
بعد شهرٍ من الآن سيكون قد مضى على بيان عوض بن عوف ستة أعوامٍ كاملة كان التخوين وخلط الأوراق والمساس بثوابت الأمَّة عنوانها الأبرز وملامحها المشهودة التى ألقت بظلالها على الدولة السودانية بشكل لم يَعُد معه التمييز بين الصالح والطالح والوطنى والخائن ممكناً ، وتَصَدَّر المشهد ساسة هم الأسوأ فى تأريخ السودان الحديث ودفعوا ببلادنا نحو الهاوية حتى وصلت إلى نيروبى وهى تتدحرج تحت أصوات هتافاتهم المُنكَرَة فى دلالاتها وألفاظها ( سودان جديد يتقدم سودان قديم يتحطم ) بعد أن تبادلوا أنخاب المصاهرة بين بنادق المليشيا والحركة الشعبية وزكائب المال الحرام الذي أخرس الألسنة وخَفَتَ معه صوت العقل وجَمَّدَ الوعى فى القلوب وتَوَارَتْ معه الضمائر فى معادلة مختلة الأطراف تُغَرِّر بالحمقى وتلعب بالنار بعد أن آثَرَتْ غالبية النُخَبْ المستنيرة الإنسحاب من دوائر التأثير وصناعة الحدث والإنزواء وتركت المسرح لمن هم معاول للهدمِ والتدمير فى أيدى أسيادهم .. ولكنَّ الله قيَّض لبلادنا رجالاً أفذاذاً أبطالاً ما خَبَتْ لهم جذوة ولا انطفأ لهم قبس رغم كآبة المنظر والإحتقار المطلق لإنسانية الإنسان فكانت المقاومة المباركة ، وأضحت الفاشر أيقونةً للصمود بملاحم أهلها التى ستخلدها سجلات التأريخ .. والمتأمل فى طبيعة البسطاء من أهل السودان يجد أنهم جُبِلوا على الصبر الذى لا شكوى معه رغم ما تعرَّضوا له من المليشيا والذِّى( فات حد الصبر ) ..!! ولكن التقصير الحكومى ( خَدَميَّاً وإعلامياً ) تجاه معاناتهم فى رحلات النزوح واللجوء وفى أماكن الإيواء بضعف الخدمات الضرورية وإنعدامها كان ولايزال الأكثر إيلاماً من كل الذى تعرضوا له الأمر الذى يُثير تساؤلات عميقة حول جدوى حكومة التكليف المُرقَّعة وكأنها جُبَّة درويش فى حِلَقَ الذِّكر وعن ضعف أداءها مقابل التحديَّات الحقيقية التى تواجهها الدولة ، وضعف تأثيرها على محيطها الإقليمى والدولى بسلاح الإعلام الذكى الذى يخاطب العقول والقلوب معاً لتُرِيَه حجم الكارثة الإنسانية التى خَلَّفتها ممارسات المليشيا الإرهابية ..!! ؟
وفى ظل هذا التقصير الإعلامى الرسمى فيما يتعلق بالقضايا الإنسانية وعدم إبرازها للعالم كما يجب إستطاع الإعلامى والمدوِّن السودانى سوار الذهب أن يُجيب على تلك التساؤلات بذكاءٍ شديد عبر سلسلة أفلامه الوثائقية ( عُمران ) ، وأن ينقل يوميات حرب الكرامة ومآسيها وكل الذى لم يُقال إلى الفضاءات الواسعة ولكل العالم من صفوفها الخلفية ومن كواليسها فكان لساناً وشفتين لكل المقهورين .. وكل ذلك لإمتلاكه الإرادة الصلبة والضمير الإنسانى الحى دون أن يتعلل بالأعذار .. وذَكَّرنَا هذا الإسم بسيد الإسم المشير سوار الذهب الذى أدرك فى مثل هذه الأيام منذ أربعين سنة بفطرته النقيَّة أنّ سمة رئيس سابق أكرم من سمة رئيس قائم فى بلدٍ سماءه ملبدة بالغيوم السياسية وبالتشويش فصَان تأريخه المهنى وشرفه العسكرى وصورته الذهنية بالزهد فى الرئاسة واعتزالها ، وقدّم السُلطة فى طبقٍ من الخزف الصينى ( لا فيهو شق لا فيهو طق ) لمن إختاره الصندوق رئيساً ، وخرج مهرولاً من ذات الباب الذى أُدخِلَ منه قسراً لا رغبةً أو طمعاً .. فقد حُمِلَ إلى الكُرسى حَملاً وأُجلِس فيه جَبرَاً فقدم أُنموذجاً حيَّاً خالداً تالداً ودرساً بليغاً بأن الوفاء بالعهد قيمة خُلُقية سامية تحتاج أن نَعُضُّ عليها بالنواجذ لاسيما بعد الحرب التى كَشَفت لنا حجم الغدر والخيانة من المتعاونين وممن كُنَّا نَظُنّهم مِنَّا .. وأبانت لنا الشَطَط فى الولاء والبراء بدلالتهما اللغويَّة لا بظلالهما الإصطلاحية .. !! فما فعله سوار الذهب عليه رحمة الله ليس دستوراً ملزماً لمن جاء بعده من الحكام بالتأكيد ولكنه موقفٌ للتأريخ حَرِىٌّ بالتأمل ، وتجربة كانت تستحق التكرار من المجلس العسكرى الإنتقالى ولو من باب التأسِّى ولكنه رضى أن يحمل أثقالاً مع أثقاله وأخَّر ما هو محتوم ( رَهَبَاً أو رَغبَاً أىَّ المعنيين أقرب ) فظَّل الناس يبحثون عن الأمان فى ظل الفوضى ، وخَلَت بلادنا من مشروع يجمع الناس أو رؤية تبعثُ الأمل حتى أضحت وكأنها بيتاً مهجوراً يُخشى سقوطه لجُدرانه المُتَصَدِّعة وأسقُفَه المُتآكلة ..!! ولولا أنَّ قواتنا المسلحة ومن يقاتل معها من الصادقين الخيٌّرين قد أثخنوا القتل والجراح فى المليشيا بببسالةٍ وجَلَد عجيبين لتوقفت عجلة التأريخ صبيحة الخامس عشر من أبريل ولغَابَتْ شمس الحَقّ ولصار الفجر غروباً ولإنطفأت جذوة الخير فى هذه الأمَّة ..!!
فيا رعاكم الله من أراد أن يُبسط له فى حّكمه ويُنسأ له فى عُمره السياسى فليعمل على رفع القواعد من البناء الوطنى وليحرص على أن لا ينكسر قلم العدالة ، وليعيد ضبط أوتار الدولة وشَدِّها وزيادتها ، وكتابة نوتة وطنية لتُخرج لنا ألحاناً شجية .. فالعزف على الأوتار المرتخية وطنياً يُخرج أنغاماً نشاذاً تَصُكُّ الأسنان وتؤذى الإنسان .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
الأربعاء ٥ مارس ٢٠٢٥م