إبراهيم الصديق
(1)
النظر إلى مفاوضات جدة من خلال البيان الصادر عنها فيه إختزال شديد للمشهد ، ومحاولة تجيير النتائج لكل طرف ، والواقع أن نهاية المفاوضات تمثل مرحلة من مراحل الشد والجذب والمناورات ما بين الميدان وقاعات التفاوض ومؤثرات أخرى..
ومن سوء التقدير عدم ربط بداية المفاوضات بما جرى في دارفور ، والهجمات المتكررة على المدرعات والقيادة وسلاح الإشارة ليلة بدء المفاوضات ، لقد كان الهدف إخضاع مفاوض الجيش السودانى لضغوط شديدة وإصدار فرقعات قوية وصدمات لإحداث إختراق ، وتقديم تنازلات لطرف دون آخر ، ولذلك لابد من إستحضار ذلك مع قراءة التفاصيل.. إن الإعداد لهجوم واسع على دارفور وحشد مرتزقة من دول افريقية وعربية في الخرطوم ، وتوفير إمداد جديد وأسلحة جديدة لم يحدث بين ليلة وضحاها ، بل استغرق تجهيز واعداد وتوفير تمويل بلا سقف ..
ونقطة ثانية مهمة ، وهى مواقف الأطراف الخفية ، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية واطراف اخري ساعية لإقفال هذا الملف مع تداعيات الحروب في اوكرانيا وفلسطين ومتغيرات اخرى ، وغادر وفدها منذ 4 نوفمبر بعد أن أستعصى عليه الحصول على مراده ، وقوى اخرى لإحداث فجوة لتوفير مدخل لقوى سياسية ساعية للسلطة ، ومنظمات انسانية ترى في استمرار الحرب كارثة إنسانية ،
ونقطة ثالثة ، هي بناء جبهة سياسية تشكل حاضنة جديدة ، تسارعت خطوات تشكيلها في اديس ابابا متزامنة مع تهيئة المسرح وبدأت سلسلة إتصالات ورسائل سياسية ، مع أن الوجوه ذاتها والخطاب ذاته ، ولكن لكل حال لبوس..
إذن لم تكن المفاوضات مجرد مشهد وصول اطراف للفندق ، وانما سلسلة عمليات وخطوات واسعة ومنظمة..
وقد تداخلت كل ذلك في قاعات التفاوض بجدة..
(2)
البيان الصادر في نهاية المفاوضات جاء معبرا عن كل ذلك:
- الجيش مصر على تنفيذ إتفاق 11 مايو ، وقد تم إستحضار البند..
- المليشيا ساعية لتحميل طرف آخر إشعال الحريق ، ومن طرف خفي تجد بعض القوى الإقليمية اهدافها في القضاء على طرف سياسي (محرض على الحرب) ..
- مساعى قوى الحرية والتغيير لتحويل المفاوضات من قضية انسانية إلى مسار سياسي واطراف سياسية..والدخول كطرف فى الحل..
والهدف الأساسي ، هو المسار الإنساني ، جاء كإلتزامات فردية لا أكثر ، بينما غض البيان الطرف عن جرائم كثيرة حدثت طيلة أيام المفاوضات ، استهدفت حياة المواطنين ومواردهم وممتلكاتهم ومنشآت عامة ، وممتلكات عامة..
(3)
هل كسبت المليشيا ، نعم ولا ، نعم لو أن الأمر صدر ببيان من الأطراف كافة وشهود ، ثم ترتبت عليه إلتزامات ، ونعم لإن طرفا سياسيا داعما للمليشيا يبحث عن فكاك تهمة تلاحقه بإثارة الحرب ، ولديه محاولات لإلقاء ثقل الجريمة على طرف آخر ، و لا ، لإن الميدان يكذب هذه الوقائع والشواهد ، فكل يوم هناك متغيرات على مسرح العمليات وضغط أكثر وإصرار على إخضاع المليشيا ، ولا ، لإن الحاضنة الشعبية للقوات المسلحة متماسكة والراى العام السودانى مدرك لحجم المؤامرات على الوطن ، ولا ، لإن محاولة شق الصف الوطنى عصية على الإختراق ، لإن المستهدفين ببعض فقرات البيان يعرفون انه جزء من أمنيات (تفتيت وحدة الصف الوطنى) وخلق تنازع مما يسهل الإجهاز على الوطن واهله ، كما أنهم يعرفون أنهم يدافعون عن وطن وكرامة امة وحقوق مواطن… ولذلك بحسابات الوقائع ، فإن كل ما حدث ان واحدة من المخططات برزت للعيان ، وهي (عزل القوات المسلحة عن مسانديها في معركتها الوطنية)..
(4)
والمشهد اليوم مختلف ، وستحدث متغيرات اخري ، ومع انفتاح ميلشيا الدعم السريع في ولايات دارفور ، وبعض مناطق كردفان وتمددها على مساحات واسعة ، فإن الكلفة العملياتية ستزداد ، من حيث العتاد والعدة والرجال والقدرة على الحفاظ على الأرض وادارة المؤسسات ، وهو ما ظهر جليا الآن في الخرطوم من خلال الدفع بمرتزقة جدد من دولة جنوب السودان ، ومرتزقة من دول عربية وافريقية ، وترك قيادة الهجمات في الخرطوم لقيادات من الصف الثالث وتوالي القصف العشوائي ، بينما تركيز الجيش على ضربات إستباقية بالطيران والمسيرات والعمليات الخاصة ، وعزل مناطق الخرطوم ، بما يؤدي لزعزعة الارتكازات والتمهيد لتنظيف الخرطوم ، وبهذه الحسابات فإن المشهد متغير ، ولا يمكن القول ان هناك تراجع أو فقدان ميزة..
صحيح ان البيان احدث ارباكا ومع غياب توضيحات وفد الجيش السودانى ، فإنه ربما يشكل ارضية للاستناد عليها في مناورات مخادعة ، و يمكن تبديد ذلك من خلال تصريح صحفي يكشف الخبايا والخفايا وما أكثر..
د.ابراهيم الصديق على