الرواية الأولى

نروي لتعرف

اذا عرف السبب/ اسامة عبدالماجد

(المرتزقة)، وجه الحرب الأقبح

د. اسامة محمد عبدالرحيم

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023م، تكشّف للعالم وجه جديد من وجوه الصراع، أكثر بشاعة وأشد خطورة على يد المرتزقة الذين استجلبتهم قيادة قوات مليشيا الدعم السريع و داعموها للقتال تحت رايتها . ولم تعد الحرب مجرد مواجهة بين جيش نظامي ومليشيا متمردة، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة لتدفق المرتزقة من كل حدب وصوب، وجُلبوا بأموال مشغّلي الحرب وعدّتهم وخبراتهم وساهموا في إطالة أمد الحرب، وتعقيد مساراتها، وتوسيع رقعتها، وارتكاب فظائع لا تمت لأي منظومة أخلاقية أو قانونية بصلة.

في ما يلي، نحاول أن نسلّط الضوء على ظاهرة المرتزقة كوجه قبيح للحرب، من خلال تتبع جذورها التاريخية، ومرورها بتجارب سابقة، وصولًا إلى واقعها الراهن في السودان، مع تحليلٍ خاص للجوانب الأخطر مثل تجنيد الأطفال والنساء في هذه الحرب.

من قديم الزمان، عرفت (المرتزقة) كمقاتلين يُستجلبون للقتال في صراعات لا تخصهم وبدوافع لا علاقة لها بالقضية أو الوطنية أو العقيدة، بل لأجل المال فقط و بالمقابل المادي. وظلت هذه الظاهرة حاضرة منذ العصور القديمة؛ ففي الإمبراطوريات اليونانية والرومانية، كان الملوك يستعينون بمقاتلين أجانب، وفي القرون الوسطى وُجِدت جيوش كاملة من المرتزقة تُؤجّر لملوك أوروبا.

في قلب ظاهرة الارتزاق يكمن منطق المال المجرد؛ حيث يصبح القتل سلعة، والموت وظيفة، والدم تجارة. فهؤلاء المرتزقة لا يقاتلون عن عقيدة، ولا يلتزمون بأخلاقيات المهنة العسكرية، بل يختزلون الحرب في أجر يومي، وسفك دماء مقابل حفنة من الدولارات او مقابل تمكينهم من الاستيلاء على مقتنيات و املاك الغير بدواعي الغنيمة، مما يفضي إلى فقدان السيطرة عليهم، ووقوع جرائم بشعة ضد المدنيين والممتلكات العامة والخاصة.

برز المرتزقة في حروب أوروبا بالقرون الوسطى، وفي حروب نابليون، ثم في الاستعمار الغربي لأفريقيا وآسيا. وقد اشتهرت جماعة (اللانسكنيكت _ Landsknechts )الألمانية كأحد أشرس المرتزقة في أوروبا. كما استخدمت شركة الهند الشرقية البريطانية آلاف المرتزقة المحليين لتأمين مصالحها الاستعمارية.

تجددت ظاهرة المرتزقة في الحروب الحديثة، لاسيما في أفريقيا. فقد برزت شركات مثل (إكزيكيتف آوتكمز _ Executive Outcomes )في أنغولا وسيراليون، ثم لاحقًا (بلاك ووتر _ Blackwater )الأمريكية في العراق وأفغانستان. وتحوّلت الظاهرة إلى نموذج تجاري بحت، يتضمن شركات خاصة تقدّم خدمات الحرب والقتال والدعم اللوجستي مقابل المال.

و للتمييز ما بين المليشيا و المرتزقة، يمكن القول أن المليشيا هي جماعة مسلحة غير نظامية، غالبًا ما تنشأ من داخل المجتمع المحلي بدافع أيديولوجي أو عرقي أو قبلي أو جهوي، وقد تكون مدفوعة بتصورات سياسية أو دينية، لكنها تبقى مرتبطة بجذورها المحلية.
أما المرتزقة، فهم عناصر أجنبية لا انتماء لهم إلى طرف الصراع،يتم تجميعهم ويأتون من الخارج، ويقاتلون لقاء المال فقط دون التزام أخلاقي أو وطني.

حتى قبل الحرب الحالية، لم يكن السودان بمنأى عن المرتزقة. ففي فترات الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب، استخدمت بعض الأطراف مقاتلين أجانب بتمويل خارجي. وفي دارفور، ظهرت تجنيدات قبلية عابرة للحدود، استُخدمت لأغراض سياسية وميدانية.

والمثير في الحالة السودانية أن مليشيا الدعم السريع جمعت بين النموذجين؛ فهي في أصلها مليشيا قبلية، ثم تحولت إلى منصة لتوظيف المرتزقة من عشرات الجنسيات، فأصبحت كيانًا هجينيًا يجمع بين وحشية المليشيا، وبرود المرتزقة، في توليفة كارثية زادت من فظاعة الحرب.

والمشهد الحالي يُظهر أوسع استخدام للمرتزقة في تاريخ السودان. مليشيا الدعم السريع، بعد خسائرها المتراكمة، لجأت إلى استجلاب مقاتلين من عشرات الجنسيات، موزعين على تخصصات مختلفة، وفق تنظيم وتخطيط واضح، وعلى يد افراد و شركات متخصصة في (تفويج المرتزقة) تحت نظام المقاولة والارتزاق المنظّم و العائد المادي و التجاري.

و تميزت مرتزقة حرب السودان بضمها لعدد من الجنسيات و التخصصات القتالية شاركوا في القتال بزي قوات مليشيا الدعم السريع في معظم مواقع القتال بالعاصمة الخرطوم و وسط و غرب السودان و بجميع اتجاهات العمليات العسكرية النشطة ، حيث نجد أن أبرز الجنسيات والدول التي وردت في التقارير الميدانية والاستخباراتية، ما يلي:
جنوب السودان: منها خبراء في المدفعية والميدان و قيادة المدرعات.
إثيوبيا: قناصة، مقاتلات نساء، طيارون فنيون.
أوكرانيا وروسيا: مشغلو مسيرات وخبراء قوات خاصة.
كولومبيا: مقاتلو حرب المدن والعمليات الخاصة و التدريب على استخدام الاسلحة الخفيفة و الرشاشات.
روسيا (جماعة فاغنر _ Wagner Group): وهي منظمة عسكرية روسية غير رسمية ترتبط بالكرملين، ولها سجل حافل بالجرائم في إفريقيا وأوكرانيا وسوريا، حيث قامت بإدارة عمليات، تدريب، تخطيط وقتال.
سوريا: فرق الصيانة والإصلاح للآليات.
تشاد، إفريقيا الوسطى، النيجر، مالي، غرب إفريقيا: مشاة ومرتزقة من مجتمعات فقيرة وبيئات صراعية.
كينيا: طيارون مأجورون للنقل الجوي و الدعم اللوجستي.
الإمارات: مستشارون وخبراء دعم تقني وإداري.
ليبيا: سائقون، مشاة، قناصة، بإشراف شبكات تهريب متخصصة.

كما تم توظيف المرتزقة ضمن خطوط متكاملة، وفي أدوار وتخصصات متعددة في الميدان وبتنظيم دقيق يشمل:
المدفعية الثقيلة في الميدان (جنوب السودان).
القنص من مسافات بعيدة (إثيوبيا).
عمليات الاقتحام والتطهير للمواقع الحصينة (كولومبيا وروسيا).
تشغيل الطائرات المسيّرة (أوكرانيا وروسيا).
قيادة الطائرات للنقل و الشحن الجوي (كينيا وروسيا).
الإصلاح الميداني للآليات (سوريا).
الدعم اللوجستي والتوجيه الإلكتروني و منظومات القيادة و السيطرة و الحرب الالكترونية(الإمارات).

إضافة إلى شركات تؤدي أدوارًا متكاملة في تنفيذ العمليات العسكرية، ومؤسسات متخصصة في استقدام واستخدام المرتزقة، تقوم بعمليات شاملة تتضمن( التعاقد، النقل، التدريب، والإدماج الميداني)، بل وتنفيذ حزم عمليات قتالية متكاملة تشمل ( تحرير منطقة او موقع، فك حصار، توجيه مسيرات، احتلال مواقع، استهداف بنوك أهداف، قصف مراكز القيادة، توثيق العمليات، و خلافه من عمليات القتال)

رغم أن بعض المرتزقة المشاركين في الحرب السودانية ينحدرون من دول مجاورة، إلا أن الظاهرة الأخطر تمثّلت في استقدام مقاتلين من دول لا تربطها بالسودان أي حدود جغرافية أو اشتباكات تقليدية، مثل كولومبيا، أوكرانيا، روسيا، سوريا، وكينيا. إن هذا النمط يُعبّر عن تدويل مباشر للقتال في السودان ويؤكد تغير طبيعة الصراع، وتحويله إلى ساحة اختبار لقوى متعددة، بعضها يسعى للربح التجاري عبر شركات التعاقد العسكري، وبعضها الآخر يتعامل مع الحرب كسوق لتصريف فائض المرتزقة الذين فشلوا أو استُنزفوا في جبهات أخرى.

إن من أكثر الحالات غرابة ولفتًا للانتباه في حرب السودان، هي مشاركة المرتزقة الكولومبيين. فهؤلاء ينحدر أغلبهم من وحدات سابقة في قوات مكافحة العصابات في كولومبيا، وتم فصلهم بعد خوضهم لحروب الأدغال والصراعات منخفضة الشدة ضد القوات المسلحة الثورية الكولومبية ( الفارك _ FARC) والجماعات الإجرامية.

لاحقًا، استُجلب عدد منهم للعمل في أوكرانيا ضمن وحدات أجنبية تقاتل إلى جانب الجيش الأوكراني، حيث واجهوا لأول مرة حربًا تقليدية عالية الكثافة، بأسلحة دقيقة، وطيران مسير، وقصف مدفعي بعيد المدى. وبحسب تقارير عسكرية موثقة، فقد قُتل عدد كبير من الكولومبيين في أوكرانيا بسبب ضعف تأهيلهم لهذا النوع من القتال، وفشلهم في التعامل مع نمط المعركة المعتمد على التكنولوجيا الحديثة والتكتيك النظامي.

بعد تلك التجربة القاسية، انسحب من نجا منهم من الساحة الأوكرانية، ليتم لاحقًا توظيف بعضهم في السودان عبر شركات مقاولة حربية ومكاتب توظيف للمرتزقة في أمريكا اللاتينية، جُلها تعمل بواجهات أمنية خاصة في الإمارات وليبيا.
طُرح عليهم السودان كـ(بيئة أسهل) ومصدر رزق مباشر مقابل أدوار قتالية محددة في المناطق الحضرية، والاقتحامات، وتكتيكات الاشتباك داخل المدن.

لكن الواقع الميداني أثبت أن هؤلاء المرتزقة الكولومبيين يفتقرون إلى التكيف الجغرافي والثقافي والعملياتي في البيئة السودانية، ويعانون من عزلة ميدانية ونفسية، خصوصًا في ظل افتقارهم للغة أو قاعدة لوجستية مستقرة.

و لعله، أن من أخطر ما شهدته حرب السودان، هو تجنيد الأطفال المرتزقة من دول أفريقية فقيرة، واستغلال حاجتهم عبر وسطاء محليين، والزجُّ بهم في الجبهات كدروع بشرية، أو مجندين صغار في وحدات الدعم السريع.

ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل تم تجنيد إناث مرتزقة من إثيوبيا تحديدًا، بعضهن يعملن كمقاتلات، والبعض الآخر كجزء من (فرق التأثير) في المناطق المحتلة، يُستخدمْن للتجسس، الترويع، أو تنفيذ جرائم ضد النساء، في واحدة من أبشع صور توظيف الجندر في الحروب، فضلاً عن المشاركة في القتال كقناصة خاصة في المدن و الابنية الحضرية.

لقد مارس المرتزقة في السودان أشنع صور الجرائم، حيث شملت و لم تقتصر على :
النهب المنظم للبنوك، المخازن، المنازل، والمتاحف.
الاغتصاب الجماعي كأداة حرب، خاصة في دارفور والخرطوم.
القتل العشوائي والجماعي للسكان في المدن والقرى.
التعذيب الوحشي للأسرى والمدنيين.
التهجير القسري لملايين المدنيين.

تدمير المستشفيات، المدارس، الجامعات، الكنائس والمساجد.
استخدام الأسلحة المحرّمة وعدم الالتزام بقواعد الاشتباك.
إحراق المكتبات والمتاحف والمتاجر التاريخية في أمدرمان ونيالا والجنينة.

إن هذه الجرائم لا تقع فقط تحت تصنيف (جرائم حرب)، بل تُعد جرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، تستوجب الملاحقة الجنائية الدولية، وليس فقط الإدانة الإعلامية أو الأخلاقية.

بناءاً على معطيات الواقع وتجارب الحرب النظامية وغير النظامية، يبقى لزاماً البحث عن سبل اقصاء او تحييد المرتزقة الاجانب في قتال السودان، ويمكن للجيش السوداني أن يطوّر خارطة طريق تكتيكية وأمنية للتعامل مع المرتزقة الأجانب القادمين من دول بعيدة، وخصوصًا الكولومبيين و الاوكرانيين تشمل:
تمييزهم و تعقبهم و رصد سماتهم و هوياتهم القتالية.
استثمار السكان المحليين في الابلاغ عن تحركاتهم.
استهداف خطوط امدادهم و مواقع ايوائهم.
تكثيف الحملات الاعلامية و القانونية لتعريتهم و كشف ادوارهم القذرة بما يشكل ضغطا نفسياً عليهم.
استخدام تكتيكات عسكرية مباشرة ضدهم من كمائن و ضربات في بيئات غريبة عليهم.
تفعيل الطيران المسير بالتركيز عليهم في توجيه ضربات مؤثرة و دقيقة.
التواصل مع مؤسسات دولية لمساءلة الشركات الوسيطة التي تورّطت في تجنيدهم، ورفع دعاوى باسم ضحايا جرائمهم.

إن مشاركة مرتزقة كولومبيين وأوكرانيين وغيرهم في حرب السودان ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي مؤشر خطير على تحول السودان إلى ساحة صراع تجريبي للمرتزقة الدوليين. وهذا يضع على عاتق الدولة السودانية –( بجيشها ومؤسساتها وأجهزتها) – مسؤولية مزدوجة هي الدفاع عن سيادة البلاد ومجتمعاتها، مع فضح وتفكيك شبكات المرتزقة وإعادة الاعتبار للحرب النبيلة التي يخوضها الجيش ضد مليشيا خارجة عن القانون تحوّلت إلى حاضنة دولية للمرتزقة وموطئ قدم لأعداء الدولة.

لقد كشفت حرب السودان، وكما لم يحدث من قبل، عن بشاعة المرتزقة كأداة للقتل خارج القانون، وكذراع خفي للقوى الإقليمية والدولية في العبث بمصائر الشعوب. فالمرتزقة هم الوجه القبيح للحرب، وحين يُستبدل الجندي الوطني بالمأجور، تتحول المعركة من صراع سياسي أو عسكري إلى سوق للدم و العنف غير المشروع .

إن مليشيا الدعم السريع لم تكن مجرد طرف داخلي متمرد، بل أصبحت منصة دولية لتوظيف المرتزقة وتدويل الحرب و تهديد الامن و الاستقرار المحلي و الاقليمي، و عليه، فإننا ندعو الضمير العالمي، والمنظمات الحقوقية، والمحاكم الدولية، والرأي العام، كي لا يُترك السودان وحيدًا في مواجهة هذا الجحيم المأجور و المدعوم. إن من يقاتلون من أجل المال لا يزرعون إلا الموت، ومن يموّلونهم يشتركون في الجريمة، فالمحاسبة لم تعد ترفاً قانونياً، بل ضرورة وجودية لشعبٍ يستهدف في انسانيته، وسيبقى الصمت الدولي شراكة غير معلنة في الجريمة ما لم يُكسر بحزم وعدالة ومساءلة.

الإثنين 4 أغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!