توطدت بيننا صداقةٌ متينةٌ، وتواصلٌ لم ينقطع أبداً، تقومُ على مودة واحترام متبادل، نتبادل الأفكار ونتحاور في شؤون السُّوان وشجونه، وحول العلاقات المصرية-السُّودانية بحثاً عن سُبلِ تطويرها وتطويعها لِصالحِ شَعبي البَلدين. فلا تجوزُ المزايدة على إسهامات هاني في إلقاء الأضواء الكاشفة على كل الانشغالات السياسية السودانية، وبذل كل الجهود للانفتاح على كل تشكيلات الطيف السياسي والفكري، ولم يمِلُ أو يكِلُ من استضافة جميع الفرقاء وطرح آرائهم المتباينة عسي ولعل أن يتوصلوا إلى ما يجمعهم من قواسمٍ مُشتركةٍ. كما لا يجوز لنا التزيد على آراء ومواقف هاني، كمثقف مصري وطني، التي يُعبرُ عنها بشجاعة وجرأة وشفافية، فامتعض منها بعض الكتاب والصحفيين السُّودانين وكالوا ضده الاتهامات وأثاروا حولة الشكوك والظنون، وكأنما يطالبونه بأن تتطابق أفكاره هكذا مع آرائهم.
لا ينكُرُ إلا مُكابرٍ في المساهمات المُّقدَّرة التي ظل هاني رسلان يقدمها من أجل إثراء الحوار حول كافة القضايا السياسية والمجتمعية وبين جميع الأطراف صاحبة المصلحة، وأيضاً بغرضِ تعميق الفهم المشترك لروافع ومُثبطات الدفع بالعلاقات المصرية-السُّودانية إلى الأمام. لتحقيق هذه الأهداف طرق هاني كل الأساليب وسلك جميع الطرق المُتاحة من تنظيم للندوات وعقد للسمنارات وإعداد للدورات التدريبة لبناء القدرات في مجالات الصحافة والدراسات البحثية.
فمنذ انطلاق وُحدَّة دراسات السودان وحوض النيل، برئاسته في 2007، أقامت الوُحدَّة العديد من الندوات والورش الخاصة بالشأن السوداني، فضلاً عن أنها طرحت العديد من المبادرات التي تضع حلولا للأزمة السودانية من الداخل، سواء كانت بين حكومة الإسلاميين، من جِهةٍ، والحركات المسلحة، من جِهةٍ أخري، كما لعبت الوُحدَّة أيضا في تقارب وجهات النظر بين شريكي السلطة في السودان في أعقاب اتفاقية السلام الشامل (2005)، وأصدرت العديد من الكتب منها حق تقرير المصير لجنوب السودان، جهود حل الأزمة في دارفور، الانتخابات السودانية في عام 2015. واستضافت الوُحدَّة أيضا عدد مُقدر من الفعاليات من شخصيات سودانية من “اليمين” أو “اليسار”، على حدٍ سواءٍ. ضمت هذه النشاطات، على سبيل المثال: الدكتور حيدر إبراهيم، الامام الصادق المهدي، الدكتور لام كول، الراحل المقيم الأستاذ إدوارد لينو، الأستاذ فاقان اموم، الراحل الاستاذ علي محمود حسنين، الدكتور حسن الترابي، السفير الجنوبي سوداني الراحل فارمينو، الدكتور حسن مكي، من الحركات المساحة في دارفور: الأستاذ أحمد حسين آدم، أحمد آدم بخيت، أحمد تُقد لسان، أبوبكر حامد نور، والعديد من الممثلين لحركتي تحرير السودان: قيادة كل من عبدالواحد محمد نور، ومني أركو مناوي، ومن شرق السودان الاستاذة أمال إبراهيم من منبر شرق السودان. ومن المبادرات النوعية لهاني رسلان كان تتظيم وحدَّة دراسات السُّودان لعددٍ من الدورات التدريبية المجانية للسودانين سنويا لمدة تتراوح بين شهرين الي ثلاثة أشهُر في مجالات البحث العلمي الثقافة المجتمعية والعديد من الورش المختلفة. كما استقبلت الوحدة أيضاً العديد من الصحفيين السودانيين في فن الكتابة الصحفية والمقال والتحقيق والاخراج الصحفي مُمثلين لصحف سودانية مُختلفة.
لم يكتف هاني بالندوات وجمع شتى أطراف الطيف السياسي السُّوداني، وبإقامة الدورات التدريبية للصحفيين، ولكنه كان من المشاركين الفاعلين في مواقع التواصل الاجتماعي كمنبر الرأي ل “سودنايل”. بجانب، أنه كان أوائل المساهمين في تأسيس الموقع السودَّاني الرائد في حقل التواصل الاجتماعي “سودانيز أونلاين” منذ النصف الأول من الألفية الثالثة. وبالرغم من ما تعرض له من انتقادات لاذعة من بعض الأعضاء المُسجلين في الموقع، وصلت حد القذف والتشهير وتبعيته لجهاز المخابرات، إلا أنَّ هانى مضى في سبيله بالمشاركة الإيجابية. بل، ذهب أبعد من ذلك باستضافته لمُؤسسِ سودانيز أونلاين، الأستاذ بكري أبوبكر، لندوة تحت عنوان “الصحافة الإلكترونية وتأثيرها على السياسة”، يونيو 2009، كخطوةٍ في دعم القدرات الصحفية للموقع، وقدمَّ ورقة قيمة عن الموضوع وصلته بأداء المنبر العام لموقع سودانيز أونلاين.
ولا يفوتني هنا أن أُسطرُ بضعَّ كلمات عن احتفاء هاني رسلان بالرموز الفكرية والثقافية السُّودانية وتقديره لهم كقاماتٍ سامقةٍ، كُلٍ في مجاله، ومتابعة إسهاماتِّهم فيما يلي الشأن السُّوداني أو اهتمامهم بجدلية العلاقات المصرية-السُّودانية. ففي النصف الأول من عام 2010، عزمتُ على تحرير كتاب أجمعُ فيه مقالات السفير الراحل بشير البكري، والد رفيقة عمري زينب، فلجأتُ إلى هاني ليبحث لي عن مقالاته في صحيفة الأهرام، فقد كان د. بشير من الكتاب المرموقين في الصحيفة. وبالطبع، لم يُخب هاني ظني فنقب في إرشيف الأهرام وبعث لي بإثني عشر رسالة إيميل مُرفقة بعدد هائل من المقالات غطَّت الفترة بين عامي 1998 و2009. بحقٍ، كان هاني رسلان مُتيماً بحب السُّودانيين جمعاً، يجلهم ويكِنُ لهم التقدير ويُبادِلهم الاحترم.
ومنذ ذلك الحين، تدفقت مياهٌ كثيرة تحت الجسر ومن فوقه، فانفصل جنوب السُّودان، وسقط نظام الإنقاذ الاستبدادي إثر ثورة ديسمبر، ونشأت سلطة انتقالية قوامها الشراكة بين قوى الحرية والتغيير والجيش السُّوداني. ومع ذلك، لم يفتر حماس هاني رسلان لمتابعة ما يجري في السُّودان رغماً عن احباطه من مآلات الأحداث، وانتقاله لإدارة ملفٍ آخر في مركز الأهرام للدراسات الاسترتيجية. فقبل أسبوعين بالتمام من موعِدِ الاستفتاء على حق تقرير مصير جنوب السُّودان، تقدمَّ مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 16 ديسمبر2010، بدعوةٍ إلى نفرٍ من الكُتاب والمثقفين والناشطين السياسيين المصريين والسودانيين لمناقشة مستقبل العلاقات المصرية السودانية. في ذلك اللقاء، تقدم الأستاذ هاني رسلان بمُبادرةٍ لقيام “شراكة إستراتيجية” بين البلدين على المحورين الاقتصادي والأمني بحيث تستجيب للمصالح الاقتصادية المشتركة للبلدين وتؤمن تنسيقاً دفاعياً في مواجهةِ الأخطارِ الخارجية، مع بقاء الدولتين القائمتين. ذلك، على أن تسعى فى المستقبل “لإقرار عملة وجوازِ سفرٍ موحدين” وتستند على الأسس القانونيه القائمه الآن، مع السعى لتطويرها لمقابله متطلبات هذه الشراكة الاستراتيجية التى ينبغى أن تسير فى ظلِ تواصلٍ مجتمعى على المستويات الثقاقية والإعلامية والاجتماعيه. دار نقاشٌ مُستفيض حول مبادرة هاني ولكن لم يخرُج اللقاء إلا بخلاصات عامة توافق عليها الحضور.
وبعد أن صوتَّ الجنوبيون لصالح الانفصال في استفتاء التاسع من يناير 2011، دعا هاني لحلقة نقاشية بحضور ثمانية من كبار قيادات النخبة المصرية وكتاب الرأي لطرح فكرة الشراكة الاستراتيجية مرة أخرى، أو بشكل أوسع السياسة المصرية تجاة السودان بشقية بعد الانفصال. ومع ذلك، لم تأت الرياح بما تشتهي سفن هاني، فقد ذكرَّ لي أنه للأسف لم يتفق الحضور إذ لم يكن هناك من لدية رؤية استراتيجية تتوافق وتتماس مع فكرة الشراكة. فقد كان هناك مؤيدٌ واحد دافع عن رايه بوضوح وتمكنَّ من الخطوط الاساسية، بينما كان للبعض ملاحظات وأفكار غير متساوقة، وبعضٌ آخرٌ كان عدائياً. وعلى حد تعبيره “الخلاصة أنا لم أكن مرتاحاً كثيراً، ولكن الموضوع يستحق المثابرة، وأكثر ما أسعدني أن كل هؤلاء رحبوا وكانوا حريصين على الحضور والمشاركة.. هناك اهتمام ولكن ينبغى لأحدٍ أن يثابر على الجانبين، والمشكلة أن الجانب المصرى المفترض أنه أكثر اتساقاً يحتاج أيضا إلى جهدٍ مكثفٍ”.
مضت الأيام، ولكن لم ينقطع التواصل بيننا ولا اللقاءات السنوية التي تجمعنا في القاهرة، خلال تواجدي في فترات صيف الثلاث سنوات الأخيرة، التي أعقبت ثورة ديسمبر 2018. فقد كانت لزيارة د. عبد الله حمدوك إلى القاهرة، في منتصف سبتمبر 2019، أبعادٌ تاريخية إذ تُعدُّ أول استقبال مصري لرئيسِ وزراءِ سوداني “انتقالي” أو “منتخب” منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، خاصةً وأن الإتهام كان قد طال مصر من عدة أطراف سودانية بحجةِ مؤزارتهم لنظام البشير حتى الرمق الاخير! وكنت أعلمُ بأنه بدفع من هاني رسلان، مع بعض المثقفين وكُتاب الرأي الأكثر معرفة بالشأن السوداني، بدأت القاهرة في افتراع توجه جديد نحو السودان يدعو الى الانفتاح على، والتواصل مع كافة القوى السياسية المدنية والمسلحة، وأن تكون مصر فاعلة في محيطيها الإقليمين الأفريقي والعربي. فبحسب قراءتي للأمور حينذاك، فإنه بنهاية النصف الثاني من عام 2018 ومع تباشيرِ تغييرٍ كان وشيك الحدوث في السودان، لا شك أن الحكومة المصرية قد تفهمت الأوضاع وأدركت مآلاتها واستشعرت القيادة المصرية اضطرابا بشكل ما قد يطرأ في المشهد السياسي السوداني قد يضر بمصر ويهدد استقرارها.
على هذه الخلفية، طلبتُ من رئيس الوزراء في رسالةٍ مفتوحةٍ أن يُعدَّ لزيارة القاهرة لعله يُصيب عصفورين بحجرٍ واحدٍ، أولهما: وضع بصمته بوضوح في رسم خارطة طريق تحدد مستقبل العلاقات واستقرارها بين السودان ومصر، وثانيهما: إحداث اختراق في مفاوضات سد النهضة للوصولِ إلى تفاهمات تكسب فيها الدول الثلاث win-win دون خسارة لأيٍ من الأطراف. استجاب رئيس الوزراء لرسالتي، وبدوره طلبَّ مني رَفدِّه ب “مُذكرة تفاهمية وخطة عمل قابلة للتنفيذ” فيما يتصل بالموضوعين. وعليه، قُمتُ بتشكيل مجموعة think-tank محدودة العدد من أصحاب الرؤى والخبرة ومن خلفيات مختلفة لتحقيق هذا الهدف التوأم، عبر تطبيق الواتساب بإسم “قروب دعم رئيس الوزراء”.
ومن جانب آخر، رأيت أنه من المُهمِ التواصل مع عدد من الكُتاب وقيادات الرأي العام المصريين من المهتمين بشأن العلاقات الثنائية،حتى تكتمل الصورة بالتعرف على هواجسِّهم وتصوراتهم في القضيتين. المشتركات والتقاطعات بين آراء المثقفين المصريين حول مسألتي العلاقات الثنائية وسد النهضة استدعت أن يكون تواصلي مع مجموعة عريضة تعبِرُ عن توجهات فكرية مختلفة. فبالإضافة إلى لقاءاتي مع الأساتذة: سمير عليش وجورج إسحاق وصلاح عرفة وعمرو الشوبكي، لجأتُ كالعادة إلى هاني رسلان الذي كتبَّ باستفاضةِ ونشرَّ العديدَّ من المؤلفات حول هذين الموضوعين، وكان خيرُ معينٌ. فبعد تواصلنا لعدةِ أيامٍ عبر الهاتف والواتساب، بعثَّ إليَّ هاني بمُذكرةٍ في شكلِ مقالٍ تضمنت إحدى عشرة نقطة، مرفقاً بها مُلحقٌ خاص حول قضية حلايب. لا شكَّ أن مُذكرة هاني قد وفرت لي إضاءات مُهِمة أعانتني بقدر كبير على صياغةِ الإطار المفاهيمي وخطة العمل التي طلبها رئيس الوزراء، وفي وضع بعض نقاط الحديث talking points لزيارته المُرتقبةِ إلى القاهرة (ولو لم يُقدر لها أنَّ تتم).
هاني وسلام السُّودان: نظرةٌ ثاقبةُّ!
كان هاني رسلان صادق الاهتمام بالعملية السِّلمية في السودان، وشديد الحِريص على تحقيق التوافق وبسط الاستقرار في البلاد، من جِهةٍ، وبما يجنب مصر من أي تهديدٍ على أمنها القومي، من جِهةٍ أخرى. ففي سياقِ دعوته، ونابهين آخرين من المثقفين المصريين، لضرورة انفتاح مصر على السُّودان، وأن تكون طرفاً في تبني مبادرات تدفع بالحوار بين الحكومة والقوى السياسية، والحركات المسلحة. فبنهاية الأسبوع الأول من أغسطس 2019، دخلت مصر على خط الخلافات التي نشبت بين الفرقاء السياسيين، فقامت القاهرة باستضافة وجمع قوى إعلان الحرية التغيير مع الجبهة الثورية السودانية بغرض تسهيل تسوية خلافات الطرفين حول الوثيقة الدستورية الانتقالية. وفي سياق هذا التوجه المصري الجديد، كان هاني يرى بأنه يجب أن تنهض مصر بدورها بقدرٍ كبيرٍ من الكياسةِ وأن تسعى لتجيير التقاطعات الإقليمية، لصالحِ خطةٍ أكثر توازُناً ورشادةً لمستقبل السودان واستقراره.
أختم هذه الكلمات في حقِ الراحلِ هاني رسلان بالنظرةِ الثاقبةِ له على الخلافِ المُحتدمِ بين طرفي قوي الحرية والتغيير (المدنية) والحركات (المسلحة)، ومآلاته السالبة على عملية الانتقال إن عجِزًّ الطرفان عن حسم الخلاف بينهما بالحوار، لا سيما حول العلاقة بين الوثيقة الدستورية واتفاق السلام المرتقب (حينذاك). أكدت الأحداث التي توالت بعد ذلك التاريخ صِدق حَدَسه، الذي تجلى لاحقاً في رسم الواقع السياسي الراهن الذي أنتجه انقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021، الذي غَيبَّ الوثيقة لصالحِ اتفاق جوبا للسلام، في أكتوبر 2020 . فمع أن هاني كان يُدرِكُ أن كلَّ طرفٍ يلعب لصالحه، ولكن على حدِ تعبيره ”برأيي أنه من الضرورى جداً بذلِ أكبرِ جُهدٍ لطمأنة قوى الهامش واستعادتها للعملية السياسية، فبدونهم ستتدهور الأمور، وتبدأ لعبة التراشق والتنابز، وأيضا سوف يساعد هذا على انفجار تحالف قوى الحرية والتغيير نفسه، وعلى فشل حكومة الانتقال التى تواجه تحديات خطرة وحرجة”.
كان في تصورِ هاني، أن يهدفُ نهجُ الجبهة الثورية إلى إعادة الصياغةِ وإقرارِ توازنٍ مقبولٍ بين مُكونات السُّودان، وتكريسِ نوعٍ من التفاهم الصلب واستعادة الثقة وتواصل الحوار، وأنَّ مُكوني قوى الحرية والتغيير المُتنازعين لا شكَّ يُدركانِ بعمقً أن لا مصلحةَ لأحدِهما فى اجهاض عملية الانتقال، فالثمن سيكون فادحاً والخسارة ستلحق بالجميع وليس بطرفً واحدٍ. فكان هاني بعيدِ النظرِ فيما يتعلق بالنص فى الوثيقة الدستورية على سيادة اتفاقية السلام المستقبلية، الذي لا يبدو معقولاً أو منطقياً في رأييه، وأنه من الأفضلِ أن تتم الإشارة إلى مرونةِ الوثيقةِ الدستوريةِ وقابِّليتها للتعديل إذا اقتضت الحاجة ذلك فيما يتصل لاحقاً بإنهاء الحرب وإقرار السلام فى كلِ ربوعِ السُّودانِ. فعلى حدِ تعبيره، فإنًّ “الوثيقة الدستورية سوف تفقد مسماها وأهميتها فى هذه الحالة وستضع كل مرحلة الانتقال فى مهب الريح، فقضية السلام محورية ولكنها ليست الوحيدة، فهناك قضايا أخرى محورية أيضا، وذاتِ أولويةٍ قُصوى، وهى تصفية جيوب النظام السابق وإنهاءِ دولة التمكين، وكذلك المحور الاقتصادى، وبدون هاتين القضيتين لن يكون هناك نظام جديد .. وستأكل الجبهة الثورية الهواء .. لأنها لن تستقل بمناطقها، بل ستواجِه حرباً أهليةً مع الُمكونات الأخرى فى ذات المناطق التى تدعى تمثيلها الآن!”(11 أغسطس 2019).
كان الراحَلُ هاني رسلان عاشقاً للسودان بحقٍ، لحَدِ اشفاقه على مستقبله الوجودي، ومُحِباً للسودانيين، دون وصاية أو وشاية، كما يظنُّ بعض المثقفين السودانيين! الرحمة والمغفرة له والعزاء الحار لأُسرته وأبنائه عمر ومعاذ وإياد، ولعائلته المُمتدة وعشيرته وأهله في قرية دندرة، محافظة قِنا، وإلى كل زملائه وأصدقائه في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية في كلِ شعبه، وإلى كُتابِ الرأي وأهل الصحافة في مصر، وفي بلده السودان.