لا يكاد أثنان من أهل السياسة أو الإعلام في السودان يتناجيان هذه الأيام إلا وكان موضوعهما هو مبادرة “نداء أهل السودان للتوافق الوطني” المعروفة اختصاراً بمبادرة الشيخ الطيب الجد، خليفة الشيخ العبيد ود بدر أو “ود ريّا” كما يُعرِّفه مريدوه. والحقيقة هي ليست مبادرة شخص واحد وإنما مبادرة لطيفٍ واسع من أهل الطرق الصوفية والإدارات الأهلية وقوى سياسية واجتماعية استجابوا جميعهم لنداء أم ضواً بان الذي أطلقه الخليفة الطيب الجد، لكن البعض من شانئيها يريد أن يحصرها في شخص الخليفة وحده ظناً منه أنه بذلك سوف يُحاصرها!!
باللغة السياسية المباشرة فإن فكرة المبادرة الجوهرية هي “نعم نستطيع”، أي أن الغالبية العظمى من أهل السودان، مهما تنوعت مشاربهم السياسية وتعددت الخلافات بينهم، بوسعهم إدارة حوار منتج بينهم، يُفضي إلى إتفاق حول القضايا الرئيسية في الفترة الإنتقالية، دون الحاجة إلى وسيط خارجي يلبس جلباب المُسهل أو المُخلص، وهذا عين ما شرع فيه أصحاب المبادرة اليوم، وهو عين ما تخشاه قوى دولية وإقليمية، قررت سلفاً أن تنفرد بإدارة الفترة الإنتقالية وتديرها بطريقتها وأسلوبها الخاصين، كما فعلت خلال الفترة الماضية، محاولة التخفي وراء مجموعة سياسية إقصائية محلية!!
القوى السياسية التي حاولت إثارة الغبار بكثافة خلال الفترة الماضية حول المبادرة، هي ذات القوى التي مارست “سواقة الخلا” على الشعب السوداني طوال السنوات الثلاث الماضية، وقد كانت المحصلة النهائية لتلك السنوات هي الفشل والعجز التامين والتراجع المريع في كل مناحي الحياة، وهي حينما تفعل ذلك إنما تحاول مداراة خوفها من أن يجرفها تيار الوعي داخل المجتمع السوداني الذي أخذ يتنامى ويدرك حقيقة المؤامرة على سلامة وطنه وأمن مواطنيه.
إن أكثر ما ميَّز مبادرة الشيخ الطيب الجد، هو توقيتها، فهي قطعاً ليست الأولى التي نادت بأن يتولى أهل السودان شأنهم بأنفسهم، وليست الأولى التي قدمت تصورات إجمالية لخارطة الطريق نحو الحلول التوافقية ودعت القوى السياسية والمجتمعية للانخراط في حوار شامل لإنتاج حلول مرضية للجميع، فقد سبقتها في ذلك مبادرات متعددة ولكنها – المبادرات – لم تحرز تقدماً يُذكر لأسباب ليس هنا محل الخوض في تفاصيلها، أما مبادرة الشيخ الطيب الجد فقد أتت عقب واقعتين مهمتين، الأولى كونها أتت بعد أن أعلنت الآلية الثلاثية المكونة من الإتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد والأمم المتحدة تجميد خطوات الحوار الذي كانت قد بدأته في فندق السلام روتانا، وما صاحب خطوة التجميد من فضيحة تزوير التوقيعات التي قام بها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، أما الثانية فهي إعلان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة في الرابع من يوليو الماضي انسحاب المكون العسكري من الحوار السياسي، وقوله أن الجيش سيُخلي الساحة للقوى المدنية للتحاور والتوافق على كيفية إدارة ما تبقى من الفترة الإنتقالية.
إعلان رئيس مجلس السيادة إنسحاب الجيش من ساحة الفعل السياسي المباشر، أربك حسابات مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير والتي كانت قد أسست مشروعية حكمها على وثيقة دستورية هي أحد طرفيها مع الجيش، وقد سبق لهذه المجموعة أن أعلنت على رؤوس الأشهاد انسحابها من الشراكة مع العسكريين، وبإعلان البرهان في الرابع من يوليو إنسحاب الجيش تمّ دفن الوثيقة الدستورية دون أن يصلي عليها أحد.
تثير مجموعة المجلس المركزي الغبار حول الحضور الذي شكلته شخصيات من التيار الإسلامي العريض ضمن الفِرق العاملة في المبادرة، وتقول إن هؤلاء هم واجهات للنظام السابق، وكأن منسوبي النظام السابق كائنات فضائية لا تمت بصلة للسودان ولا يحق لهم المشاركة في صناعة مستقبله. ولا بأس هنا من أن نُذكّر الناس أن اتفاقاً غير مكتوب، جرى بين قيادات من “النظام السابق” والمجموعة العسكرية التي استولت على السلطة في أبريل ٢٠١٩م، وهو الإتفاق الذي سبق وأن أعلنه نائب رئيس مجلس السيادة في مقابلة تلفزيونية مشهورة، وقضى بألاّ يعارض أنصار نظام الإنقاذ السلطة الإنتقالية ولا يشاركوا في مؤسساتها، على أن تلتزم هذه السلطة بفترة إنتقالية تديرها حكومة غير حزبية ويكون الإنتقال محدد المدة والأهداف، ينتهي أجله بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة يشارك فيها الجميع، ويختار فيها الشعب مَن يحكمه، لكن الواقع العملي الذي أتى عقب ذلك جاء مخالفاً لما تم الإتفاق عليه، ولكل سوابق فترات الإنتقال في السودان، فقد سيطرت قوى سياسية على حكومة الفترة الإنتقالية وبدا وكأنها تريد فترة إنتقالية بلا نهاية معلومة وبلا أجندة محددة، وشرعت – بدلاً من ذلك – في التأسيس لنظام أفقر البلاد والعباد، وسلب سيادتها وقرارها الوطني، وتبنى قيماً لا تمت بصِلة إلى موروث المجتمع السوداني وقيمه الحاكمة، وأفضى ذلك – ضمن أمور أخرى – إلى أن تنحدر البلاد من حافة الهاوية باتجاه عمقها، وأصبح منسوبو النظام السابق في حِلٍ من أي التزام!!
وحين تصدت القوات المسلحة إلى معالجة الأوضاع المنحرفة في الفترة الإنتقالية كان من الطبيعي أن يناصر التيار الإسلامي العريض وأنصار النظام السابق هذا الجهد والتوجه، وحين انطلق نداء أم ضواًبان ومبادرة أهل السودان للتوافق الوطني كان من الطبيعي، بل الواجب، أن يؤيدها أنصار النظام السابق، خاصة وأنها هدفت لإقامة مائدة مستديرة لحوار وطني لا يستثني أحداً، يقرر المشاركون فيه أولويات الإنتقال ومدة الفترة الإنتقالية. وقد استجاب لهذا النداء طيف واسع من أصحاب المبادرات السابقة ومن القوى السياسية والمدنية والأهلية حتى بدا وكأن المبادرة ستلقف ما كان يأفكه فولكر ومجموعة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.
بغض النظر عن النتيجة التي سينتهي إليها حوار المائدة المستديرة، اليوم وغداً، فإن من المؤكد أن الأوضاع ما بعده لن تكون كما كانت قبله، ولن تسمح القطاعات الواسعة من المجتمع السوداني التي عمدت مجموعة المجلس المركزي لتهميشها خلال فترة حكمها، بأن يعود ذلك الوضع الذي انجلى في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١م. وستفرض قوى سياسية واجتماعية حضورها على الساحة العامة ولن يستطيع كائناً من كان أن يتجاهل ذلك، ولعل هذا هو ما تدركه بعثة الأمم المتحدة وما يشكل مبعث خوف مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير.