خالد محمد علي
يتسائل كثير من المراقبين، كيف يعيش الملايين من أبناء السودان في دول اللجوء ومناطق النزوح، والمعسكرات داخل وخارج بلادهم.. فالمعارك التي تدور الآن بين قوات مليشيا الدعم السريع، والجيش السوداني، خلفت أكثر من 20 مليون سوداني بين نازح داخل الوطن، ولاجئ خارجه، ولكن المتابع للشأن السوداني يلحظ أن متضرري الحرب من أبناء السودان في الداخل والخارج يعيشون بكرامة، ولا تبدو عليهم مظاهر ذل الحاجة.
حيث يعيش أبناء السودان الفارين من الحرب في بلاد اللجوء، كما يعيش أهلها، فقد تكاتفوا جميعًا لدفع إيجارات المساكن والمحلات التجارية، والخدمية، وفي مصر مثلًا نجح السودانيون في خلق أجواء من العمل والتجارة والترفيه، حتى أصبحت أحياء بأكملها تكتظ بأبناء السودان، ويتم ذلك وفق تعاون كبير بين المقيمين في مصر وأقاربهم وذويهم في بلاد الخليج العربي وأوروبا، الذين يتكفلون بدفع مبالغ شهرية لدعم ذويهم في جميع بلاد اللجوء.
وعلى الرغم من وجود أكبر عدد من أبناء السودان في مصر وحدها، إلا أنهم يعيشون بين أهلها في عزة وكرامة، ليس بسبب وجود منظمات دولية تقوم على تلبية احتياجات كل هؤلاء المواطنين، وأيضًا ليس بسبب رخاء دولة مصر لأن أزمتها الاقتصادية الطاحنة يعرفها الجميع، ولكن السبب الأكبر والأساسي هو هذه الحالة من التكافل الاجتماعي الفريدة التي يتمتع بها الشعب السوداني.
وفي الداخل، يبدع السودانيون في تقديم أشكال مختلفة من التكافل الاجتماعي التي تخفف إلى حد كبير من وطأة حرب قضت على بيوتهم، ومصانعهم، ومزارعهم، وكل مقدراتهم المالية في البنوك والصرافات، إضافة إلى عدم قدرة الحكومة على دفع كل رواتب ومعاشات الموظفين نتيجة لعدم قدرتها المالية من ناحية وتدمير البنوك ونهبها من ناحية أخرى.
أزمة طاحنة:
وكان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قد حذر من أن ما لا يقل عن 25 مليون شخص يعانون من ارتفاع معدلات الجوع وسوء التغذية حيث تجبر الحرب في السودان آلاف الأشخاص على عبور الحدود إلى تشاد وجنوب السودان كل أسبوع.
كما حذر البرنامج من كارثة جوع مدمرة تلوح في الأفق مع ارتفاع الاحتياجات الغذائية في البلدان الثلاثة.
وقد أجبرت الحرب غالبية سكان العاصمة الخرطوم، وأم درمان، وولاية الجزيرة، و4 ولايات من إقليم دارفور على الهروب من بيوتهم، وبحسب ما ورد في التقرير السنوي لـ”مركز رصد النزوح الداخلي”، وهو منظمة غير حكومية شهد السودان أكبر عدد من النازحين في بلد واحد، حيث قدر عدد النازحين بـ9.1 مليون نازح داخليا.
تكافل فريد:
لم يستلم الشعب السوداني طوال تاريخه للأزمات التي مر بها من كوارث طبيعة أو تلك الناتجة عن الحروب الأهلية، وأبدع في خلق صور مختلفة من التكافل الاجتماعي لمواجهة الفقر والجوع والنزوح وامتدت هذه الصور من داخل السودان إلى خارجه، مما جعل لهذا الشعب حصانة ذاتية ضد الكوارث الكبرى، والتي دمرت شعوبًا كثيرة، ولكن عراقة التكافل الاجتماعي عادت لتتجدد وتظهر بقوة بعد الحرب، في صور مختلفة منها:
1 ـ المطابخ الشعبية:
بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، ظهرت مبادرات محلية للتكافل الاجتماعي، مثل المطابخ الشعبية لتوزيع الطعام، والمطابخ الشعبية هي نتاج جديد لصور التكافل بعد الحرب لم تكن معروفة قبلها، حيث شرع عدد من المتطوعين بإقامة تلك المطابخ في مناطق عامة لتزيع الطعام بشكل جماعي على النازحين والمتضررين من الحرب.
2 ـ فكة ريق:
تحتل وجبة الإفطار أهمية خاصة لدى الشعب السوداني حيث يحرص الجميع على تناولها بشكل جماعي سواء داخل المنزل أو في مناطق العمل الذي يتوقف تقريبا أثناء تناول هذه الوجبة بسبب تحليق كل الموظفين على الفطور، ولأهمية هذه الوجبة انطلقت مبادرة “فكة ريق” بعد اندلاع الحرب لتقديم وجبة إفطار مكونة من شاي الصباح بالحليب مع الزلابية.
وانطلقت “فكة ريق” من شمال أم درمان إلى معظم مناطق النزوح حيث يلتف المتضررين والنازحين حول بعضهم يتناولون تلك الوجبة الشهية.
3 ـ الاستضافة:
في كل شعوب العالم يتحول النازح إلى المعسكر أو المخيم، حيث ترعاه المنظمات الدولية، وتوفر له احتياجاته، ولكن تلك المنظمات ابتعدت عمدًا عن القيام بهذا الدور داخل السودان لتعظيم الأزمة، وقد واجه الشعب السوداني هذا التحدي بفتح البيوت أمام النازحين واستضافتهم، واقتسام كل ما يملكون مع النازحين في صورة رائعة للتكافل والتسامي الإنساني، حيث استضافة ولاية الجزيرة معظم النازحين من الخرطوم وأم درمان، كما عادت ولاية سنار والقضارف، والولايات الأخرى باستضافة النازحين من ولاية الجزيرة بعد احتلالها من قبل قوات التمرد في الدعم السرع.
4 ـ التكايا الصوفية:
عادت التكايا التي تشرف عليها الطرق الصوفية لنشاطها من جديد، وأكثر توسعًا لاستقبال النازحين والمتضررين من الحرب، وبدلًا من اقتصارها في الماضي على تقديم الغذاء فقط، توسعت التكايا الصوفية في تقديم خدماتها المتنوعة من توفير الغذاء والدواء والملابس والإيواء للذين فقدوا بيوتهم.
ولم يقتصر انتشار التكايا بعد اندلاع الحرب على مناطق سيطرة الجيش ولكنه أيضًا انتشر حتى في أماكن سيطرة الدعم السريع باعتبار أن الطرق الصوفية تحظى بتوافق اجتماعي كبير بين أبناء الشعب السوداني.
أشهر التكايا بالسودان:
• تكية الشيخ علي الميرغني في الخرطوم بحري.
• تكية الإمام عبد الرحمن المهدي في أم درمان.
• تكية الشيخ عبد المحمود في ولاية الجزيرة.
• تكايا منطقة أم ضوبان في الخرطوم.
• تكايا مناطق الشكينيبة في المناقل.
• تكية منطقة الزريبة في كردفان.
• تكية بانقا بضاحية الثورة تستهدف سكان أحياء أم درمان القديمة وأم بدة الذين نزحوا إلى محلية كرري.
• تكية مائدة الرحمن في حي الإنقاذ بضاحية أبوجا، استهرت بتقديم وجبات رمضان وخدمة أكثر من 500 أسرة.
ومع اشتداد أزمة الفقر والجوع في البلاد بدأت السلطات المحلية في دعم وتمويل التكايا باعتبارها توفر الحد الأدنى للإنسان السوداني النازح.
واستمرارًا لدورهم الاجتماعي، يقدم أبناء السوادان في الخارج دعمًا ماليًا شبه ثابت للتكايا حتى تستمر في آداء دورها.
ويبقى أن، التكافل الاجتماعي أصبح الآداة الرئيسية للشعب السوداني في مواجهة كل تداعيات الحرب التي لم تقتصر على ميادين القتال، ولكنها دخلت إلى بيته ومزرعته ومصنعه.