قناة الزرقاء

قناة الزرقاء
على شط النيل / مكي المغربي

صنع في وادي النيل!

مكي المغربي

هنالك تحد تاريخي أمام شعبي وادي النيل، تهديد وجودي للدولة السودانية، وتهديد إقتصادي أمام مصر، هنالك من ينتظر تعويم الدولار وموجة الغلاء لتحويلها إلى اضطراب سياسي وأمني، والغريب ليس التهديد هنا وهناك، إنما الموقف العربي، ولكم أن تتسائلوا عن هذه الدولة أو تلك، هل ترغب في تجاوز مصر لأزمتها أم تنتظرها بفارغ الصبر؟ وهل هنالك رغبة في خروج السودان من التهديد الوجودي، أم العكس هو الصحيح بكل أسف، هنالك من يزيد النار حطبا.
دعونا نقلب هذه الصفحة المؤلمة، ونفكر في كيفية تجاوز التحديات نحن كمصريين وسودانيين.
التهديد مزدوج للبلدين، والمخطط واضح، لضمان الإضرار بمصر لا بد من إعطاب الدولة في السودان وخنق مصر بملفات الأمن والمياه فالسودان “خارج الخدمة” يحقق لهم هذا الغرض، ولضمان تطاول أزمة السودان يجب إخراج مصر من معادلة الحلول في السودان وجعلها “زيها وزي أي دولة!”، ويجب منح الدور الأكبر لأديس أببا ونيروبي وكمبالا فالتهديد لوادي النيل يشمل الأمن والإقتصاد، ومياه النيل، والسيطرة على السواحل … تهديد فظيع وخطير، طمع في الموارد، وضرب للإستقرار، الإطاحة بريادة مصر في المنطقة وحقوقها التاريخية، وضع اليد على ثروات السودان الطبيعية وتمزيق هويته.
لا بد من وعي شعبي وادي النيل بهذا التهديد وهذا الحجم من التآمر.
لا بد أن يكون للسودان دور في إنهاء أزمة مصر الإقتصادية، كما يوجد دور لمصر في إنهاء أزمة السودان الأمنية. وها هنا السؤال، كيف يكون للسودان دورا؟ وهو ذاته في حالة تهديد وجودي؟ الإجابة، هنالك القدرات الانتاجية الكبيرة فالأغلب من مساحات السودان آمنه والأمور ماضية للأمام في البقية، والجزء الأهم من خطة إحلال الأمن هو “إعادة التشغيل” واللحاق بالموسم الشتوي ومضاعفة الرقعة الزراعية، تنسيق الصادرات والصناعات، إتخاذ قرارات طارئة في هذا الصدد.
لا بد من ربط (إقتصادي إداري) عاجل وذكي بين مصر والسودان، ولا أتحدث هنا عن الحريات الأربعة والتخطيط بعيد المدى، أنا أفكر في مشاريع ذات إدارة مشتركة وترتيبات خارج الصندوق، أرغب في أن تكون في بعض القطاعات الاقتصادية (عملية ارتباط إداري محكم) بين مصر والسودان يجعلها قطاعا واحدا. البداية غير البيروقراطية يجب أن تكون بالشركات العامة التي تستطيع الحكومة هنا وهناك أن تتخذ القرار عبرها ثم يأت دور الشركات الخاصة، إذ من الممكن إبرام إتفاقيات تدخل حيز التنفيذ بين شركة زادنا السودانية وشركات قطاع الأمن الغذائي المصري، نعم صحيح توجد الآن شراكة ومعاملات كبرى أديرت بذكاء وهمة وساهمت في تأمين الموقف الغذائي في السودان عبر “شركة زادنا” ولكننا نريد درجة أعلى من التفويض في إدارة الموارد والأسواق، نريد أن يكون هذا التفويض بمستوى التحدي.
السودان ينتج الآن وفي أيام الحرب ذهبا بالأطنان، وللأسف ساهمت الحرب في سهولة التهريب والوصول إلى “الأيدي الملعونة” التي تدعم الحرب في السودان، أيهما أولى؟ تفويض الشركات العامة السودانية في شرائه وتصديره لمصر أم يذهب لمن يرسلون شحنات السلاح لقتل السودانيين؟ مالكم كيف تحكمون؟
توجد (الشركة المصرية السودانية) ومقرها مصر ومديرها سوداني، ويمكن توسيع نطاقها وتفويضها وتعطيل التفكير البيروقراطي.
لماذا لا تكون هنالك توأمة كاملة شاملة بين دنقلا وأسوان مثلا، توأمة تفصيلية تدخل كل حي وسوق ومتجر، يتم تحفيز أي مشروع مشترك، وافتتاح مكتب تمثيل مصري في دنقلا، ومكتب تمثيل سوداني في إسوان، أي شركة مقاولات تبني شققا بالتمليك في المدينتين، فيسدد المغترب المصري أو السوداني قسطا شهريا واحدا لشقتين، ويختار بعدها يسكن في شقة، ويعرض شقة للإيجار، علما بأن الإيجار في السودان أغلى من مصر حاليا بسبب قلة الأبراج السكنية، بالذات في بورتسودان وعطبرة ودنقلا وغيرها.
دعونا من (الكلام الكبير) هل تعلمون بماذا بدأ الاتحاد الأوربي؟ بدأ بالسوق الأوربية المشتركة، أبدا! قبلها كان هنالك مجموعة الحديد والفحم الحجري، وهو اتفاق فرنسي ألماني ومعهما عدد من الدول، والسبب هو أن الحرب العالمية الثانية انتهت وأوربا محطمة، وأهم عنصر في نهضتها للمباني والصناعات الثقيلة كان الحديد، والذي لا يذاب ويستخلص من الخام ثم يتم تطويعه إلا بالفحم الحجري.
نشأ التحالف من أجل الحديد والفحم وليس الوحدة الأوربية ولا الشعارات السياسي، ولدينا الآن الإتحاد الأوربي .. تتناول فطورك في ألمانيا وتركب القطار ثم تتغدى في فرنسا ثم تواصل وتتعشى وتنام في إسبانيا، كله بدأ بتحالف مصنعي الحديد “نافخي الكير”.
إذن علينا أن نفكر بطريقة (فحمية حجرية) لبناء علاقات مصرية سودانية فولاذية قوية، لا يجب أن ندعو أدباء وشعراء وفنانين ولا دبلوماسيين ولا صحفيين، يجب أن نبحث عن العصب الحي في الصناعة بين البلدين.
دعونا نفكر لتأسيس إتحاد مصري سوداني لمنتجي اللحوم، ونقول لقادته نريد أن يشبع المواطنين “لحمة”، وتزداد عائدات الصادر ثلاثة أضعاف فإذا حدث سنمنحكم إعفاء ضريبي وجمركي لمدة سنة كاملة مكافأة لكم.
من الممكن إبرام إتفاقيات عاجلة، تدخل فيها مصر بالجانب التصنيعي ويدخل السودان بالانتاجي، ولا يجب أن يكون هنالك أي تخوف، لأن تكنولوجيا التصنيع الحديثة تجعله على مراحل تحويلية وجزء كبير منها يتم في مناطق الإنتاج.
عمليا، لا بد من هذه المقترحات الإستباقية، حتى لا تداهمنا الشكوك من أي طرف بسبب المخاوف على (الاستحواذ) من الطرف السوداني، أو هواجس (الورطة) من الطرف المصري، هذه مخاوف مشروعة، وهنالك مفكرين وكتاب وسياسيين لا يريدون لبلادهم أي ضرر، ولتجاوز هذا المخاوف، نستبق الأمور بتأسيس إتحاد صناعي إنتاجي في قطاعات محددة، والدخول في عملية إنتاجية مشتركة، ووضع المواصفات والمقاييس، وتدشين الصادر بأكبر كميات ممكنة.
بإختصار .. الماركة الجديدة “صنع في وادي النيل” هي الحل.
لماذا؟ لأن مصر تتميز بالقدرة على التسويق الدولي وإبرام تعاقدات مستقرة مع أسواق دولية، السودان لديه موارده ومشاريعه الإنتاجية التي بلغت في بعض الأحيان الاكتفاء المحلي والتصدير لدول الجوار الأفريقي، وبالذات جنوب السودان، إريتريا، إثيوبيا، تشاد. إذن فالسودان يستطيع أن يخدم الإنتاج المشترك المصري السوداني في التسويق الإقليمي عبر أراضيه.
هذه الماركة (صنع في وادي النيل) قد لا تتحقق الآن إلا في سلعة أو سلعتين فقط، ونحتاج بعدها إلى مشوار في السلع الأخرى، ولكنها ستكون هي القاطرة التي تقود التكامل المصري السوداني، والمثل يقول “صوب للثريا تنل المئذنة”.

اترك رد

error: Content is protected !!