من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

خارج الصندوق




البحر الاحمر والامن القومي السوداني
يظل البحر الأحمر يشكل إحدى أهم الممرات و الأكثر استراتيجيتاً للتجارة الدولية بين الشرق والغرب، فمنذ العهود السابقة وحتى وقتنا الحالي ظل البحر الاحمر محط اهتمام القوي الدولية المتنافسة على النفوذ، ولذلك فإن التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ على البحر الأحمر هي التي تحدد وتشكل تطور الأحداث في القرن الأفريقي‏ منذ العهود السابقة حتى عصرنا الحالي، ولكن نجد أن درجة هذا التدخل تختلف من وقت لآخر‏،‏ كما أن الصراع من أجل السيطرة على السودان حالياً ارتبط بأمن البحر الأحمر وتأمين حركة الملاحة به، كما ارتبط ارتباطا وثيقاً بالصراع العربي الإسرائيلي،‏ وهو ما دفع بالولايات المتحدة والدول الغربية إلى محاولة الدفاع والمحافظة على أمن البحر الأحمر عن طريق السيطرة والحصول على موطئ قدم في السودان، ولعل من أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع بعض دول منطقة القرن الأفريقي (القاعدة الفرنسية والقاعدة الأمريكية في جيبوتي بالإضافة للتواجد الإيراني في ميناء عصب الإرتري ومراكز جمع المعلومات والمراقبة المنتشرة في الدول المطلة على البحر الأحمر)، كما أن اكتشاف النفط والذهب في السودان، قد أضاف بعداً جديداً للتنافس الدولي على السودان‏، بحيث جاءت إلى جانب الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوربي قوى فاعلة جديدة هي الهند، البرازيل، وإيران و تركيا واليابان، ولا يخفى على أحد الآن بأن السودان يمتلك احتياطيات كبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الحساسة و الثقيلة والنووية مثل الكوبالت واليورانيوم و الليثيوم و النحاس، كما أنها يمتلك ثروة مائية هائلة تكفي لسد حاجات الدول الأفريقية من المياه، وبالتأكيد أن كل تلك المعطيات سوف تزيد من احتمالات محاولات فرض الهيمنة على سواحل البحر الأحمر السودانية من قبل الفاعلين الدوليين، وقد راينا عدة محاولات من قبل عدة دول تهدف الي إقامة مشاريع استراتيجية علي سواحل البحر الأحمر السودانية، فهذه المحاولات تبين مدي الارتباط بين البحر الأحمر و المصالح الدولية على مستوى الأهمية الجيواستارتيجية.
إن الطول الإجمالي لسواحل البحر الأحمر بما فيها سواحل خليجي السويس والعقبة، يبلغ نحو ٣٠٦٩ ميلاً، باعتباره مستطيلاً مائيا تصل مساحته إلى ١٧٨٠٠ ميل مربع، وإذا أخذنا نقطة شمالية عند منطقة خليج السويس، ونقطة جنوبية عند منطقة باب المندب، فإن طول البحر الأحمر سوف يبلغ١٢٠٠ميل، ويبلغ أقصى اتساع له حوالي ١٩٠ ميلاً عند مصوع على الساحل الارتري الأفريقي، وجيزان على الساحل الشرقي السعودي الآسيوي، بينما يبلغ أقل اتساع له نحو٤٠ ميلاً فقط عند مدينة عصب على الساحل الغربي، واﻟﻤﺨا اليمنية على الساحل الآسيوي، وإذا كان باب المندب هو نقطة التحكم والخنق في الجنوب، فإن مضايق تيران وقوبال هي نقاط التحكم والخنق عند الشمال، حيث تنتشر الجزر والشعاب المرجانية التي تقسم مياه البحر إلى ممرات ملاحية صغيرة وضيقة تجعل من الملاحة مخاطرة تحتاج إلى حسابات دقيقة لتحقيق السلامة والمرور إلى المحيط الهادي، فمضيق قوبال الذي يقع في داخل خليج السويس لا يزيد عمقه عن ٣٠٠ إلى ٣٣٠ قدماً، وتنتشر في مياهه عدة جزر أهمها شدوان وقوبال وأم قمر، وشرق قوبال يرقد مضيق تيران في مدخل خليج العقب، ويصل عمق المياه هناك إلى اكثر من ٣٣٠٠ قدم، بينما يضيق اتساعه إلى معدل ٨ إلى ١٠ أميال فقط، وفي هذا المضيق تنتشر كذلك عدة جزر أهمها (تيران ) و(صنافير) الواقعة في مدخل المضيق، حيث تتحكم به تحكم استراتيجي بالغ الأهمية، وإذا انتقلنا جنوباً عند نقطة التحكم الأخرى فسوف نجد باب المندب الذى لا يزيد اتساعه عن٢٠ ميلا تتولى فيه جزيرة (بريم ) تقسيم البحر الأحمر بشكل يعوق الملاحة الانسيابية، فالجزيرة تقسمه إلى شطرين، أحدهما بالغ الضيق، وهو الممر الشرقي بعرض أقل من ميل، والآخر في الغرب بعرض يصل إلى ١٦ ميلا، تنتشر فيه الجزر الصغيرة والشعاب المرجانية، التي تزيد بالطبع من وعورة الملاحة، وبالرغم من أن عمق هذا الممر في معظم مياهه يصل إلى ٩٩٠ قدماً، فإن هذا العمق في الممر الشرقي يقل حتى يصل في بعض أجزائه إلى نحو٨٥ قدما فقط.
هكذا تبدو أهمية نقاط التحكم الاستراتيجي الشمالية عند السويس وتيران، والجنوبية عند باب المندب، في خنق الملاحة المدنية والعسكرية على السواء في البحر الأحمر، ولذلك دار الصراع دائما حول نقاط التحكم هذه، سواء كان صراعاً دولياً أو محلياً، وإكتسبت مناطق مثل القرن الأفريقي غرباً، والسواحل العربية شرقاً في جنوب البحر، ومضايق تيران شمالاً وقوبال غربا في شمال البحر الأحمر، بميزات جيوبولتيكية في خريطة الصراع الدولي والمنافسة الحادة القائمة اليوم بين القوى الفاعلة دولياً، وكذلك على مستوى الصراع الإقليمي خاصة بين العرب وإسرائيل وبين القوى الدولية الساعية للنفوذ.
عندما نتحدث عن مفهوم الأمن الوطني السوداني، نعنى به في حديثنا كلما يتصل بسلامة الدولة السودانية وسيادتها ومصالحها الحيوية، حيث أن النظام الدولي يقوم على مجموعة من الوحدات السياسية المستقلة (الدول) ذات السيادة، وكل وحدة سياسية تسعى في إطار تفاعلها مع محيطها الخارجي من أجل تحقيق مصالحها القومية والدفاع عنها، ونتيجة للتباين في المواقف والتعارض في المصالح بين وحدات المنتظم الدولي، تنشأ المنافسة والصراع والحرب، ولذلك يجب أن تعمل الدولة السودانية بصورة دائمة ومستمرة على امتلاك القوة الكافية التي تمكنها وتساعدها على مواجهة التحديات والتهديدات الموجهة إليها سوى كانت داخلية وإقليمية أو دولية.
وإذا حاولنا أن نعرف الأمن الوطني السوداني فنجد أنه يُعنى ” بتلك الإجراءات والقواعد التي تضعها الدولة وتحافظ على تطبيقها، لتستطيع أن تحقق لنفسها الحماية الذاتية والوقاية الإقليمية والدولية”، وبهذا المعنى يتكون الأمن الوطني السوداني من مبادئ تنبع من طبيعة الأوضاع الاستراتيجية، والخصائص المختلفة المتعلقة بعلاقات التعامل مع الامتداد الإقليمي والدولي من جانب، والعنصر البشرى وسلوكياته من جانب آخر، ومن منطلق المعطيات الواردة أعلاه يعتبر تأمين البحر الأحمر ككل، وتأمين السواحل السودانية من أهم الواجبات الأمنية الرئيسية للأمن الوطني السوداني من عدة اعتبارات هي :

  1. البحر الأحمر يمثل حلقة ارتباط بين البحار المفتوحة في المحيطين الهندي والأطلنطي عبر البحر المتوسط وقناة السويس، بالإضافة لتحكمه في مخارج ومداخل كل من البحر المتوسط والخليج العربي والمحيط الهندي، حيث أن أي تحرك عبر أي منهما يجب أن يمر من خلال بالبحر الأحمر، وتبرز هذه الأهمية فيما يتعلق بنقل البترول من الخليج العربي وأفريقيا (السودان) بكميات كبيرة لحل أزمة الطاقة العالمية، ولكن لا يكتمل هذا الحل إلا عبر نقل هذا البترول عبر البحر الأحمر، الشيء الذى يترتب عليه فرض آلية أمنية تحفظ تدفق البترول عبره لمناطق استهلاكه في أمريكا وآسيا وأوربان.
  2. إن معظم الصادرات والواردات السودانية تحمل عبر السفن التجارية التي تمر في البحر الأحمر، الشيء الذى يجعل البحر الأحمر ذو أهمية لحركة التجارة العالمية من وإلى السودان، وهذا يضفى أهمية كبيرة للبحر الأحمر بالنسبة للسودان، وبالتالي وضع استراتيجيات أمنية للحفاظ على أمنه وحركة الملاحة فيه، عبر إنشاء قوة عسكرية بحرية ذات إمكانيات كبيرة، تحتوى على أسطول كبير من القطع البحرية، تمكن السودان من حماية المصالح السودانية والإقليمية والدولية العابرة عبر البحر الأحمر، لمنع أي اختراق يهدد انسياب حركة التجارة للسودان وأفريقيا وبقية دول العالم.
  3. تطل على شاطئ البحر الأحمر دولتان من أكبر الدول العربية، هما السعودية في الشاطئ الشرقي ومصر في الشاطئ الغربي، وهما مركز ثقل في الوطن العربي حيث يرتبط تأمين البحر الأحمر بالنسبة للأمن الوطني السوداني بالتنسيق مع هذه القوة الإقليمية العربية، بالإضافة للنسيق مع أرتيريا التي تمتلك أطول ساحل على البحر الأحمر من الجهة الأفريقية، وجيبوتي التي تتحكم في الممر الجنوبي للبحر الأحمر الأحمر إسوة باليمن والتي تنتشر فيها قواعد عسكرية دولية للدول الكبرى.
  4. الدبلوماسية الإسرائيلية تعمل عبر كافة السبل لتأكيد الأهمية الكبرى التي يحتلها البحر الأحمر بالنسبة لمصالحها، وتلعب اسرائيل دوراً رئيسيا في الصراع في البحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي الشيء الذى قد يحدث اختراقات مستقبلية للأمن الوطني السوداني، عليه فمن الأهمية أن يلعب السودان دورا فاعلاً في تأمين البحر الأحمر الممر المائي الوحيد لصادراته ووارداته عبر التنسيق مع الدول العربية والأفريقية المطلة عليه.

ختاماً:
إن أمن البحر الأحمر يعتبر من أهم المحاور الأمنية المباشرة للأمن الوطني السوداني، حيث يمثل البحر الأحمر قناة الوصل بين السودان والعالم الخارجي عبر البحار المفتوحة في المحيطين الهندي والأطلنطي عبر البحر المتوسط وقناة السويس، فضلاً عن تحكمه في مخارج ومداخل كل من البحر المتوسط والخليج العربي، حيث أن أي تحرك عبر أي منهما يجب أن يمر بالبحر الأحمر، كما أن أغلب الحمولات البحرية التي تمر في البحر الأحمر حمولات سودانية وعربية وأفريقية، وهذا يضفى أهمية خاصة على أمن السودان و الدول العربية والأفريقية المطلة عليه، حيث إذا تعطلت الملاحة في البحر الأحمر سوف تتوقف كل حركة التجارة العالمية بين السودان والعالم الخارجي، الشيء الذى يؤدى إلى تهديد الأمن الوطني السوداني.
عليه وفقاً للمعطيات أعلاه، يجب على صانعي القرار والفاعلين السياسيين في السودان، العمل على وضع استراتيجية تعمل على تحقيق مصالح السودان الأمنية والاقتصادية والسياسية في البحر الأحمر، لتلافى وقوع أي كارثة مستقبلية تعرقل سير الملاحة عبر البحر الأحمر من وإلى السودان، لكى تكون الدولة السودانية في مأمن من الخاطر المستقبلية التي يمكن أن تنجم من الصراع والتنافس الدولي في البحر الأحمر، عليه يجب أن التركيز على الأهمية الاستراتيجية والمحورية للبحر الأحمر، والتي تعد من أهم قضايا الأمن الوطني السوداني والأمن القومي العربي والأفريقية والدولي ككل.

23 اغسطس ٢٠٢٤م

اترك رد

error: Content is protected !!