
1
يقول خصوم الإسلاميين إن السبب وراء رفضهم “الهدنة” هو رغبتهم في العودة إلى السلطة، وإنه ليس لهم طريق للعودة إليها إلا طريق الحرب، ولذا هم مع استمرارها. أو كما قال بكري الجاك في رده على الأستاذ ضياء الدين بلال أمس.
2
لا أعرف كيف يمكن للعاقل أن يعتقد أن خصومة السياسيين يقذفون بانفسهم في اتون حرب يمكن أن تفنيهم، ويقضون على قوتهم الصلبة لكي يعودوا إلى السلطة بلا قوة تحرسهم أو تدافع عنهم أو تصدّ بهم إلى السلطة. الفكرة الذكية أن يحتفظ الإسلاميون بقوتهم ويتركوا الجيش والدعم السريع يستمران في حربهما، حتى إذا ما فرغا منها منهكين التهمتهم جيوش الحركة الإسلامية وكتائبها! أليس ذلك هو المنطق البسيط؟ ولكنها الكوزفوبيا التي تعمي الأبصار والقلوب.
3
ماذا سيخسر الإسلاميون إذا وُقعت هدنة؟ سينسحب المستنفرون الإسلاميون من ساحات القتال بعد وضع السلاح، ويذهب كلٌّ إلى غايته وأعماله، ومن بينهم طلاب ومهندسون ودكاترة، ويتركون الدولة تصارع معركتها السياسية الداخلية والخارجية بعيدًا عنهم. وبالأصل كان الإسلاميون قد أعلنوا باكرًا أنهم لا يرغبون في العودة إلى السلطة إلا عن طريق الانتخابات، وهذا ما تقرر في آخر مؤتمر شورى عُقد بعد التغيير. وأعلنوا أكثر من مرة أنهم لا يرغبون في المشاركة في الفترة الانتقالية بأي شكل من الأشكال.
4
لنفترض أن الحكومة الحالية وافقت على الهدنة وخرج الإسلاميون من ساحات المعركة، وجاءت حكومة مدنية، وافترضنا أن القوى الغربية – بقدرة قادر – استطاعت تنصيب عميلها حمدوك رئيسًا للوزراء… ماذا سيفعل هذا التعيس مع الإسلاميين؟
إما أن يجتثّهم وينتهي منهم هو والقوى الغربية وراءه، ليحقق نبوة “رسول الرسالة الثانية” ويقتلعهم من أرض السودان اقتلاعًا “ويُريحنا منهم”، أو أن يقبل بهم كتيار سياسي متغلغل في النسيج الاجتماعي للسودان، لا سبيل لاقتلاعه.
وبحسب منطق عملاء الإمارات، فالجيش “كيزان” والأمن “كيزان”، وهذا يعني أنه لو قرر السيد حمدوك مواجهة الكيزان فإنه سيواجه الجيش والأمن، وبذا سينشئ حربًا أخرى، وهو الذي ملأ الدنيا عويلاً (لا للحرب)، وهو بلا حيلة، لا بيده بندقية الدعم السريع لأن أسياده في الغرب لن يقبلوا بمليشيا ارتكبت إبادة في سدة الحكم ، ولا بيدهم سوط الثورة وحناجرها. إذا كانت هذه هي خيارات خصوم الإسلاميين، فما هي خيارات الإسلاميين؟
5
إذا تركتهم السلطة الانتقالية – التي ستتشكل بعيدًا عنهم – يعملون في الفضاء السياسي بلا إرهاب ولا اعتداءات ولا تصفيات، فإنهم غالبًا سيدخلون الملعب لحشد الجماهير، وسيتجهون للعمل الشعبي والإنساني، وترميم تنظيمهم استعدادًا لجولة الانتخابات ولو بعد عشرة أعوام. سيتركون الصراع على السلطة وحملها الثقيل لخصومهم في ظروف بالغة الدقة والحساسية في مرحلة ما بعد الحرب، وكلهم بلا خبرات لإدارة “زير”، وسينتهي بهم المطاف كما انتهى بعويش أحزاب ديسمبر التي ذهبت ريحها بأقصر مما خططوا وتمنّوا…وبذا ستكون الهدنه مكسبا مضافا لمكاسبهم في الحرب ( اذا كانت للحرب مع الجنجويد اى مكسب.
6
أما إذا قرر خصومهم تصفية حساباتهم معهم بقوة السلطة ودعم الخارج، ففي الغالب أنهم لن يستسلموا للمذابح، وسيدافعون عن أنفسهم بالطريقة التي يعرفونها، علمًا بأنهم هم الأكثر خبرة في القتال، والأكثر معرفة بشؤون الدولة، والأقرب الآن للشعب لأنهم يقاتلون اليوم معه ويقدمون أنضر شبابهم للاستشهاد في ساحات معارك الكرامة. قوةٌ مثل هذه من يصارعها فهو إما مجنون أو غبي.
7
إن السؤال المتعلق بموقف الإسلاميين من الهدنة لا ينفصل عن سؤال أكبر : من يملك القدرة على تحمّل استحقاقات ما بعد الحرب؟ فالهُدن ليست مجرد توقف لإطلاق النار، بل هي انتقال إلى مرحلة جديدة سيكون على الجميع فيها أن يكشف أوراقه؛ من يملك قاعدة شعبية حقيقية؟ من يملك القدرة على الصمود تنظيميًا؟ من يملك مشروع دولة، لا مشروع سلطة؟
وكلما بدا أن الهدنة تُدخل البلاد في تسوية تُقصي طرفًا كبيرًا من المشهد السياسي والاجتماعي، زادت المخاوف من أن تنتج حالة خطيرة سلام فوق الورق، وحرب تحت الرماد.
8
الحقيقة التي يغفل عنها دعاة الإقصاء هي أن الإسلاميين — مهما اختلف الناس معهم — يمثلون جزءًا من التركيبة السودانية: الاجتماعية والسياسية والتنظيمية. لا يمكن للحرب أن تقتلعهم، ولا يمكن لقرارات فوقية أن تمحوهم، ولا يمكن لسلطة انتقالية هشة أن تدفعهم خارج التاريخ.فالقوى السياسية لا تُقاس بوجودها في الحكم فحسب، بل بوجودها في المجتمع، وفي مؤسسات الدولة،وفي مقدرتها التنظيمية، وفي امتدادها الشعبي. من يجهل ذلك فعليه مراجعة وعيه السياسى ومعلوماته.
9
من يتوهم أن الحرب طريق لإقصاء الإسلاميين،ومن يظن أن الهدنة تعني نهايتهم، عليه أن يدرك ان أي مشروع يُبنى على الكراهية والإقصاء سيولد حربًا جديدة، وربما وطنًا ممزقًا لا يربح فيه أحد.فالهدنة ليست معركة الإسلاميين وحدهم، بل معركة العقل السياسي السوداني كله؛ هل يريد سلامًا حقيقيًا… أم مجرد هدنة لحرب أخرى؟
10
موقف الإسلاميين الرافض للهدنة – في المشهد السوداني اليوم – الذي تطرحه أطراف دولية وإقليمية يستند إلى عدة مبررات كما جاء في تصريحاتهم وبياناتهم:
أولًا: الخشية من تهديد وحدة البلاد، إذ يرى الإسلاميون أن وقف إطلاق النار دون معالجة جذرية لمليشيا الدعم السريع سيؤدي إلى:
استمرار تفكك الدولة،
بقاء المليشيا كقوة موازية،
إنتاج سلطات محلية بحكم الأمر الواقع،
وإعطاء شرعية سياسية ومجتمعية لكيان مسلح ارتُكبت باسمه فظائع كبرى في دارفور والخرطوم.
ثانيًا : الخوف من إعادة إدماج المليشيا في المشهد السياسي؛ إذ يعتبرون أن أي هدنة تُفرض قبل تفكيك الدعم السريع ستسمح بعودته:
إلى الحياة السياسية،
إلى النفوذ الاقتصادي عبر شركات الذهب والتجارة،
إلى الوجود العسكري تحت مسمى “قوة أمن داخلي”.
ويصف الإسلاميون هذا السيناريو بأنه محاولة لإعادة المليشيا إلى المشهد من بوابة التسويات الدولية
ثالثًا: اعتبار الدعم السريع أداة خارجية؛ ووفق خطابهم: “المليشيا مخلب قط للقوى الخارجية، تُستخدم لتمرير أجندات إقليمية ودولية تهدد سيادة السودان واستقلال قراره.”
ويرون أن أي هدنة تُبقي على المليشيا، أو تضمن لها وضعًا خاصًا داخل منظومة الأمن، تُعدّ خطرًا استراتيجيًا يعادل تقسيم البلاد فعليًا بين قوتين سياسيتين وعسكريتين.
11
والحقيقة أن هذه المبررات التي تستند عليها الحركة الإسلامية هي ذات المبررات نفسها التي إذاعتها الدولة وضمنتها في خارطة الطريق، وهي كل ما يعتقده الشعب السوداني وأي وطني رافض لعودة المليشيا إلى الحياة السياسية والعسكرية. ولذلك فإن خطاب الإسلاميين جاذب لأنه متماهٍ مع رغبات الشعب ومواقف الدولة
12
في النهاية، لا يتعلق الجدل حول الهدنة بالإسلاميين وحدهم، بل بمستقبل السودان نفسه: هل يُراد لهذا البلد أن يعود دولة موحدة ذات جيش واحد ومؤسسات واحدة؟ أم يُراد له أن يصبح ساحة صفقات دولية ومليشيات متقاسمة للسلطة؟
إن من يطلب هدنة تُبقي على المليشيا إنما يطلب – من حيث لا يدري – هدنة تُبقي على أصل الحرب، وتعيد إنتاج أسبابها، وتمهد لجولة جديدة من الدم.
أما السلام الحقيقي، فهو سلامٌ لا يقبل شراكة السلاح، ولا يقبل بقاء دولة داخل دولة، ولا يساوم في وحدة السودان وكرامة أهله.
ومن لا يفهم ذلك… سيكتشف قريبًا أن الهدنة ليست دائمًا طريق الخلاص، بل قد تكون الطريق الأقصر إلى حربٍ أخرى، وإلى وطنٍ آخر لا يشبه هذا الوطن.




