الرأي

السودان الجريح: حين تتكلم الدموع، وتصمت البنادق

بقلم: د. أمجد عمر محمد

في بلاد كانت تنام على أنغام النيل، وتستيقظ على تباشير الشمس فوق الجروف، اجتاحتها نار الحرب، فصارت الأرصفة تبكي، والطرقات تُنذر بالخطر، والأمهات يحفظن أسماء الغائبين في دعاء الفجر. في هذا البلد، لم تعد الحرب خبرًا عابرًا على شاشات الأخبار، بل أصبحت واقعًا يوميًا، يترك أثره في كل بيت، وكل قلب، وكل ذاكرة.

ما أصعب أن تكبر الطفولة بلا ضحكة، أن يسأل طفل صغير: “أبوي وين؟”، ولا يجد من يجيبه إلا بالصمت. الأيتام في السودان ليسوا أرقامًا في تقارير، إنهم وجوه تائهة تبحث عن حنان، وعيون تترقب كفًا تمسح دمعتها. صاروا يكبرون في العراء، بلا دفء ولا وجهة، يتعلمون القسوة من الشوارع بدلًا من القصص قبل النوم، ويتقنون لغة البقاء بدلًا من اللعب والمرح.

وفي زوايا البيوت المنهكة، تقبع أرامل الحرب، نساء شابات تكلّفن ما لا تحتمله الروح. فقدن أزواجهن، لا في موت طبيعي، بل في قصفٍ أعمى أو اشتباك لا يميز بين مدني ومقاتل. يحملن الآن مسؤولية أسر كاملة، ينهضن كل صباح وهن يحفظن أسماء أطفالهن، ووجعهن، وقوة لا تُرى، لكنها تبقي البيت واقفًا على أطرافه.

أما الجرحى، فهم بقايا أجساد تعبت من الترميم. من فقدوا أطرافهم، لم يفقدوها فقط، بل فقدوا معها أشياء كثيرة: القدرة على العمل، الإحساس بالاستقلال، وحتى نظرة الناس. هم يمشون بيننا، إن مشوا، ويجلسون بصمت في زوايا المستشفيات، يبحثون عن طرف صناعي، عن وطن لا ينسى من ضحّى لأجله.

وهناك من لا يستطيع حتى الصراخ. المغتصبات، أولئك النساء اللواتي خضن المعركة دون سلاح، وقعن في فخ الصمت بعد أن انتهكتهن الحرب، ولم يجدن من يأخذ بأيديهن. لا يتحدثن، لا لأن الألم قليل، بل لأن المجتمع أحيانًا يجلد الضحية بدل أن يحتضنها. هنّ لا يحتجن إلى الشفقة، بل إلى عدالة، إلى أمان، إلى من يخبرهن أنهن لسن وحدهن، وأن كرامتهن لا تزال محفوظة.

وسط هذا الركام الإنساني، يبقى السؤال: من يضمد جراح هذا الوطن؟ من يربّت على قلب الطفل اليتيم؟ من يُمسك بيد الأرملة في صباحٍ شاق؟ من يبتسم في وجه جريح فقد جزءًا منه لكنه لم يفقد إنسانيته؟ من يقول للمغتصبة إنّها ضحية وليست عارًا؟

الشفاء لا يأتي من اتفاقيات تُوقع على الورق، بل من قلوب تُفتح للرحمة. من أيدٍ تُمدّ للمساعدة. من وجدانٍ جماعي يقرر أن يكون إنسانيًا، مهما أثقلت الحرب الأرواح. السودان بحاجة إلى أن نكون له وطنًا صغيرًا في كل شارع، في كل بيت، في كل قلب نابض بالرحمة.

وإن لم نستطع أن نعيد من مات، فلنحفظ من بقي. ولنكن في هذا الزمن الصعب، بعضًا من الضوء، في وطنٍ أظلمته البنادق، وتنتظر شمسه أن تشرق من جديد.

إنّ كل واحدٍ منا يحمل في يده بذرة أمل، يمكن أن تُزرع في قلب متعب، في نفسٍ مكسورة، في بيتٍ أرهقته الفقد. لا نحتاج إلى الكثير لنكون عونًا؛ كلمة طيبة، مساعدة بسيطة، التفاتة حانية، قد تغيّر مجرى يومٍ كامل في حياة من لا يملكون شيئًا سوى الأمل.

فلنلتفت لمن هم حولنا، لمن يتنفسون الصبر ويكتمون وجعهم. لنكن لهم السند، والعون، والكتف. فالسودان لا يُبنى بالحجارة فقط، بل تُبنيه الأرواح المتآزرة، والقلوب التي تؤمن بأن الألم إذا تقاسمه الناس، خفّ وزنه.

اترك رد

error: Content is protected !!