خطاب مفتوح إلى الإسلاميين .. الرزيقي والمشهد السُّوداني: بين رهاب الغرب وفوبيا النرويج!
خلفية: الإسلاميون ورهاب الغرب!
الارتهان للخارج (أوروبا وشمال أمريكا)، والدعوة للتدخل الأجنبي، والسعي لطمس الهوية السودانية بفرض القيم الغربية، وإعادة هندسة المجتمع السوداني بما يتوافق مع هذه القيم، وخرق الثوابت الوطنية، كُلها تهمٌ تُقذِفها قيادات الإسلام (السياسي) في وجه خصومها السياسيين. تصاعدت وتيرة هذه الاتهمات المُرسلة في أعقاب ثورة ديسمبر 2018 ، فما أن تكونت الحكومة الانتقالية الأولى (سبتمبر 2019) حتى وصِمَّ رئيس الوزراء، وطاقم وزارته، بالتبعية والعمالة للخارج الذي أتى به للسلطة لتنفيذ مخططات الغرب. وبعد طلب رئيس الوزراء (المُستقيل) المشروع باستدعاء بعثة سياسية من الأمم المتحدة لدعم العملية الانتقالية (فبراير 2020)، وسمها المعارضون الإسلاميون بالتدخل الأممي المباشر وفرض الوصاية الدولية وتقويض السيادة الوطنية، وأُطلق على رئيسها “بريمر” السودان. بل، سجلَّ أحد الصحفيين الإسلاميين بلاغاً لدى النائب العام اتهم فيه رئيس الوزراء ب “الخيانة العظمى”. وبعد سعيٍ حثيثٍ، توفقت جماعات الإسلام السياسي، في داخل الجيش والقوات الأمنية وتحت واجهات سياسية مختلفة، في إبعاد رئيس الوزراء، سادن المشروع الغربي للمجتمع الدولي، والتعامل مع القائد العام للجيش وِفق أهواءهم وخططهم المرسومة، سواء الإبقاء عليه أو الإطاحة به. ومع ذلك، فمن جِهةٍ خاب ظنهم في الفريق الأول البرهان لمخالفته لتصورهم بتشكيل حاضنة سياسية تشاركه في الحكم بعد فضه لشراكته مع قوى الحرية والتغيير. ومن جِهةٍ أخرى، تبدَّد أملهُم فيه عقب تعاطيه الإيجابي مع دعوة رئيس البعثة الأممية لحوار في مائدة مستديرة تشارك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية عبر إطلاق مشاورات أولية مع كل طرف على حِدةٍ، وما وجدته من دعمٍ دوليٍ كبير. وهكذا، وفرت هذه الدعوة كرتاً جديداً للمعارضين من جماعات الإسلام السياسي بعد أن وجدوا أنفسهم مرة أخرى في مواجهة المجتمع الدولي، الذي يهابونه ويبغضونه.
وعليه، أصدر حزب المؤتمر الوطني (المحلول) بياناً اعترض فيه على محاولة الأمم المتحدة ومن تُسميهم الشركاء الدوليين فرض أنفُسِهم أوصياء على الشأن السوداني. يبدو لي أنَّ موقف الحزب “ابتدائي” وليس ب “مبدئي”، يترك الباب موارباً، فبيان الحزب أيضاً اعترض على “أي محاولة لإقصائه من أي مفاوضات لترتيب إنهاء الفترة الانتقالية أو لإطلاق وفاق وطني”! فالحزب يترك الباب موارباً وكأنه يشترط أن مشاركته في الحوار هي التي تنزع فرض الوصاية المزعومة للمجتمع الدولي. في رأيي، أنَّ المؤتمر الوطني يسعى بعزمٍ، وبالتنسيق مع واجهاته الجديدة ، لأخذ موضوع دور البعثة الأممية كعنوانٍ رئيس لمقاومة ما يكابده من عُزلةٍ سياسيةٍ محليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ. فمثلاً، إحدى لافتتات المؤتمر الوطني حديثة التكوين هي مبادرة (سودانيون من أجل السيادة الوطنية) التي يقوم على أمرها “غِطرف من غَطارفة المؤتمر الوطني”، على قول الدكتور منصور خالد. فقد عينه على عثمان محمد طه، إبان توليه وزارة التخطيط الاجتماعي في 1993، وفي سياق مشروع الحركة الإسلامية لإعادة هندسة المجتمع السوداني، رئيساً ل “المجلس القومي للذِكرة والذاكرين” (وبقي في الموقع لثلاثين عاماً). كان أيضاً وزيراً لوزارة الشئون الاجتماعية والثقافية ولوزارة التربية والتوجيه، في ولاية نهر النيل، ثم محافظاً للخرطوم، بجانب احتكاره لاحقاً لكل منتجات قناة الجزيرة التوثيقية. قُدمت المبادرة، في وقفة احتجاجية، في 26 يناير الماضي، مذكرة إلى مكتب الأمم المتحدة ترفُض فيها وصاية البعثة الأممية، والناطق بإسم المبادرة، والذي تلا المذكرة كان يشغِل موقع الأمين السياسي لأمانة الشباب بالمؤتمر الوطني. ومع ذلك، فكلمة السر في هذه المذكرة، بانسجام كامل مع فحوى بيان المؤتمر الوطني (وقد قرأتهما بِتمعنٍ)، هي ليست التعبير عن الإستياء من وجود البعثة، أو دعوتها للحوار بين الأطراف ، بل للاحتجاج على انحياز البعثة لقوى سياسية بعينها لا وزن لها، بينما يتم إقصائهم من المشهد الانتقالي. فالبرغم من ما أبداه المؤتمر الوطني من اعتراضٍ على قدوم البعثتين الأمميتين في 2005، اليوناميس واليوناميد، إلاَّ أنه تعامل معهما حتى نهاية مهمة كل منهما، طالما ضمِنوا المحافظة على السلطة والمُكتسبات. حقاً، فقد عبرَّ بصدق عن غايتهم، وكشف عن نواياهم، الهتاف الرئيس للوقفة الاحتجاجية “دور ودور….إسلامية بس.. ربك يهون”، وكأنهم قد سهوا تماماً عن أنَّ مبادرتهم هي “سودانيون”، وليس إسلاميون”، من أجل السيادة الوطنية!
إنَّ عداء الإسلاميين الظاهري للغرب ليس أكثر من مزايدة تحكمها حسابات السلطة، فقد ظل المؤتمر الوطني يلهثُ خلف المجتمع الدولي منذ نهاية تسعينات القرن الماضي من أجل تمديدِ عُمره في الحكم سياسياً واقتصادياً. ولعلنا لا ننسى الإيقاد وأصدقائها، ومروراً بماشاكوس حتى نيفاشا، ومن ثم الوساطة “ثقيلة اليد” (وليست فقط تسهيل المفاوضات) لثابو أمبيكي، والسعي الحثيث بالحج المنتظم إلى واشنطون لاستعادة العلاقات مع الولايات المتحدة، حتى حانت لحظة سقوط نظام الإنقاذ، والتي كانت دول الترويكا عظمة ظهرها. ذلك، بجانبِ، وللمفارقة، وربما التناقض، أنًّ نسبة مُقدرة من قيادات النخب الإسلامية، تلقت التعليم والتدريب، واكتسبت المهارات في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية وتُقيم أُسرِهم بكاملها في الدول الغربية، ديار عدو مشروعهم “الوطني”! إنَّ العلاقة بين الإسلاميين والمجتمع الغربي مبحث لوحده جدير بالنقاش، لا مجال للتطُرقِ إليه في هذا المقال.
من رهاب الغرب إلى فوبيا النرويج!
هذه كلها ظواهر ودلائل تقِفُ شاهداً على، وتكشف رهاب الغرب لدى الإسلاميين السياسيين. ولذا لم أتفاجأ، بل فجعني (وفقع مرارتي) حديث الأستاذ الصادق الرزيقي، رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين (المحلول) في برنامج “المشهد السُّوداني” لقناة طيبة، في 11 يناير 2022. انتقل الأستاذ الرزيقي في هذا الحديث من رهاب الغرب عموماً إلى “فوبيا النروبج”، على وجه الخصوص. دافعان حفزاني على التعليق على حديث كبير الصحفيين، أولهما: أنه أقام حججه مُعتمداً على معلومات شائهة وغير صحيحة، سيان عندي إن أوردها عن قصدٍ أو جهلٍ، وثانيهما: وفر لي طرحه “المُضرِّس” (من يُسبب اصطكاك ووجع الأسنان) أن أُسطِرُ بعض كلام في حق دولة النرويج تعبيراً عن امتنانٍ مُستحق لبلدٍ سخى عليَّ، وعلى زملائي من خِريجي جامعة الخرطوم، بالعِلم والمعرفة، وظل داعماً للسودان والسودانيين في عدة مجالات حيوية. وعليه، يهدف هذا المقال إلى، أولاً: تصحيح ما أورد الرزيقي من معلومات مغلوطةٍ، ورفده بمعلومات قد لم يكن يعلمها، وثانياً: تسليط بعض الضوء على العلاقات السودانية-النرويجية وما قدمته النرويج من مساهمات لصالح السودان في مجالات: حل النزاعات، التدريس الجامعي والبحوث العلمية وبناء القدرات، الدعم الإنساني، والوقوف مع الحريات وحقوق الإنسان، ثالثاً، أختم بالكشف عن سرِ الغضبة المضرية للأستاذ الصادق الرزيقي، والسبب المباشر الذي يُفسر تهجمه الغليظ على النرويج.
دارت حلقة برنامج “المشهد السوداني” حول مبادرة الإدارات الأهلية ل “نصرة القوات المسلحة”، في 10 يناير 2022، فوجهَّ مُقدم البرنامج (أويس الجلبي) سؤالاً للأستاذ الرزيقي مفاده: “نصرة القوات المسلحة ضد منّ؟”. مهما توقعت وتكهنت لم أتخيل أو يخطر على بالي أبداً أن تكون الإجابة، على حد تعبير الأستاذ: “القوات المسلحة تتعرض الآن إلى هجمة خارجية، فالذين ينادون بتصفية القوات المسلحة وإعادة هيكلة القوات او تفكيك القوات المسلحة هم مجرد صدى لصوت الخارج..ونحن ذكرنا أن بعض الأحزاب الداخلية هم مجرد وكلاء وعملاء للخارج ياتمرون بما يصدر من الخارج وهناك سفارات تعمل. يعني انا امسك ليك دولة زي النرويج، دولة أوربية صغيرة تعيش على هامش اوروبا، في إسكندنافيا: ما هي علاقتها بالسودان؟ ما هي مصالحها في السودان؟ والغة في الشأن السوداني منذ 30 سنة تقريبا، فما هو الدعم الذي تقدمه للسودان؟….. فلذلك، مثل هذه الدول ظلت تعقد ورش العمل والندوات وتنظم المؤتمرات، وأعدت ملفات عديدة عن هيكلة وكيفية تفكيك القوات المسلحة وكيفية تفكيك المجتمع. فهذه مؤامرة خارجية. طبعا النرويج وغيرها من الدول الصغيرة هي أيضا من أدوات القوى الدولية الكبيرة، ومن أدوات الجمعيات السرية مثل الصهيونية والماسونية”.
الأستاذ الرزيقي، وبدون سندٍ أو شاهدٍ، خلص إلى نتائج كبيرة يتهم فيها النرويج هكذا بالمؤامرة ل “هيكلة وكيفية تفكيك القوات المسلحة وكيفية تفكيك المجتمع”. حقيقةً، لم أفهم كيف يمكن أن تقوم النرويج (ودول صغيرة أخرى) بمحاولات التفكيك المركبة هذه؟ ولم أستوعب أصلاً لماذا تفعل ذلك، بل وكيف توصل الأستاذ الرزيقي إلى هذه الخلاصات التي يعوزها المنطق ويجافيها الواقع؟. لا شك، أنه يدرك، والجميع يعلم، أن هيكلة القوات المسلحة هو مطلب لكل القوى الثورية والسياسية بالبلاد، كما أنها هي مهمة نصت عليها الوثيقة الدستورية وأمنت عليها اتفاقية جوبا للسلام. لم يطرق أذني حديثاً، أو قرأت كلاماً، حول “تفكيك” القوات المسلحة، إنما ينادي الجميع بضرورة وجود جيش وطني واحد وموحد. أما تفكيك المجتمع فلا حاجة للنرويج، أو غيرها، إلى القيام بذلك بعد أن اضطلع حكم الإنقاذ بالأمر. لا أرغب في الغوص في مثل هذه الإفتراءات التي تفتقر إلى الحجة السليمة، ولعله ينبئنا، مثلاً، بماهية وأعمال ونشاطات هذه “الجمعيات السرية مثل الصهيونية والماسونية”، التي ذكرها. فعلى الأستاذ الرزيقي أن يُجوِّد عرض بضاعته وأن يتقصى الحقائق بدقة، ويبحث عن المعلومات بعمق. وسانتقل إلي حديثه عن ”هامشية” دولة النرويج وعلاقتها مع السودان.
هامشية النرويج!
صحيحٌ أنَّ النرويج دولة صغيرة، بحكم المساحة وعدد السكان، ولكنها ليست ب “هامشية” بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، كما وسمها الأستاذ الرزيقي بدون أن يعرف لنا معنى هذا التهميش أو يُعدد مُحدداته، ولا ينطبق عليها هذا المفهوم لا من قريبٍ أو بعيدٍ. أولاً: للنرويج اقتصاد مختلط متطور ويضم مجموعة من نشاط السوق الحر والتدخلات الحكومية، حيث تتركز ملكية الدولة في القطاعات الاستراتيجية والحيوية، مثل قطاع النفط، والبلاد غنية بالموارد الطبيعية والنفط والطاقة الكهرومائية، والأسماك، والغابات، والمعادن. فالنرويج هي خامس أكبر مصدر للنفط وثالث أكبر مصدر للغاز في العالم. وتعتبر النرويج الدولة الأولى عالميا في مؤشرات الرفاهية بسبب منظومتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأساسها العدل والمساواة وركائزها التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، مع منح أهمية استثنائية للأسرة وللطفل باعتباره عماد مستقبل الأوطان. لذلك، صنف مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة النرويج في المرتبة الأولى لست سنوات متتالية، كا أنَّ لديها إلى حد بعيد أعلى مستوى للمعيشة في العالم. ثانياً: لعل ما يدحض استهزاء كبير الصحفيين بالنرويج ووصفها بأنها “دولة أوربية صغيرة تعيش على هامش اوروبا، في إسكندنافيا”، هو اختيار النرويج على البقاء بعيدا عن الاتحاد الأوروبي، طوعاً وبإرادة شعبها. عدة أسباب تقف وراء رفض النرويج للانضمام إلى الاتحاد، على رأسها هو خوفها من فقدان السيطرة السيادية على موارد البلاد الطبيعية ذات القيمة الجوهرية للاقتصاد القومي. ونقرة واحدة على مُحرك قوقل للبحث تُتيح للأستاذ الرزيقي أن يعرف، ويتعرف على الدول الأوروبية التي يجوز وصمها ب “الهامشية، والتي تتطلع وتسعى حثيثا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي.
أما من ناحية البُعد السياسي ل “التهميش”، فأولاً: دولة النرويج عضو غير دائم فى الدورة الحالية لمجلس الامن، بل ورئيسة مجلس الامن لهذا الشهر.
ثانياً: النرويج عضو نشط فى الترويكا، وللمفارقة فإنَّ بحث رسالة الدكتوراه لمبعوثها الخاص، أندري استيانسون، كان عن اقتصاد جنوب السودان. ثالثاً:
الأمين العام لحلف الناتو هو السيد ينس ستولنجبيرج Jens Stoltenberg، رئيس وزراء النرويج الأسبق، من حزب العمال. ورابعاً: أزيد كبير الصحفيين من الشعر بيتاً، فالسيدة قرو هارلم برونتلاند، رئيسة وزراء النرويج لثلاث فترات، بين 1981 و1996، اختارها الأمين العام للأمم المتحدة (1983-1987) لرئاسة اللجنة الدَّوليَّة للبيئة والتنمية (وكان نائبها الدكتور منصور خالد)، بل وأصبحت المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (1998-2003). أفلا يعني تتبؤا إمرأة (مُهمشة المُهمشين) من النرويج هذه المواقع الرفيعة، في بلدها وعلى المستوى الدولي، شيئاً عند الأستاذ الرزيقي، عسى ولعل أن يراجع وصفه للنرويج بالد ولة “الهامشية”؟
علاقات النرويج مع السودان
يتساءل الأستاذ الرزيفي، بِتهكُمٍ وسخرية، عن مصالح النرويج وعلاقاته الاقتصادية مع السودان التي تسمح لهذه الدولة الصغيرة بالتدخل في الشأن السوداني. صحيحٌ أن العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري تُمثل أحد عناصر العلاقات الإقليمية والدولية لكن ليست هي المحدد الوحيد، بل السياسة الخارجية للدولة المعينة هي التي ترسم أولوياتها. فقد وضعت النرويج، مثلاً، نموذجًا للسياسة الخارجية عُرف باسم “النموذج النرويجي” ، والهدف منه هو المساهمة في السلام والاستقرار من خلال الاستجابة المنسقة بين المنظمات النرويجية الحكومية وغير الحكومية. وعليه، تقوم السياسة الخارجية للنرويج على أربعة أبعاد: التحالفات الاستراتيجية، التعاون الدولي، الوساطة الدولية، والنزاعات الدولية. فاهتمام النرويج بالاوضاع الإنسانية التى تنتج من عنف الدولة الاستبدادية وتقييد الحريات وخروقات حقوق الانسان والحوكمة الديمقراطية، تتكامل مع دورها في مجلس الأمن و رئاستها له الآن، والحفاظ على السلم العالمي في وجود رئيس وزرائها الأسبق فى قيادة حلف الناتو. ولا أدري إن كان أستاذ الرزيقي يدرك بأن النرويج، والدول الإسكندنافية الأخرى، قد لعبت دوراً مهما، منذ نهايات الخمسينات من القرن الماضي، في الوقوف مع نضالات التحرر في الجنوب الأفريقي: أنقولا، موزمبيق، زمبابوي، جنوب أفريقيا، ونامبيا. قدمت النرويج مساعدة سخية ومتزايدة للأغراض الإنسانية والتعليمية، وكذلك للمشاريع الاقتصادية والاجتماعية لحركات التحرر. لم تساعد النرويج في تخفيف المعاناة الإنسانية فحسب، بل قدمت مساهمات قيمة لتسهيل الحرية والاستقلال لشعوب جنوب إفريقيا.
ففى مجال التعاون الدولي، وإعادة البناء بعد الحرب الأهلية الأولى في السودان، لعبت الكنيسة النرويجية ومنظمة العون الكنسي النرويجي- كمنظمة خيرية و طوعية- دوراً مفتاحياً فى المحادثات التى أدت إلى إتفاقية اديس ابابا فى 1972، و التى أوقفت حرب الجنوب لمدة عشر سنوات. كما أن منظمة العون الأهلي النرويجي والعون الكنسي النرويجي لعبتا دوراً مركزياً فى إغاثة وإعادة بناء مجتمعات جنوب السودان بعد إتفاقية السلام، و قدمتا خدمات جليلة فى مجال الصحة والتعليم باكثر مما فعلت حكومة السودان أو حكومة الإقليم الجنوبي وقتئذٍ. فقد عينت الهيئة النرويجية للعون التنموي العالمي NORAD ممثلاً دبلوماسياً مقيماً فى الخرطوم، في غياب السفارة، للإشراف على العون الثنائي bilateral aid، مما يدل على تعاظم حجم العون عبر قناة التعاون الثنائي بين الدولتين. ولاحقاً، تطورت هيئة العون النرويجي إلى وزارة العون التنموي، وهى الآن جزء من وزارة الخارجية النرويجية. كما كان للنرويج دور بارز في دعم مبحاثات السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي التوصل لاتفاقية السلام الشامل في 2005. بجانب مشاركتها في مفاوضات النزاع في دارفور، بأبوجا (2084-2007)، وفي محادثات سلام شرق السودان التي عُقِدت تحت رعاية الحكومة الإريترية حتى تم التوصل لاتفاقية السلام، في أكتوبر 2006. هذا غيضٌ من فيض، عن مدى وحجم الدعم الإنساني للنرويج في كل أرجاء السودان.
وربما نما إلى علم الأستاذ الرزيقي أن النروبج لم تكن أصلاً دولة مُستعمرة، وليس لها أي إرث استعماري أو طموح توسعي يُحدد مصالحها في السودان. وقد نجحت النرويج قبل تدشين سفارتها في العام 2005، في تعيين قنصل فخري في السودان منذ النصف الأول من السبعينات، المرحوم المهندس طه الروبي، أجاد عمله وجوده لثلاثة عقود. ومكافأة له، قام ملك النرويج بتقليده وسام أفضل قنصل فخري للملكة. ولعل كبير الصحفيين يعلم أن العلاقات الدبلوماسية مع النرويج قد ازدهرت، من خلال طه الروبي، إبان فترة تولي على عثمان محمد طه لوزارة الخارجية. فهل كان الروبي عميلاً للنرويج يعمل بالتنسيق مع وزراء خارحية نظام الإنقاذ، الذين توالوا على المنصب؟ أم هل لم تكن النرويج دولة هامشية بعد حينئذٍ؟
إنَّ هذه الجهود طويلة المدى، هي التى دفعت النرويج للمشاركة – كجزء من الترويكا مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – في محاولة بناء السلام في السودان. كانت أول مبادرة سلام نرويجية هي “منتدى بيرقن للسلام”، الذي استضافه مركز دراسات التنمية في جامعة بيرقن، في 23-24 فبراير 1889، للبحث في الأزمة السياسية التي خلفتها مذكرة قيادة الجيش الشهيرة إلى رئيس الوزراء، في 20 فبراير. شاركت “الجبهة الإسلامية القومية” (حينئذٍ) بمُمثلٍ من أعلى هرم قيادة التنظيم، د. علي الحاج، الذي كان وزيراً للتجارة آنذاك، قبل إبعادهم من حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (22 مارس 1989). وبالطبع، لم يُقدر للمنتدى أن يؤتي ثماره، فما هي إلاَّ أشهُرٍ معدودات حتى انقض الإسلاميون على السلطة بالانقلاب، في 30 يونيو 1989. ومنذ ذلك التاريخ، لم تنقطع الزيارات المتواصلة للقيادت السياسية والتنفيذية للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني. فقد شارك نائب رئيس الجمهورية، علي عثمان محمد طه، ود. إبرهيم غندور، بصفته أميناً عاماً للحزب الحاكم أو وزيراً للخارجية، في العديد من اللقاءات حول القضية السودانية، التي كانت تنظمها بعض المؤسسات الحكومية أو البحثية النرويجية، حتى سقوط نظام الإنقاذ. وسؤالي هو: فإن كانت النرويج دولة “صغيرة وهامشية”، لا تجيد إلاَّ حبك المؤامرات تبعاً لتعليمات الوكلاء الكبار، ولا تعير اهتماهاً إلاَّ ل”قضايا تفتيت المجتمعات وقضايا المِثليين”، على حدِ تعبيرِ الأستاذ الرزيقي، فلماذا هذا السعي نحوها والحج إليها بانتظام من قِبل قيادات الإسلاميين وحكومة الإنقاذ!؟
ملاحظتان هامتان جديراتان بالذكر. الملاحظة الأول، إن واصل الأستاذ الرزيقي بحثه في مُحرك قوقل فسيعلم أنَّ شعوب “الفياكنج” من النرويج، والدول الإسكندنافية الأخرى، كانت لهم علاقات تنافسية وتجارية ممتدة بين القرنين الثامن والحادي عشر مع المسلمين والعرب، تخللتها الحروب، خلال العهدين الأموي والعباسي. وثاني الملاحظات، أنه، للمفارقة، وأنا عاكفٌ على كتابة مسودة هذا المقال، ذاع خبرٌ في الأسافير حول استضافة حكومة النرويج،قبل أقل من 10 أيام، في 23 يناير المنصرم، لوفدٍ قياديٍ رفيع من أفغانستان يمثل حركة طالبان، برئاسة وزير الخارجية الأفغاني. أجرى الوفد الطالباني لقاءات متعددة، لمدة ثلاثة أيام، مع السلطات النرويجية ومسؤولين من دول عدة بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أفرادٍ من المجتمع المدني الأفغاني، بينهم نساء وصحافيون. وصرح الناطق الرسمي باسم طالبان أن “الإمارة الإسلامية” اتخذت “خطوات لتلاقي مطالب العالم الغربي ونأمل في أن نقوي العلاقة مع كل الدول، وبينها الدول الأوروبية والغرب بشكل عام، عبر الدبلوماسية“. فهل يُزايد الأستاذ الرزبقي، وإسلاميو السودان، على موقف حركة طالبان من الغرب عموماً، وأمريكا على وجه الخصوص، وهم ما نازلوها في “الميدان”، وليس ب“البيان”؟ ربما، قد تساعد هاتان الملاحظتان في تهدئة روع الأستاذ الرزيقي، وتزيلا عنه غشاوة الفوبيا من النرويج!
العلاقات النوعية بين السودان والنرويج!
وفوق ذلك كله، فللنرويج علاقات نوعية مع السودان في المجالات البحثية والجامعية والتعليمية والتدريبية ذات جذور عميقة امتدت لأكثر من 60 عاماً. يرجع تاريخ التعاون الأكاديمي بين جامعة بيرقن وجامعة الخرطوم لعام 1965، عندما عمل فريديرك بارث (عالم الأنثروبولجيا المرموق)، أستاذً بقسم علم الأنثروبولجي. اصطحب بروفيسر بارث معه قونار هولاند كمساعد بحثي في دراسة مولتها منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة حول سبل العيش في دارفور. انضم أيضاً قونار هولاند إلى هيئة التدريس بالقسم، ثم تبعهما لاحقاً: والبروفيسور ركس شون أوفاهي المتخصص في شؤون دارفور والطرق الصوفية، والبروفيسور آندرس بيركيلو المتخصص في تاريخ التركية في السودان، والبروفيسور لايف منقر، خبير دراسات الأنثروبولجي في كردفان، والبروفيسورة راندي هولند، عالمة الآثار، والبروفيسور قونر سوربو صاحب الدراسات المتفردة عن مشروع خشم القربة في شرق السودان.
توسعت العلاقة بين جامعة الخرطوم و جامعة بيرجن لتشمل فيما بعد أغلب كليات الجامعة بما فى ذلك الآداب والعلوم والطب وطب الاسنان.
بناءاً على هذا التعاون الجامعي بين جامعتى الخرطوم و بيرجن النرويجية، تأهلت أعداد كبيرة من الباحثين فى الجانبين وأخذوا درجات الماجستير الدكتوراة، أو عبر البرامج الأكاديمية المشتركة، فى مختلف المجالات وأصبحوا أساتذة فى البلدين، أو انتقلوا إلى دولٍ أخرى في كلِ بقاع العالم، وذاع صيتهم. نذكر من هؤلاء، على سبيل المثال، عبد الغفار محمد أحمد (أول من نال الدكتوارة من جامعة نرويجية)، شريف عبد الله حرير، صلاح الدين الشاذلي، مصطفى بابكر أحمد، منزول عبد الله عسل(الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع)، وعلي التيجاني الماحي، السيِّد الأنور عبد الماجد عثمان (علم الآثار)، علي صالح كرار (دار الوثائق القومية)، جمال الدين الطيب الغزالي (المركز القومي للبحوث)، عبد الرءوف عبد الوهاب العتيبي، آمال عثمان أبو عفان (طب الأسنان)، أحمد ابراهيم أبوشوك ،(التاريخ الحديث والمعاصر)، وعمر عبد الله العجيمي (الجغرافيا). ومن اكبر البرامج البحثية المشتركة بين الجامعتين كان برنامج ابحاث البحر الاحمر الذي استمر مديداً و عبره تأهل اعداد كبيرة من اساتذة الجامعتين فى مجالات الاجتماع و علم النبات والاستشعار من البعد والجغرافيا وطب الاسنان والفلسفة والتاريخ وعلوم الوثائق والمصريات واللغة العربية والثقافة. كان كل هذا بتمويل من الحكومة النرويجية عبر “مُخصص” برلماني مربوط بالعون التنموي النرويجي.
بجانب ذلك، قامت النرويج بتمويل مشروع لدعم القدرات البحثية وربط البحوث بقضايا التنمية والسلام والجندر، من ثلاث مراحل منذ عام 2010. شمل المشروع سبع جامعات ولائية (البحر الأحمر، كسلا، القضارف، سنار، الدمازين، الدلنج و نيالا)، وضمت مناشطه تنظيم ورش عمل ومؤتمرات ولائية، تجمع بين أساتذة الجامعات ممن تم تمويل ونشر بحوثهم وبين ممثلين للوزارات الولائية ومنظمات المجتمع المدني. ومن ناحية أخرى، استفاد عددٌ من الولاة والوزراء من بعض البحوث التي أجراها المشروع، مثلا الاستفادة من بحوث، حول الحدود مع إثيوبيا والهجرة واللجوء والإتجار بالبشر، في المفاوضات مع الجانب الإثيوبي.
لا غرو أنَّ هذا الإرث التاريخي في التعاون الأكاديمي والبحثي قد أهلَّ جامعة بيرقن لأن تكون من أفضل مراكز البحث العلمي في الدراسات السودانية في العالم، وذلك بفضل مكتباتها المتخصصة عن السودان، ونخبتها الأكاديمية البارزة في مجال الدراسات السودانية والتي يرجع الفضل في تأهيلهم لجامعة الخرطوم والتي انتسبوا اليها كأساتذة وباحثين وطلاب دراسات عليا. وفي ضوء هذه الصورة الذهنية الموحية بالعطاء والإنجاز اختار الأستاذ محمود صالح عثمان صالح جامعة بيرقن بأن تكون مركزاً لإيداع مجموعته المكتبية والوثائقية الفريدة عن تاريخ السودان وأنماط الحياة فيه، والتي يقدر كمها بألفي كتاب، من الكتب النادرة والنفيسة التي كُتبت بلغات أوروبية مختلفة (الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، واللاتينية)، وعدد مماثل من الوثائق الأرشيفية، والصور الفوتوغرافية، والخرائط، واللوحات الفنية التي تجسد أبعاداً متنوعةً عن واقع العمارة والاجتماع في السودان.
دوافع الرزيقي!لا شك، أنَّ هذه العلاقة النوعية، بين البلدين، وبهذا الحجم من التمثيل والعون، تقول شيئاً آخر غير الذي يقوله الأستاذ الرزيقى، دون تقصيٍ أو تحريٍ، في حق دولة النرويج ومضمون علاقتها مع بلادنا. وأكاد أجزم أنَّ غضبته المضرية ووسمه للنرويج ب “الدولة “الصغيرة الهامشية”، وتشككه في كنه علاقتها بالسودان، وراءها دافعٌ مباشرٌ عبر عنه بقوله “هذه الدولة تتولى كبر القضية السودانية في إطار الترويكا أو في إطار التدخل المباشر، وسفيرة النرويج تتكلم كل يوم في أي شيءٍ في السودان!”. فالأستاذ الرزيقي يعرف جيدا، بحكم علاقاته مع نائب رئيس مجلس السيادة، أنَّ السلطة الانقلابية تواجه ضغوطاً مكثفة من النرويج، وبخاصة من السيدة تريزا غيزيل Therese Gheziel سفيرة النرويج بالخرطوم، فيما يتصل بالعنف المفرط الذى تمارسه القوات الأمنية، بكافة تشكيلاتها، تجاه المحتجين والمتظاهرين، والتجاوزات الوحشية فى حقوق الانسان والحصانات والإفلات من العقاب. فسعادة السفيرة معروفة بالجرأة وأنها تقول كلاماً واضحاً كلما قابل سفراء الترويكا والاتحاد الأوروبي قيادات سلطة الانقلاب، وتُبلغهم صراحةً بأن ما يحدث فى السودان فيه تهديد للسلم و الأمن الإقليمي والدولي. وظني راجحٌ أنَّ الأستاذ الرزيقي قد وصلته، للتو، معلومة إشادة رئيس مجلس السيادة ب “الدور الكبير الذي تضطلع به مملكة النرويج لتعزيز مسار الاستقرا والتنمية في السودان”، وذلك بعد لقائه اليوم مع سفيرة مملكة النرويج. فبين من ومن يرغب الأستاذ الرزيقي في إشعال النار، كما فعل عمار!
خلاصة الأمر:
يظل السودانيون منتشرون في كل بقاع العالم وتُقيم أعداد هائلة منهم، متعايشة ومختلطة مع مختلف شعوب، في دول أوربا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلاند دون أن يصيبهم رهاب الغرب أو تغشاهم فوبيا النرويج! إنَّ تفضيل الإسلاميين لتوطيد العلاقات مع روسيا والصين على حساب الغرب، ليس بسبب احترام هاتين الدولتين للسيادة الوطنية، بل لأنهم بحكم طبيعة أنظمتهما السياسية، لا يعنيهما عسف السلطة وتقييد الحريات وأوضاع حقوق الإنسان، وهذا ما تريده جماعات الإسلام السياسي حتى يبقوا على سدة الحكم.
إنَّ السودانيين يملكون رصيداً تاريخياً للعلاقات الراسخة مع مختلف الشعوب والأديان (اليونانيين والقبارصة والشوام والأرمن والهنود والأقباط، وكذلك اليهود). فالسودانيون لا يكرهون دولاً أوشعوباً بعينها، إنما يسعون إلى، ويعشمون في علاقات خارجية، إقليمية ودولية، مع الغرب والصين وروسيا، على حدٍ سواء. ينبغي علينا أن ننظر إلى العالم بعيون السودان المتعدد والمتنوع، وليس بنظارات الإنتماءات الأولية والأيديولجيات ضيقة الأفق، والرؤية قصيرة النظر! وينبغي على الإسلاميين الابتعاد عن التعويل على الكراهية والعداء للغرب كمنفذٍ لتجييش مشاعر غمار الناس، واتخاذ معاداة المنظمة الأممية لافتةً للتزيد ب” الوطنية” وللمزايدة ب “السيادة الوطنية”، وتخوين الآخرين، ووصمهم بالعمالة والارتزاق، كمدخلٍ لفكِ أسر عزلتهم السياسية. فإن أرادوا التطببع السايسي بصدق، فعليهم أن يتوافقوا هم في ما بينهم أولاً، ويسلِكوا طريق المراجعة الأمينة والشفافية، وهو أمر مطلوب، بنفس القدر، من جميع القوى السياسية!
تورونتو، 2 فبراير 2022