✍️ العبيد أحمد مروح
(1)
أعلن البيت الأبيض أن المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، سيتوجه إلى الخرطوم هذا الأسبوع “لدعم العملية الإنتقالية”. وقد جاء هذا الإعلان في ضوء إفادة البيت الأبيض أن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، قد أجرى مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك على خلفية التطورات الحادثة في البلاد في أعقاب المحاولة الإنقلابية الفاشلة، حيث أكد المستشار الأمريكي دعم بلاده لرئيس الوزراء وللفترة الانتقالية التي يقودها المدنيون .
(2)
وقد حق للإدارة الأمريكية أن تهرع لإعادة ضبط الأمور في السودان في ضوء الأداء المرتبك لرجالها في الحكم والذين استثمرت فيهم لعقود من الزمن، إذ بلغ تردي الأوضاع العامة في السودان حدا لا يطاق، وبقيت شعارات السلام والحرية والعدالة التي طالب بها الناس حبرا على ورق في أغلب جوانبها.
لقد بقيت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ العام 1990 وحتى 2018 أكبر مستثمر في جهود إسقاط النظام في الخرطوم؛ وقد وظفت في استثمارها هذا أموالا وجهودا ووجوها متعددة شملت الحصار الإقتصادي وتوظيف معارضين محليين ودولا إقليمية على الصعيدين العربي والإفريقي، واستخدمت كل أشكال الدبلوماسية ثنائية كانت أو متعددة الأطراف أو عبر المنظمات الدولية وغير الحكومية.
وما من شك أن الإدارات المتعاقبة استفادت في ذلك من السياقات الدولية المتعاقبة خلال هذه الحقبة، إبتداء من انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي عام 1989 وبداية تشكل النظام الدولي أحادي القطبية، مروراً بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما أعقبها مما يعرف بالحرب الدولية على الإرهاب، وانتهاء بأحداث الربيع العربي في 2011 وما أعقبه من ثورات مضادة.
(3)
ويلاحظ المرء أنه ولسبعة وثلاثين عاماً، ظلت العلاقة بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من لدن الرئيس رونالد ريغان وحتى زمان الرئيس بايدن هذا، وبين الأنظمة السودانية المتعاقبة من لدن الرئيس جعفر نميري وحتى زمان الرئيسين البرهان وحمدوك، غير مستقرة على حال، وتتسم في كل مراحلها بالمحاذرة والشك، وبما يسمى بسياسة العصا والجذرة؛ لكن الثابت الوحيد في تلك السياسة من قبل الجانب الأمريكي هو ممارسة كل أشكال الضغوط لتغيير الهوية الغالبة عند السودانيين وإبعاد الإسلام من أن يكون مسيطراً وموجهاً لحركة الدولة والمجتمع !
ولعل البعض من المتابعين يذكر أنه بعد عام واحد من إعلان الرئيس جعفر نميري تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بدأ الضغط الأمريكي على السودان فتوقفت مؤسسات التمويل الدولية عن منح القروض التنموية للسودان؛ ومخطئ من يظن أن وقف القروض التنموية من مؤسسات التمويل الدولية له صلة بموقف “أخلاقي” أمريكي يتصل بالأنظمة الشمولية، فقد استمر ذلك خلال فترة الديمقراطية الثالثة التي ترأس حكوماتها الصادق المهدي (1986 – 1989)، وبطبيعة الحال أيام حكم الإنقاذ الوطني؛ وحين نتأمل في تلك الحقب سنجد أن الخيط الوحيد الناظم بين أواخر عهد نميري وعهود كل من سوار الذهب والصادق المهدي وعمر البشير هو الهوية الإسلامية للسودان ممثلة في “قوانين الشريعة” التي سنها النميري ورفض كل من سوار الذهب والصادق المهدي المساس بها وطور تشريعاتها عهد عمر البشير، لتشمل كل مناحي الحياة.
(4)
ومنذ العام 1992م اعتبرت إدارة الرئيس جورج بوش الأب أن نظام الحكم في السودان ينتمي لفصيلة “الأنظمة المارقة” ولأول مرة يرى كبار المنظرين الأمريكيين مثل صامويل هانتنغتون أن بلداً أفريقياً مهملاً اسمه السودان يمكن أن يلعب دوراً في إحياء جذوة المشاعر المناهضة للحضارة الغربية بتبنيه للإسلام، وربما استغرب الكثيرون وقتها أن تأتي سيرة السودان في مقال هانتنغتون الشهير “الصدام بين الحضارات” الذي نشرته دورية “فورن أفيرز” في صيف 1993م، والسبب الظاهر لذلك الاهتمام هو أن السودان أصبح مقراً للمؤتمر “الشعبي العربي والإسلامي” وموئلاُ لقادة الحركات القومية والإسلامية التي تجمعها معاداة “الإمبريالية” وهي حركات تعتبرها الولايات المتحدة حركات إرهابية.
أخذ التضييق الأمريكي على السودان يأخذ أشكالاً متعددة منذ فجر الانقاذ، لكنه تصاعد في العام 1993 بعد أن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب وأخذت ترتب على ذلك عقوبات إقتصادية وسياسية بين عام وآخر، تارة بتشريعات من الكونغرس وتارة أخرى بأوامر تنفيذية من الرئيس. وبموازاة ذلك انخرطت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في أشكال متعددة من الضغوط لإضعاف النظام في الخرطوم بهدف إسقاطه، فدعمت المعارضة المسلحة وحرضت دول الجوار الأفريقي علنا لشن حرب على السودان، كما كانت الخرطوم هدفاً لقصف صاروخي مباشر في اغسطس 1998 بأوامر من الرئيس كلينتون، وتوجت إدارة الرئيس بوش الإبن جهد والده ومَن خلفوه بسن قانون سلام السودان بواسطة الكونغرس وتوقيعه في العام 2002.
وحين اندلعت الحرب الأهلية في دارفور في العام 2003 متزامنة مع جهود الإدارة الأمريكية وقتها للتوسط في إنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان، حاولت الإدارة الإمساك بملفي الحربين الأهليتين، وبالتوازي مع جهودها تلك شددت الإدارة حصارها الإقتصادي في سياق خططها لإضعاف النظام ومن ثم اسقاطه، و قدر خبراء كلفة ذلك الحصار على اقتصاد البلاد بنحو 350 مليار دولار، والنتيجة أن تلك الضغوط المتعاضدة نجحت في إسقاط النظام في أبريل 2019 بعد نجاحها في تنسيق جهود محلية وإقليمية ظل أصحابها يكنون عداء ظاهراً ومستتراً لتوجهات النظام الإسلامية.
(5)
لم أجد قولاً ينطبق على حال العلاقة بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من بيت الشعر المنسوب للإمام الشافعي:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * * ولكن عين السخط تبدي المساويا
إذ لم يشفع لنظام الإنقاذ حرصه المبكر على إيجاد تسوية نهائية للحرب الأهلية في جنوب السودان، ولا وصوله لتلك التسوية التي أدت في نهاية المطاف لفصل جنوب السودان وبرعاية أمريكية؛ ولم يشفع له انخراطه المبكر في الحرب الدولية على الإرهاب وتقديمه معلومات قالت عنها الأجهزة الأمريكية المختصة أنها “لا تقدر بثمن”، ولم يشفع له تجاوبه مع الجهود الأمريكية لتسوية الصراع في دارفور، ولم يشفع له حرصه المستمر على عدم التصادم مع المصالح الأمريكية في المنطقة، واتخاذه عشرات المواقف في هذا الصدد، فقد ظلت الإدارات الأمريكية تنظر إلى كل ذلك بالعين التي ” تبدي المساويا”.
في مقابل عين السخط والشك التي كانت الإدارات الأمريكية تبديها على سلوك ومواقف حكم الإنقاذ، أضحى “الكفيل الأمريكي” لنظام الحكم الإنتقالي الحالي يغمض عين السخط عن كل خرق أو تجاوز لوثيقة الحقوق التي تضمنتها الوثيقة الدستورية، بل كل تجاوز للوثيقة نفسها؛ فيغض الطرف حين يتم اعتقال السياسيين المعارضين لأكثر من عام دون توجيه تهم محددة أو دون تقديمهم للمحاكمة، ويصمت عن مصادرة الأملاك الخاصة دون أحكام قضائية، ويتجاهل إغلاق الدور الصحفية وعشرات المواقع الإلكترونية، ويصمت حين يتم التضييق على الصحفيين والناشطين وتوجيه التهم الجزافية إليهم، و”يعمل رايح” حين تستولي السلطة التنفيذية على سلطتي التشريع والقضاء فتضعهما في جيبها أو في أدراجها وتسرح منفردة بالتشريع، وتعطل تعيين المجلس التشريعي وتعطل قيام المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للنيابة، وقيام لجنة استئناف قرارات لجنة العزل السياسي المسماة لجنة إزالة التمكين؛ فتتعطل بذلك منظومة العدالة كلها. ومع هذا كله يتحدث الكفيل الأمريكي عن التحول الديمقراطي الذي يقوده المدنيون !!
(6)
لقد كان من الطبيعي أن تحرص الولايات المتحدة الأمريكية – باعتبارها المستثمر الأكبر في إسقاط النظام السابق – على جني ثمار استثمارها، ولهذا فقد تكفلت أن تكون هي الراعي الرسمي و”الكفيل الدولي” للفترة الإنتقالية، لكن على طريقتها الخاصة، إذ مارست كل أشكال الضغط والابتزاز لكي تنقض عرى المواقف التي كان قد وقفها نظام الرئيس البشير بما لا يتسق والرغبة الأمريكية، فكان التطبيع مع دولة الكيان الغاصب ثمناً لقرار رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، وكان استحلاب موارد السودان الشحيحة ثمناً لدفع تعويضات ضحايا لم يكن السودان طرفاً في ما حاق بهم، وكان تعويم قيمة العملة الوطنية ثمناً ل “إعادة السودان لمجتمع التنمية الدولي” !!
كما حرصت أمريكا – عبر أذرعها المتعددة – على الإتيان برجالها في قيادة الفترة الإنتقالية – مسنودين بنسائها – ووضعتهم في المواقع الحساسة، وعهدت إليهم بأن يقتفوا أثر الإنقاذ فيزيلوا كل ما له صلة بالتشريعات والقوانين ذات الصبغة الإسلامية، ويستبدلوه بقوانين تتماهي مع أكثر القوانين الغربية تطرفاً ومعاداة للأديان؛ ولهذا نجد وزير العدل في حكومة الفترة الانتقالية، ومساعدته الأمريكية يتباهون بأن الوزارة أنجزت (136) قانوناً خلال عامين فقط، منها 13 قانوناُ جديداُ و12 قانوناً تم تعديلها منفردة و 10 قوانين تم تعديل مواد فيها بواسطة قانون التعديلات المتنوعة وألغت الوزارة خمسة قوانين وأعدت 96 مشروع قانون جديد.
كل هذا يحدث والكفيل الأمريكي ينظر له بعين الرضا، ولو سألت المستشارة (جيهان) كيف تقارن عدد القوانين التي أنجزتها مع وزير العدل السوداني في مقابل تلك التي يجيزها الكونغرس في الدورة التشريعية الواحدة، وكم هو عدد الأوامر التنفيذية التي يصدرها الرؤساء الأمريكيين خلال فترة الأربع سنوات، لعجزت عن الإتيان بإجابة مقنعة. ولو سألت السيد رئيس الوزراء كيف يمارس مجلسه سلطة التشريع في غياب الجسم التشريعي الذي كان من المفترض أن يتم تعيين أعضائه وفق هوى شركاء المرحلة الإنتقالية، ومع هذا يعتبر نفسه يؤسس لتحول ديمقراطي في بلاده، لاكتفى بابتسامة عريضة تنم عن رضى الكفيل الأمريكي عما يجري التأسيس له !!
(7)
في السودان ، كما في العراق وأفغانستان، لا تبحث الولايات المتحدة الأمريكية عن تأسيس لديمقراطية مستدامة، وإنما تبحث عن مصالح دائمة، وتعتقد – خطأ – أن مصالحها لا تتأتى إلا بتغيير هوية البلدان وفرض أنظمة موالية لها بشكل مطلق، ولعل السيد جيفري فيلتمان القادم إلينا يدرك أن مقولة “القيادة المدنية للفترة الإنتقالية” التي طالما رددها المسؤولون الأمريكيون هي في أحسن الأحوال قولة حق أريد بها باطل؛ فالمدنيون الذين عجزوا عن إصلاح المؤسسات المدنية، بما فيها أحزابهم السياسية، ومرغوا أنف العدالة والحرية بالتراب، هم أعجز عن إصلاح المؤسسة العسكرية، فضلاً عن كون الوثيقة الدستورية التي تأسست عليها الشراكة العرجاء القائمة الآن، تعطي “المكون العسكري” السلطة الحصرية في إصلاح المؤسسة العسكرية.
ولعله من المصلحة – والحال كذلك – أن يطلب الضيف الأمريكي من المجتمع الدبلوماسي الغربي في الخرطوم، الذي سيلتقيه قطعاً، بمن في ذلك ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، ممارسة النصح جهراُ للمكون المدني في الشراكة القائمة، أن يقدموا النموذج في الإصلاح المؤسسي والحوكمة الشاملة لما هو تحت ولايتهم المباشرة، إن كانوا فعلا يدعمون شعب السودان والتحول الديمقراطي في البلاد.
ومع كل هذا، على السيد رئيس الوزراء أن يتذكر أن أحمد الجلبي وحامد كرزاي قد حملوا لبلادهم ذات الأجندة التي حملها هو ورفعوا ذات الشعارات التي يرفعها هو ومستشاروه اليوم، وأن المحاولات الأمريكية لزراعة هوية ديمقراطية جديدة في العراق وأفغانستان قد انتهت إلى التسلق فراراً على أجنحة الطائرات، فلا يجدر به أن يتمادى في محاولات إقناعنا أن الولايات المتحدة تغلب المبادئ على المصالح في سياستها الخارجية. وعليه أن يقدم مصلحة وطنه على ما سواها، ما وجد إلى ذلك سبيلاً
• كاتب صحفي وسفير سابق