الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي قضايا

الجيش: بين أجندة الرباعية والسردية الوطنية

الدكتور الدرديري محمد أحمد

(٢ من ٤)

قبل أن ندخل في المقارنة بين مختلف جوانب سرديتي الاستقلال في الهند والسودان، نعقد مقارنة بين النخب التي صاغت السرديتين.

اتخذ النضال الهندي من أجل الاستقلال مسارًا طويلاً ومعقدًا امتدّ لأكثر من قرن. وتطوّر من مقاومات محلية متفرّقة إلى حركة وطنية جامعة بدأت عنيفة، ثم اتخذت شكلها السلمي. فتأسس حزب المؤتمر الوطني الهندي مبكرا في العام ١٨٨٥ لأغراض الحوار مع البريطانيين وليس لمواجهتهم. وفي عام ١٩١٥ رجع المهاتما غاندي من جنوب افريقيا وأدخل شعار اللاعنف Ahimsa والعصيان المدني Satyagraha جاعلا تلك وسائلا للنضال ومُثلا أخلاقية عليا للجميع.

وأول ما يلاحظ في النخبة الهندية هو أنها أسست حزب المؤتمر الهندي قبل الاستقلال باثنين وستين عاماً، وظلت متحدة طوال هذه المدة. وثاني ما هناك هو أن النخبة الهندية جعلت من حزب المؤتمر منبرا جامعا، متجاوزة الأشكال القومية والدينية والطائفية التي كانت سائدة قبله. وثالث ما كان هو أن حزب المؤتمر الهندي قد اعتنى بالريف عناية فائقة وجعل من تراثه نبراسا وملهما للنضال. ثم أقام شبكة تنظيمية ممتدة من القرى إلى المدن كوّنها من لجان المقاطعات والولايات وأتاح لكل إقليم مساحة للتعبير عن خصوصيته داخل البنية العامة للحزب. والرابع هو أن المؤتمر الهندي لم يسمح بهيمنة أي تيار واحد عليه. فتوازنت داخله الاتجاهات اليسارية واليمينية والمعتدلة. ومُنح غاندي ونهرو وباتيل الزعامة المطلقة والرمزية والقيادة الجماعية. فنجح هذا الثلاثي في توحيد الهند رغم فسيفسائها العجيبة، واستمر مصدرا للإلهام بعد الاستقلال. وعبر هذا الامتداد الزمني الطويل، وبهذه السياسة الواعية، تحوّل حزب المؤتمر الهندي من منتدى نخبوي إلى حركة تحرر وطني جماهيرية شاملة لكل فئات المجتمع الهندي وتياراته السياسية. بل نجح في أن يجعل من سردية الاستقلال سردية للمستقبل وللاستقرار والنماء.

بالمقابل، حاولت النخبة السودانية استنساخ تجربة حزب المؤتمر الهندي، الذي كان ملهماً لها، بتأسيس مؤتمر الخريجين عام ١٩٣٨. وحّد ذلك التنظيم خريجي المدارس الوسطى والعليا (كلية غوردونالتذكارية ومدرسة كتشنر الطبية) متجاوزا انتماءاتهم الطائفية والإقليمية. ونجح في أن يتقدم في العام ١٩٤٢ بمذكرة للحاكم العام تطالب بمنح السودان حق تقرير المصير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كانت تلك المذكرة لحظة التأسيس الفعلي لمؤتمر الخريجين. بل مثلت لحظة ميلاد “سردية الاستقلال” السودانية. اذ أنها كانت خطابا جامعا تجاوز الانقسامات التقليدية الى شمالٍ وجنوب، وأنصارٍ وختمية.

غير أن نقطة الضعف التي استغلها المستعمر من ناحية، والطائفتان الدينيتان من ناحية أخرى، كانت هي فشل مؤتمر الخريجين في الخروج من البرج العاجي للنخبة. فظل الانتساب اليه قاصرا على حملة الشهادات، الامر الذي جعله يَستبعد تلقائيا قطاعات فاعلة كزعماء القبائل، والتجار التقليديين، وقيادات المزارعين، وسكان المدن. وانشغل بقضايا الفئة الصغيرة التي يمثلها، مثل الوظائف وسودنتها، والتمثيل في الإدارة، والتطور الدستوري؛ وذلك على حساب قضايا الريف وغير المتعلمين مثل الأرض، والمياه، والمشاريع الزراعية، والضرائب. كما انه لم يُعن بالأساليب التي تعبئ الجماهير. فهو حين قرر المطالبة بتقرير المصير رفع مذكرته للمستعمر دون ان يسبقها بعمل تعبوي لنيل التفويض الجماهيري. فيما كان بوسعه جعل تلك المطالبة موضوعا لحراك شعبي يتخذ شكل الندوات والمظاهرات والعصيان المدني مما يؤدي الى التفاف الجماهير حوله. كما انه أهمل الريف فلم يتوسل له بخطاب يستلهم تراثه ويعبر عن انشغالاته كما فعل قادة المؤتمر الهندي.

سهّل ذلك على الطائفتين الدينيتين الانفراد بالريف والتحكم في ولاء غير المتعلمين وادعاء تمثيل غالبية الشعب. ونتج عنه أن النخبة صارت بحاجة للطائفتين. بل كان سببا لإنقسام الشريحة التي صاغت سردية الاستقلال على صغرها. إذ لعب الاستعمار لعبته التقليدية وتصاعدت الولاءات الطائفية داخل مؤتمر الخريجين لينقسم عام ١٩٤٤ الى مجموعتين احداهما استقلالية والأخرى اتحادية، تستظل كلا منهما بزعيم وتعتمد على طائفته لكسب تأييد الجماهير. فبدلا من أن تبني النخبة كيانا جامعا لكل السودانيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، ارتمت في أحضان الولاءات الطائفية، واعتمدت على كيانات ما قبل الاستعمار – وإذا شئت قلت ما قبل الحداثة – وجعلت تلك الكيانات أساس تكويناتها الحزبية. بل جعلت من الولاء الشخصي للزعامات الروحية وسيلتها للكسب السياسي. وتردى الخطاب بين المجموعتين تبعا لذلك. ثم أججته الصحف والخطب العامة لتبلغ به درجة بالغة من الحدة وصلت أحيانا مرحلة المواجهات الشعبية. وبلغت القطيعة بين الحزبين والطائفتين مدى جعل مجرد المصافحة بين السيدين في ٢٥ يناير ١٩٥٣ حدثا تاريخيا. كما ان التنافس الداخلي بين السياسيين على ود الزعيم الروحي كان على أشده. وننتقل الآن للمقارنة بين السرديتين اللتين انتجهما حراك هاتين النخبتين، الهندية فالسودانية، بادئين بأثرهما في كتابة الدستور.

بسبب توحد النخبة الهندية حول المؤتمر الهندي اتسعت وتنوعت مضامين سردية الاستقلال الهندي. ورغم اختفاء غاندي وباتيل من المشهد بعيد الاستقلال بقليل، بسبب اغتيال الأول ووفاة الثاني، استمرت رمزية القيادة الجامعة متمثلة في نهرو، فكان الكبير الذي يجمع الناس عليه ويحتكمون اليه. فمكن ذلك الهند من أن تنجز كتابة الدستور في أقل من ثلاث سنوات من الاستقلال. اذ صدر الدستور الهندي في ٢٦ يناير ١٩٥٠، ليكون الأول خارج أوروبا والأمريكيتين. وقد جاء في أكثر من اربعمائة مادة فكان الأطول والأغزر محتوى على مستوى العالم. وان دل هذا فإنما يدل على كثافة ما احتوته السردية الهندية من مضامين مجمع عليها. ولك أن تقارن بدستور الاستقلال السوداني، الدستور الانتقالي لسنة ١٩٥٦، الذي جاء في ٥٨ مادة – وكأنه دستورا لجمعية – وصيغ في ليلة واحدة نقلا عن دستور الحكم الذاتي ١٩٥٣ الذي أعده الانجليز. أو تقارن بالدستور الانتقالي لسنة ١٩٨٥ الذي جاء في ٩٦ مادة. بل جاءت كل دساتيرنا الانتقالية التي تلت على هذا المنوال التيليغرافي، خلا دستور ٢٠٠٥ الذي جاء في ٢٢٦ مادة وستة جداول مطولة.

كان الهدف الأكبر للدستور الهندي هو أن يجسد سردية الاستقلال الوطني ويعبر عن مضامينها في نظام ديمقراطي جامع يعيد تعريف الهند كأمة مستقلة متعددة الهوية بعد قرون من الحكم الاستعماري والانقسامات القومية. فصيغ كعقد اجتماعي بين كل أديان وقوميات الهند وأقاليمها المترامية يقوم على أساس كفالة الحقوق الأساسية للجميع. تمتع الدستور الهندي بالمرونة وبعد النظر. فرغم احتوائه على جوانب جامدة ظلت كما هي، أُدخلت عليه علي مدي العقود الثمانية الماضية تعديلات تجاوزت المئة طالت جوانب أخرى مرنة فجعلت منه كيانا حيا ناميا ومواكبا. وهكذا استوت سردية الاستقلال الهندي على سوقها خلال فترة وجيزة، وتمددت فروعها عاليا، وتحولت الى نصوص دستورية نابضة بالحياة يمتاح الناس منها في كل انتخابات، وتُستلهم في كل أزمة.

في المقابل، تحقق استقلال السودان في ظروف انقسام النخبة. اذ لم ينجح لقاء السيدين في ان ينتج وحدة حقيقية. فما كانت الجبهة الاستقلالية التي نتجت عن اللقاء الا تحالفا تكتيكا جمّد الخلافات لكنه لم يذيبها. فظلت كامنة ومحتقنة على المستوى الشعبي. وقصارى ما أنجزته الجبهة الاستقلالية هو توحيد الموقف التفاوضي مع مصر وبريطانيا وتشكيل وزارة السودنة عام ١٩٥٣ للإشراف على استلام السودانيين الوظائف من البريطانيين. أما القضايا الوطنية الكبرى التي تواجه الأمة بعد الاستقلال والمتعلقة بالعقد الاجتماعي ونظام الحكم وكيفيته وعلاقة المركز بالأطراف فلم يتم التطرق لها بتاتا بسبب غياب الحد الأدنى من الإجماع الوطني. وبمجرد تحقيق الاستقلال في مطلع ١٩٥٦ فقدت الجبهة مبرر وجودها وعاد الحزبان للصراع على السلطة والموارد وانعكس ذلك على أداء البرلمان.

بُعيد الاستقلال، تقرر أن يتحول البرلمان الى جمعية تأسيسية لإنجاز الدستور، على أمل أن يتم بذلك الإجراء الشكلي تجاوز الصراع السياسي. لكن التغيير في الأشكال ما كان ليعني كثير شيء في غياب المضمون؛ فأعادت الجمعية انتاج ذات الانقسام الذي كان مستفحلا في البرلمان. وكانت أكبر المعضلات التي واجهت الجمعية التأسيسية هي مطالبة النواب الجنوبيين بدستور فدرالي. اذ رفضت الأغلبية الشمالية ذلك المطلب رفضا قاطعا، مما عطل أعمال الجمعية التأسيسية. فاستُدعيت حيلة تغيير الأشكال مجددا، بأن تم تشكيل لجنة الخمسة وخمسين في العام ١٩٥٧ لتَجاوز الاستعصاء. ولما استمر غياب التوافق على المحتوى، تصاعد الخلاف وتعطل عمل اللجنة أيضا. غير أن ذلك الخلاف لم يكن الوحيد. فلو كان قد تم تجاوزه لبرزت خلافات أخرى لا تقل منه حدة، على رأسها ما إذا كانت البلاد ستعتمد النظام البرلماني ام الرئاسي. ولم يكن ذلك اختلافا دستوريا أو فقهيا، كم كان يُغلف. وانما كان في جوهره صراعا على السلطة. فحزب الامة بأغلبيته البرلمانية الظاهرة كان يتبنى النظام البرلماني ليجعل السلطة الحقيقية بيد رئيس الوزراء. بينما كان الحزب الاتحادي الذي لا يتمتع بمثل تلك الأغلبية، يرغب في نظام بديل يمكنه من أن يبلغ بزعيمه الأكثر كاريزمية، إسماعيل الأزهري، رئاسة الجمهورية من خلال التحالفات، دون أغلبية برلمانية. يكشف هذا عن افتقار سردية الاستقلال السوداني للمضامين المجمع عليها والقابلة لأن يُعبر عنها حثيثا في دستور دائم كما جرى في الهند. وبسبب ذلك الفشل المبكر، اُختزل تاريخنا السياسي الحديث كله حول مسألة واحدة؛ هي البحث عن دستور دائم. ثم ننتقل للنظر في أثر ذلك على وحدة البلاد في كل من الهند والسودان.

أثناء سنوات النضال الطويلة كانت النخبة الهندية تحلم بتوحيد شبه القارة الهندية Indian Subcontinent كلها، أي ما كانت تسمى حينها الهند البريطانية British India. وهي البلاد التي تستعمرها بريطانيا إما مباشرة أو من خلال ممارسة الوصاية عليها. ويشمل ذلك كل من الهند الكبرى (بما فيها باكستان وبنغلاديش)، وسريلانكا (التي كانت مرتبطة اداريا بالهند)، وبورما (ميانمار حاليا)، وبوتان، ونيبال. ومن ثم جُعل التنوع الديني والاثني واللغوي أساس سردية الاستقلال الهندي، تحت شعار “الوحدة في التنوع” Unity in Diversity. غير أنه لما تشظّت الهند الكبرى عشية الاستقلال، فانفصلت عنها باكستان وبنغلاديش، ثم ابتعدت سيريلانكا، تبخر حلم وحدة شبه القارة الهندية. جعل ذلك الهندوس يمثلون الغالبية المطلقة (٨٠ ٪) في الهند المستقلة. لكنه لم يُغرِ النخبة الهندية للانكفاء على نفسها فتراجع سرديتها لتقيمها على أساس”هندوسية الهند”. فتم الاحتفاظ بأطروحة “الوحدة في التنوع” كما هي لتغدو أهم مضامين سردية الاستقلال الهندي. وتم الاحتفاظ بالفيدرالية المرنة. ذلك رغما عن أنها صممت أصلا لمعالجة مشاكل الأقلية المسلمة – التي ذهب غالبها بانفصال باكستان وبنغلاديش – ولاجتذاب الأقاليم البوذية في سريلانكا، وبوتان، ونيبال، وبورما. ورغما عن أنها فيدرالية تعطي الولايات صلاحيات واسعة، فلا تجيز للمركز أن يتدخل الا عند الطوارئ. 

في المقابل، أسقطت السردية السودانية الجنوب تماما من اعتبارها. وبالرغم مما يحسب لمذكرة تقرير المصير التي قدمت في ١٩٤٣ من أنها تحدثت عن السودان كله، الا أنها جاءت خالية من أي اشارة لخصوصية الجنوب. وفي ردة فعل متوقعة، أسس نفر من أوائل المتعلمين الجنوبيين، وأبرزهم بنجامين لوكي، وسانتينو دينق، وتوبي مادوت، حزباً عام ١٩٥١ لا علاقة له بمؤتمر الخريجين او بحزبي الحركة الوطنية أو مطالبها. سموه “حزب جنوب السودان”.  دعا ذلك الحزب الى جعل الجنوب إقليماً يتمتع بحكم ذاتي داخل سودان موحد. وكانت العبارة التي اتخذها شعارا له هي “الفيدرالية بعد الاستقلال” Federalism after Independence. ومما يسترعي الانتباه أن حزب جنوب السودان لم يطالب بالانفصال وانما سعى إلى شراكة سياسية عادلة. غير أن ذلك لم يدفع النخبة الى أن توسع في آفاق سرديتها كما فعلت النخبة في الهند. فما كانت ترى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام. ورغم أن الجنوبيين كانوا يتخوفون من أن يؤدي تخلف التعليم في الجنوب عنه في الشمال إلى ان تتحول السودنة الى وسيلة لهيمنة النخبة الشمالية على الجنوب، فان حكومة السودنة التي شكلت عام ١٩٥٣ لم تعمل على طمأنتهم بأن تضع معايير خاصة لسودنة الوظائف في الجنوب. أما ما جرّه ذلك على السودان من بعد من تطورات وتداعيات بالغة الأثر وعظيمة الخطر فهو أشهر من أن يروى. وننطلق لإجراء المقارنة بين السرديتين في النقطة الأخيرة، التي هي التوجه تلقاء الريف.

لم تُعنَ سردية الاستقلال الهندي بالريف فحسب، بل جعلته منطلق السردية ومصدر إلهامها وشرعيتها، ومقصدها النهائي. فجعل غاندي من الريف الهندي رمزاً للهوية الوطنية وكان يسميه “روح الهند”. وأطلق عبارته الشهيرة التي صارت نبراسا هاديا لجيل الاستقلال: “الهند الحقيقية ليست في دلهي أو بومباي، بل في سبعمائة ألف قرية”. ولم يكن يشار في الخطاب الهندي الى الريف بأنه “متخلفًا” بل كان يشار اليه بأنه “أصيلا”، ويُقدَّم بوصفه المكان الذي ما زالت الهند فيه حقيقية، غير ملوّثة بالغرب. ثم استمدت سردية الاستقلال أخيلتها ورموزها من الريف. فالملابس التي يرتديها الزعماء هي الملابس التقليدية، لا البدلات الأوروبية. ووجد المغزل اليدوي Charkha  مكانه في قلب العلم الأول للهند، تجسيدا لشعار  Swadeshi  أي الاعتماد على الذات. وصارت لاستخدام اللغة العامية وتناول الأطعمة الشعبية مضامين وطنية. وبعد الاستقلال ربط نهرو بين الحداثة والتنمية الريفية، قائلا إن مكان المشروعات الكبرى كالسدود، والكهرباء، والزراعة المروية هو الريف؛ ذلك كونها “معابد الهند الحديثة”. وعندما صيغ الدستور الهندي تمّ إدماج الريف مؤسسيًا وتشريعيًا في صلب بنية الدولة. وهكذا كان الريف في المخيال الوطني الهندي مصدرا لشرعية الدولة الأخلاقية والسياسية وليس عبئا عليها، فاعلًا في السياسة اليومية لا موضوعًا لها. دعونا ننظر الآن في موضع الريف من سردية الاستقلال السوداني.

تمت صياغة سردية الاستقلال السوداني من داخل فضاءٍ حضري لم يكن ليمثل السودان الأهلي أو الريفي، أو يتمثله. فلم يكن هناك أي تصور لبناء الدولة من الريف أو حول الريف. ولئن ظل الريف في الفترة الاستعمارية قاصيا وبعيدا عن المدينة بحكم اتّباع المستعمر سياسة الحكم غير المباشر indirect rule التي جعلت الريف نطاقا خالصا للإدارة الأهلية، فقد تم الاحتفاظ له بذات الموقع القصي الذي خصصه له المستعمر في دولة “الحداثة الاستعمارية”. وهكذا ظل ينظر الى الريف باعتباره فضاء “تقليديًّا” يحتاج إلى التحديث، وليس أهلا للشراكة. فالتحديث عندهم هو الوسيلة التي يكتسب بها الريف الطابع الحضري بعد أن ينضو عنه ثوبه التقليدي المتخلف. وتمت صياغة “الوطن” في الخطاب العام بلغة تعنى بالمدن الكبرى، وليس بالريف أو التنوع. فـ”السوداني” في خطاب ما بعد الاستقلال كان غالبًا هو المتعلم او المهني او الحرفي الذي يقطن المدينة. أما الريف، بقبائله ولهجاته وثقافاته ومصالحه الزراعية والرعوية، فكان غائبًا عن الصورة.

النتيجة كانت أن سردية الاستقلال السوداني لم تمنح الريف مكانة رمزية أو موقعا وجدانيا في معنى الوطن. وتدريجيا صار الريف هو “الهامش”، والمركز هو “الوطن”. فغابت العدالة الرمزية قبل أن تغيب العدالة الاقتصادية. ولم يبرز الريف في الدستور أو في السياسات العامة كمصدرٍ لرؤية وطنية، وانما كان يظهر ك “مشكلة”. فهو مشكلة جبال النوبة، ومشكلة النيل الأزرق، ومشكلة أبيي، ومشكلة دارفور، ومشكلة الشرق. لذا فإنه حين انفجرت النزاعات المسلحة في السودان الشمالي اتخذت طابع ثورات الريف على الحضر. ثورات “المهمشين”. وهكذا ارتبطت سردية الاستقلال بالمركز، بالعاصمة، حيث توجد الوزارات والجيش والجامعات والمصانع والكهرباء والمياه النقية وطرق الأسفلت، وحيث يوجد السوداني الأنموذج. ولم تستهدف السردية ايجاد تمثيل حقيقي للريف أو حكم ذاتي في الأقاليم، بل كانت الخرطوم تدير الجميع. وفيما انفقت الدولة على تطوير البنية التحتية في المدن، بقي الريف بلا مياه، أو كهرباء، أو طرق، أو بنوك، أو جامعات، أو مصانع، أو مشاريع إنتاجية، فلم يبلغه من ذلك شيء الا في العشرية الثانية من الإنقاذ. 

ولا بد من أن ننوه هنا الى أنه ليس في قولنا هذا ما يعطي الدعاية البائرة التي تروج لها المليشيا أدنى مصداقية. فعندما نقول إن الخطاب العام كان حضريا فنحن لا نقول إنه كان قاصرا على اثنيات بعينها. فمدن السودان الكبرى جمعت نُخبًا من مختلف القبائل والمناطق في فضاء خلق تفاعلات أضعفت الهويات القديمة وأبدلتها بهوية مدينية هجينة أكثر انفتاحا. وقد كانت عملية التحرر من البنية القبلية detribalization واستبدالها بأنماط انتماء حديثة – قائمة على المهنة والتعليم والموطن الجديد – نشطة، لكنها ليست بالضرورة سريعة أو خطية. وتظل أم درمان منذ عشرينيات القرن الماضي الرائدة في ذلك. أنظر لأحد حداة جيل الاستقلال الشاعر عبد المنعم عبد الحي ١٩٢٢-١٩٧٥، الأمدرماني مولدا ونشأة، الدينكاوي أماً وأباً، كيف يعتز بانتمائه الحضري في رائعته “أنا أم درمان”. بل يقول: “أنا أم درمان سلوا النيلين عني * وعن عزمات فتاي عند التجني * فخير بنيك يا سودان مني”!  ولا شك في أن بني أم درمان هم عنده “خير بني السودان” ليس تعصبا لعرق. لكنه انحيازا لمدينية الأم درمانيين جميعا، ومنهم ذويه، الحضر من الدينكا. بل ليس قي قولنا موقفا من التحضر urbanization. اذ أن له دوره في جعل الانتماء الوطني هوية جامعة، وبه يبدأ مجتمع ما بعد القبيلة. لكن سكان الريف لم ينتقلوا جميعا الى المدن. ولن يفعلوا، ولا ينبغي. فقصارى ما نقول هو ان الريف لا يزال هناك، وكان من الخطأ اسقاطه من الخطاب العام.

هذه هي قصة سردية الاستقلال الهندي. السردية التي أهدت الهند على تنوعها معتقدا مشتركا جعل الديمقراطية الهندية تصمد وتزدهر مما جعلها تُحظى بلقب أكبر الديمقراطيات في العالم. بل السردية التي صارت أساس النجاح الاقتصادي الحالي للهند، الذي جعل منها واحدا من أكبر الاقتصادات. ولئن قمنا في هذه الحلقة بمقارنة سرديتنا الفاشلة بسردية ناجحة، فإننا نخصص الحلقة التالية لنقارن سرديتنا بسردية فاشلة مثلها. لكنها سرديةً ما أن تآكلت فأضمحلت حتى عكف عليها أصحابها وجدّدوها وحولوها الى قصة نجاح. بينما ألقينا نحن بسردية الاستقلال وراءنا ظِهريا، واستبدلناها بسرديات غير جامعة أججت صراعاتنا وانتهت بنا الى القاع. 

تعليق واحد

  1. موضوع في غاية الاهميه.. رغم ان هناك من المعلومات التي كان الأجدر الاشاره إليها، فيما يخص تعطيل أعمال لجنة الدستور، إذ انه من المعلوم ان لجنة الدستور كانت ان عقدت اجتماعين فيمابين يناير ويونيه ١٩٥٦،، ولم تنعقد بعدها او ظلت هناك مقاومه لانعقادها.. وما هو الأثر السلبي لتقارب السيدين الذي أسقط الحكومة الاولي بعد ٦ أشهر؟ وما هو الدور الخارجي في ذلك.. ومعهم مجموعة نواب من جنوب السودان..
    وهل النخبه فشلت ام افشلت( بضم الالف وكسر الشين؟)؟..
    ثم هل تركت النظم الديمقراطية لإكمال دوره واحده نتيجة الصراع الطائفي والعقائدي الذي اسقل القوات المسلحه في ثلاث دورات انقلابيه، حيث من المعلوم أيضا بطا اتخاذ القرار في النظام الديمقراطي مقارنة بالنظم العسكريه والتي تصدر القرارات بطريقة تخدم التوجه الحاكم دون النظر الي عوامل اخري هامه..
    عموما المقال جميل وهام، اشكر الصديق د. الدرديري علي جهده القيم

اترك رد

error: Content is protected !!