كثيرة هي نوادر حياة البادية والقري والأرياف حيث يعتمد الأهالي علي الزراعة وتربية المواشي، ويستخلص من هذه النوادر بعض العبر في واقعنا المعاش، فنجد البَوُّ (العبوب بالعامية السودانية) هو جلد رضيع الضأن أو الماعز الذي مات، يُحشي بالقش أو التبن ليبدو وكأنه الوليد ذاته، كي ترى النعجة صورة ابنها الممدد أمامها وتشم رائحته فتدر له اللبن ويطلق لقب البو علي الشخص الذي لا قيمة له، ومنها خيال المآتة أو الفزاعة (الهواب بالعامية السودانية) وهو عمود من الخشب يضع المزارعون عليه قطعة من القماش، يحركها الهواء لتبعد الطيور عن المحاصيل الزراعية، ويلقب الشخص الذي لا يقدم ولا يؤخر يعني “زي قلته” بخيال المآتة، ومنها المرياع وهو كبش قوي البنية يربي بصورة معينة ليقود القطيع ويتبع الحمار الذي يركبه راعي القطيع.
المرياع ( جمعه مراييع) كبش من الغنم، يُعزل و يُحرم من أمه منذ لحظة ولادته ولم تتاح له فرصة أن يشرب حليب اللبأ (Colostrum)، واللبأ عامية سودانية وهي فصيحة وتعني باكورة إنتاج الغدد الثديية للأم وهو سائل يخرج من الثدي في أول أيام بعد الولادة ويتكون فقط في الأسبوع الأول والثاني بعد الولادة ثم يختفي وهو غني بالمواد الغذائية والأجسام المضادة لزيادة مناعة الوليد ومقاومته للأمراض)، هذا المرياع لم يذق حليب أمه، وحتي يعيش غالبًا ما يوضع مع أنثى الحمار (الأتان) ليرضع منها من رضاعة صناعية (تشبه البزازة في العامية السودانية) توضع في خرجها فيظن أنها أمه ويكبر بأن الأتان أمه فيبقى معها طول حياته فيظل قريبا منها دائما، بعد أن يكبر المرياع يُخصى ولا يُجزّ صوفه (للهيبة) وتنمو قرونه فيبدو ضخماً له هيبة؛ و عادة تُعلّق حول عنقه الأجراس الرنانة يطلق عليها “القرقاع” فتحدث صوتا أثناء الحركة والمشي فيسمعه باقي أفراد القطيع فيستمرون في تبعيته والمشي خلفه أينما توجه.
يتسم المرياع بالطاعة والرضوخ للراعي الأمر الذي يمكنه من قيادة قطيعه بسهولة ويسر، يسير القطيع دائما خلف المرياع أينما سار وإن كان المسير سينتهي بموتهم! كما أن صفة المرياع الأصيلة هي السير خلف الحمار ولا يتجاوزه أبدا.
و المرياع في اللغة الإنجليزية يطلق عليه Judas Goat أو “يهوذا الماعز”، لاعتقاد سائد عند تلك الشعوب بأن يهوذا هو الذي تسبب في صلب السيد المسيح عليه السلام، وذلك بخيانته له وتسليمه إلى الرومان، كما أنها تعني أيضا الكبش الذي يقود قطيع الغنم إلي المسلخ إلي حيث تذبح ويسلم هو للاستفادة منه في قيادة قطيع آخر، استخدمت ذات الكلمة في القرن الخامس عشر الميلادي لتحمل المعني العربي، ويطلق علي المرياع أيضا Bellwether التي تعني بالعربية الكبش القائد، وتستخدم كمصطلح سياسي، في كثير من الأحيان بمعني سلبي لوصف منطقة جغرافية تتبع منطقة أخرى سياسيًّا، فبناء على نتيجة الانتخابات بالمنطقة الأولى مثلا تستطيع التنبؤ بالنتيجة بالمنطقة الأخرى كما يستخدم كذلك في دنيا الاقتصاد والمال كمؤشر للتنبؤات في المجالين المذكورين.
المرياع عموما قائد ذو هيبة عظيمة مَغشوشة غير حقيقية تابع لا يسير إلا إذا سار الحمار أمامه ولا يقدم على تجاوزه أبداً، ويستعار معناه لوصف بني البشر الذين يسيرون دون هدي كالقطيع خلف قائد مغشوش الهيبة مطيع تابع لغيره و تأسيسا علي هذا: كم نقابل في حياتنا اليومية من هؤلاء المراييع، وكم منا من يتبعهم إما لحلاوة كلامهم أو لحسن مظهرهم أو حتى صخبهم، ومنا من يتبعهم لأنه تحت سلطتهم ويظن أنه ما بيده حيلة إلا اتباعهم مع علمنا بأن هؤلاء ليسوا بقادة إنما هم أداة في يد الراعي وأنهم لا يتبعون إلا حماراً لا يتجاوزنه أبدا.
من المؤلم حد الفجيعة أن تعج الساحة السياسية السودانية بكثير من المراييع في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، و من المؤلم جدا أن تنطبق صفة المراييع الى حد كبير على بعض زعماء القوى السياسية السودانية ومن يتبعونهم من القطيع الذين يسيرون خلفهم، هؤلاء المراييع لا يتجاوزون الحمير (القوي الأجنبية المتكالبة على السودان) أبدا، دعونا ننظر من حولنا لنري كم من أتباع يسيرون خلف هؤلاء المراييع التي تسير خلف راعي دولي يرضعهم من ثدي الخيانة مع الولاء الأعمى لهذا الراعي! ، كأن هؤلاء المراييع لم يرضعوا من ثدي الوطنية السامقة أبدا فطمست بصيرتهم و وطفقوا يتبعون هؤلاء الحمير ولا يتجاوزونهم أبدا حتى و إن أورد ذلك السودان مورد الهلاك، و حقيقة يفعلون ذلك ولكنهم لا يبصرون إلا ذواتهم الحزبية والشخصية الشحيحة لذا علي القوي الحية من المجتمع السوداني الاتحاد بكل أطيافها لمناهضة هؤلاء المراييع سلميا قبل أن يغرق المركب بنا جميعا و لن نستبين النصح إلا ضحى الغد و عندها ولات حين مندمة.
والله المستعان