الدكتور الدرديري محمد أحمد
(في الصراع مع العلمانيين)
على مدى الأعوام الستين الماضية ظل الإسلاميون في السودان منشغلين بقضيتين تتجددان بتجدد الحَدَثان، وتأخذان شكلا مختلفا لدى كل مرحلة من المراحل التي تمر بها البلاد. القضية الأولى هي مكان الدين في توجه البلاد وضبط التشريع والحياة العامة بأحكامه. والثانية هي كيفية ترسيخ الديمقراطية. ولا شك في أن هناك قضايا أخرى لها أهمية كبرى مثل النهضة الاقتصادية، مشكلة جنوب السودان سابقا ودارفور حاليا، المصالحة الوطنية، والحكم الاتحادي. ألا أن ما تبلور من توافق وطني عام إزاء هذه القضايا أزالها من قائمة الخلافيات؛ التي لا تحتوي حاليا الا على القضيتين المذكورتين.
القضية الأولى كانت قد أخذت، وعلى مدى نصف قرن، شكل الصراع بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي. ذلك أن الرافضين لدور الدين قد تخفوا وراء واجهة الجنوب المسيحي؛ سواءً منهم من أنضم للحركة الشعبية جهرةً أو من بقي يوالي خطها ضمن كيانات اليسار الشمالي. غير أنه بعد أن ذهب الجنوب، لم يعد هناك بُد لعلمانيي الشمال – يساريين وليبراليين – من أن يخلعوا القفازات ويتصدوا لقضيتهم مباشرة. خاصة ان حصاد العقود الخمسة، التي لبثوا فيها في الظل، كان مُراً. ففوق خسارتهم لمظلة الجنوب، تضاءل تأييدهم الشعبي وتراجع عما كان عليه حالهم في ستينيات القرن الماضي. وتقهقروا وسط المتعلمين الذين كانوا رصيدا تقليديا لهم؛ كما شهدت بذلك انتخابات دوائر الخريجين. فبينما حصل الحزب الشيوعي فيها على 11 مقعدا من جملة 15 في انتخابات 1965، فانه فاز بمقعد وحيد في انتخابات 1986. كما تراجع سندهم الدولي الذي كان مرتبطاً لحد كبير بالدعم المقدم لانفصال جنوب السودان. لكنهلا تزال دوائر معتبرة في الغرب توادّهم للحيلولة دون عودة الإسلاميين للحكم.
بعد أن انكشف الغطاء عن العلمانيين بذهاب الجنوب فانه صار هناك مستويان للصراع السافر بينهم وبين الإسلاميين: مستوى وجودي حول طبيعة وهدف الدولة القطرية الحديثة في السودان، ومستوى دون الوجودي يتعلق بطريقة الحياة وما إذا كانت إسلامية أم غربية الطابع.
المستوى الأول هو الذي يتضمن ام قضايا الصراع، وهي مسألة دور الإسلام في الدولة والحياة العامة. ويتخذ هذا الصراع الطابع الدستوري. ويتلخص فيما إذا كان ينبغي ان ينص الدستور على اسلامية الدولة، وعلى الشريعة كمصدر للتشريع. وفي هذا الخصوص قبل الإسلاميون في السودان عدمالنص في دستور 2005 الانتقالي على اسلامية الدولة؛ رغم ان عددا من دساتير الدول التي للتيارات العلمانية فيها شأن، مثل مصر والجزائر والمغرب والأردن والكويت وليبيا، تتضمن مثل ذلك النص. والاسلاميون السودانيون ليسوا وحدهم في تقديم مثل هذا التنازل. اذ قُدمت تنازلات مثله في بلدان أخرى لأسباب قدّرها إسلاميو تلك البلدان ترتبط غالبا بالقوة النسبية لطرفي الصراع، ولدواعي مسيرة الإسلام في البلد المعين، ولاعتبارات الحرص على تأمين المشروع الاسلامي من الانتكاس؛ فلا تنكشف خاصرته للعدو المتربص فيصيبه في مقتل. ويَحكِم هذا الاجتهاد شرعا “فقه الموازنات”، الذي يقوم على “تحقيق المصالح ودرء المفاسد”. ويستند هذا الفقه الى نصوص في الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”، وحديث النبي ﷺ”إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم”. ومن أبرز القواعد المستقرة لهذا الفقه القاعدة التي تقول “دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة”.
ففي تونس تنازلت حركة النهضة عن النص على الشريعة كمصدر للتشريع، على أن يتم الاحتفاظ بالنص التقليدي في تراثهم الدستوري القائل إن الإسلام هو دين الدولة. وينص الدستور التونسي الحالي على ان “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. غير أنه لا نص فيه بشأن تحكيم الشريعة. وما كان ذلك التنازل من حركة النهضة الا لتفويت الفرصة على التيار المتفرنس، الشرس في تلك البلاد، وتقديرا لأن أهل تونس حديثي عهد بعلمانيةٍ طال أمدها. وفي تركيا تنازلوا عن النصين معا حتى لا يعرِّضوا حق الإسلاميين في المشاركة السياسية للخطر في هذه المرحلة. فحتى اليوم لم يطمئن الإسلاميون في تلك البلاد؛ ولا هم يمانعون من الظهور بمظهر الطرف المستضعف underdog في صراع الوجود مع العلمانيين.
هذا الجانب الدستوري يمثل المستوى السياسي للصراع. وفي الحالة السودانية، التي تتقوى فيها أوبة الحياة للدين يوما بعد يوم، فانه ليس منظورا أن يتقدم الإسلاميون السودانيون فيه بتنازل جديد. غير أنه إذا أعيد العمل بدستور 2005 المُعطّل، والذي يقبله الإسلاميون جملةً، فإنه لا يتصور أن يطالبوا بإعادة فتحه على نحو انتقائي للنص على إسلامية الدولة. ومن ثم تستمر المعادلة الدستورية الحالية رغم ذهاب جنوب السودان. أما إذا ما أُلغي دستور 2005 فإنه يُتوقع أن يتمسك الإسلاميون بأن ينص الدستور الجديد ليس على الشريعة فحسب، وإنما أيضا على إسلامية الدولة.
أما المستوى الثاني للصراع فهو المستوى دون الوجودي، أو قل التنافسي. وهو المستوى الاجتماعي للصراع. وموضوعه طريقة الحياة. أي ضبط الإسلام للمظهر العام، ولشئون اكتساب المعاش، وللسلوك والتثقيف والتعليم وتربية الأجيال. وهذا مجال تحكمه ضوابط ونصوص بعضها من قطعيات الدين التي لا تقبل الاجتهاد ومنها ما هو غير ذلك. وإذا كان منَاط الخلاف في المستوى الأول هو الدستور، فمجاله في هذا المستوى هو التشريع. ويشمل ذلك القوانين الاتحادية والتشريعات الولائية والمصادقة على المعاهدات. ومن قضاياه التي لا يساوم الإسلاميون فيها مسألة اباحة الخمر، والسماح بنوافذ ربوية في البنوكوبشركات تأمين غير إسلامية، وتحرير المرأة جريا على ما جاء في اتفاقية سيداو، وقبول المثليين، وتغيير مناهج التعليم على النحو الذي أُقر أثناء حكومة حمدوك. أما المسائل التي قد تكون موضوعا للأخذ والرد فتشمل بعض جوانب قانون النظام العام – والتي كانت قد أثيرت حتى قبل سقوط الإنقاذ – والانضمام لاتفاقية مناهضة التعذيب؛ وما هو دون ذلك مما تختلف بشأنه آراء الفقهاء والمجتهدين.
غير أنه لا يوجد مستوى اقتصادي للصراع. ففي ظل قبول الإسلاميين السودانيين التاريخي بالنظام الاقتصادي الحر، وبسقوط دعوى اليسار للتخطيط الاقتصادي المركزي وملكية الدولة لوسائل الانتاج، بل في ظل المتغيرات الماثلة اليوم في المشهد الدولي بعد تنامي القوة الاقتصادية للصين، فقد انتفى المظهر الاقتصادي للصراع. اذ تحول اليسار السوداني لتبني الليبرالية في كل شيء وصار أقوى المتحمسين لمؤسسات برايتون وودز.
هذه هي خطة الإسلاميين، وتلك هي غايتهم. فما هي الخطة المقابلة التي ينطوي عليها العلمانيون؟ تقودنا الإجابة على هذا السؤال للانتقال للقضية الثانية من أمهات قضايا الصراع في السودان؛ ألا وهي مسألة ترسيخ الديمقراطية.
أهم ما يضمره العلمانيون للإسلاميين هو أن يتعنتوا في وجههم بأشد ما يكون التعنت ولا يقدموا تنازلا واحدا في أي أمر؛ صغر ذلك أو كبر. فبينما يرى الإسلاميون السياسة منافسة بين حقيقتين نسبيتين، ومن ثم لابد فيها من مرونة الطرفين، فان العلمانيين يرونها منافسة بين “حقيقة” مطلقة لا تقبل التنازل، و “زَيف” ليست له أي مشروعية أو مصداقية. أما الحقيقة المطلقة عندهم فهي الدولة العلمانية والديمقراطية الليبرالية. وأما الزَيف فهي المطالبة بتحكيم الشريعة. وقد رأينا كيف أن الإسلاميين السودانيين قدموا تنازلا عن النص على إسلامية الدولة، وعلِمنا أن لهم في ذلك فقه ومنهج. هذا بينما لا يرى العلمانيون أن هناك أي مجال للتنازل عن مبدأ فصل الدين عن الدولة أو حتى مجرد الانتقاص منه. هكذا يتضح عند إمعان النظر أن الإسلاميين هم الذين يتحلون بالمرونة بينما يتصف العلمانيون بالتشدد. رغم هذا تنطلي على الناس الدعاية التي تدمغ الإسلاميين بالتعنت والتطرف.
ولتشدد العلمانيين الليبراليين سبب فكري فلسفي. فهم يؤمنون ان انتصار الليبرالية امر حتمي. فهذا هو فحوى نظرية نهاية التاريخ الشهيرة التي طرحها الفيلسوف والمفكر السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما عند انهيار جدار برلين عام 1989، ثم نشرها لاحقا في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”عام 1992. فمثلما كان الشيوعيون يقولون ابان مجد الشيوعية ان انتصار الطبقة العاملة امر حتمي – يحدث بسبب التغييرات الطبيعية في المجتمع والاقتصاد – فإن الليبراليين يؤمنون أنه بعد الحرب الباردة وسقوط الأنظمة الشيوعية فإن انتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نقطة النهاية لتطور الأيديولوجيات الإنسانية.
لا شك في أن التنافس الاقتصادي المحتدم بين الصين والغرب وإثبات الصين قدرتها على بناء نهضتها الاقتصادية وفقا لنموذج لا صلة له بالديمقراطية الليبرالية هو أكبر دليل على أنه ليس لنظرية فوكوياما أية مصداقية خارج النطاق التقليدي للعالم اليهودي المسيحي Judeo-Christian world. ويظل العالم الإسلامي دوما الاستثناء الأكبر لكل النظريات القائمة على المنهجية التاريخانية Historicism التي تنبني على مغالطة فحواها أن الدنيا هي أوروبا الغربية، وأن التاريخ الأوروبي هو تاريخ البشرية جمعاء. فالليبراليون اللذين ينتظرون ان يغادر العالم الإسلامي محطة الدين ويقبل العلمانية مثلمافعلت اوروبا بعد الاصلاح الديني في القرن السادس عشر، لا يعلمون ان الاصلاح الديني قد حدث في العالم الإسلامي، وأن داعيه كان هو نفض الغبار عن الدين وتجديد قيمه ومفاهيمه لمواجهة الاستعمار الغربي والعلمانية. ومن ثم فان الشعوب الاسلامية تسير في اتجاه تمكين الدين في الحياة وجعله بديلا للأطروحة الغربية وليس في اتجاه اخراجه عن الحياة. اضافة الى ذلك فانه لا يمكن اغفال الاختلاف الكبير بين تعاليم الدين الاسلامي والتعاليم المسيحية فيما يتعلق بالسياسة. فبينما يخلو الدين المسيحي من اي تعاليم سياسية،وبينما كان النموذج الذي اعلاه السيد المسيح عليه السلام هو المسالمة والتضحية وليست المقاومة؛ فان الاسلام دين تتكاثف فيه النصوص الحاكمة للسياسة، وهو دين المجاهدة الذي اوجد رسوله ﷺ دولة قادها بنفسه.
إضافة لهذا السبب الفكري المنهجي، هناك ثلاثة أسباب تكتيكية ظرفية لتعنت العلمانيين السودانيين. الاول هو انه ليس لديهم ما يخسرونه؛ فهم ضعاف جماهيريا ولا يأملون في فوز انتخابي او كسب سياسي عبر الوسائل الديمقراطية. والثاني هو ثقتهم المطلقة في الغرب وفي مساندته لهم؛ فهم معجبون بالغرب وبنموذجه لحد الثمالة وراضون عن العون الغربي لهم. بل راضون حتى عن املاءات الغرب، فلا يرون فيها عمالة وانما يعتبرونها توجيهات من اخوة لهم في الانسانية سبقوهم في الطريق. والسبب الثالث هو أنهم يرون أن الديمقراطية والليبرالية صنوان لا ينفصلان، وأنه إذا تخلفت الليبرالية عن الديمقراطية فإن ذلك لن يقود يوما للليبرالية. ومن ثم فان قبولهم بالفصل بين الديمقراطية والليبرالية – بأن يوافقوا على اجراء انتخابات حرة دورياً دون ان يتم فصل الدين عن الدولة – يعد مهادنة للإسلاميين تؤخر مسيرة انتصار العلمانية ولا تزيد التطرف الديني الا ضراوة. ومن ثم يرى العلمانيون ان الأفضل بالنسبة لهم أن يقفوا فيما يرونه الجانب الصحيح من التاريخ مهما كان الثمن الذي يدفعه الوطن. وليس أدل على ذلك من وقفتهم الى جانب الاتفاق الإطاري رغم أنه كان واضحا للعيان أنه سيقود البلاد للحرب. ثم وقفتهم الى جانب حميدتي رغم علمهم أنه يشن حربه ليس على الجيش او حتى على الإسلاميين، وانما على المواطنين تقتيلا، واغتصابا، ونهبا، واحتلالا، واتلافا.
هذه هي استراتيجية الليبراليين السودانيين الفكرية، وتلك هي تكتيكاتهم العملية. فما هو الانعكاس التطبيقي الآني لكل ذلك. إن الوجه التطبيقي لما تقدم هو العمل لإقصاء الإسلاميين وعزلهم من الانتخابات. ذلك لأن الغرب يُعلّم الليبراليين في كل مكان أنه لا ينبغي لهم القبول بما يسمى “النتائج السيئة للديمقراطية”. أي لا ينبغي لهم بأي حال ان يقبلوا بفوز القوى غير الليبرالية. وما ذلك الا تعبيرا عن موقف تقليدي للغرب بدأه أثناء الحرب الباردة، ثم طوره بعدها. فعندما فاز سلفادور أليندي في تشيلي عام ١٩٧٣ أعرب كيسنجر عن أسفه بالقول: “إن المطالبة بالانتخابات قد تقود في النهاية الى ممارستها لمرة واحدة”. عند انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات شاع لدى الغرب التخويف مما سمي one person, one vote, one time، وهي العبارة التي روجت لها الكاتبة والدبلوماسية الأمريكية جين كيركباتريك حين فازت جبهة الإنقاذ الجزائرية بالانتخابات. وذلك تبريرا لمقاومة الغرب لذلك الفوز كونه، حسب رأيهم، سيفضي في النهاية لإجهاض الديمقراطية بسبب أن الإنقاذيين الجزائريين لن يتنحوا عن الحكم، بل قد يلغون الانتخابات مستقبلا. وقد خلص حامد شادي بعد دراسة وافية ضمنها سفره المتميز The Problem of Democracy – الذي طبعته دار جامعة أكسفورد للنشر عام 2022 – الى “ان الخوف من ان الإسلاميين المنتخبين ديمقراطيا سيقوضون الديمقراطية هو خوف من شيء لم يقع”. وهكذا فإن الليبراليين لدينا لا يؤمنون بالمقولة الخالدة لرئيس الوزراء في العهد الديمقراطي الثاني محمد أحمد المحجوب أنه “لا علاج لأخطاء الديمقراطية الا بالمزيد من الديمقراطية”. ومن ثم فإنهم ينكرون، مثلهم في ذلك مثل الغرب، أن الديمقراطية تعني حق الشعب في ان يختار الخيار الخطأ. وقد راقب العالم، سيما الغربي منه، بذهول تهاوي هذه المغالطة في نوفمبر الماضي حين صوتت ثلاثة أرباع الشعب الأمريكي لدونالد ترامب! وحين اضطر الحزب الديمقراطي ونخبته المتنمرة، رغم سيطرتهم على مقاليد الأمور في أكبر دولة في العالم، للقبول “بالنتيجة الخطأ”. النتيجة الخطأ ليس لأمريكا فحسب، وإنما النتيجة الخطأ للغرب وحضارته كلها. فها نحن نسمع ترامب بعد انتخابه يهدد بالانسحاب من الناتو ما لم ترفع الدول الأعضاء فيه نسبة انفاقها العسكري، وبالتخلي عن أوكرانيا، وبانتزاع جرينلاند من الدنمارك، وبتخيير كندا بين أن تظل دولة أو تضحي ولاية أمريكية. بل يقول ما يقول بشأن طرد المهاجرين ومنع الإجهاض وتقييد حريات المثليين. وكان درسا قاسيا مفاده أنه لابد من استعداد دعاة الديمقراطية في كل مكان لدفع ثمن الديمقراطية، الذي هو قبول “النتائج السيئة” لها أحيانا، ان هم أرادوا للديمقراطية أن تعيش وتزدهر. وإن هم كانوا مقتنعين بالفعل أنها – على ما فيها من سوء – هي أفضل الوسائل لحسم الصراع السياسي. بل كان درسا بليغا مفاده أن الديمقراطية، في أصلها، لا تنطوي على أي مضمون ليبرالي!
ولعله من الحكمة ان يقبل العلمانيون السودانيون بأن يتحاكم الناس في هذه البلاد لقواعد ومؤسسات ديمقراطية ولو كانت خالية من المضامين الليبرالية. وذلك هو المدخل المسمى democratic minimalism أي الديمقراطية الشكلية التي تضمن التزام العملية الانتخابية دورياً، مع فك الارتباط بين الديمقراطية كممارسة والليبرالية كمنظومة قيمية. وكان قطاع من العلمانيين السودانيين قد أبدى قبوله بذلك قبيل سقوط الإنقاذ؛ فتحدثوا علانية في الفضائيات عن أنهم يرون إمكانية إحداث التغيير عبر صناديق الاقتراع. غير أنهم كفّوا عن القول بذلك بعد سقوط الإنقاذ.
ويفوت على العلمانيين انهم إذا نجحوا في إقصاء الإسلاميين عن المشهد، بتدبير الغرب ومكره، فان مسيرة الإسلام لن تتوقف. فالإسلام ليس بحاجة للإسلاميين كي ينتصر. ففي السودان فإن نميري وليس البشير هو الذي ادخل البنوك الاسلامية للبلاد، وهو الذي سن قوانين سبتمبر، وحرم الخمر، واغلق الكازينوهات وبيوت الدعارة. وفي مصر فان السادات هو الذي أقر تعديلات شاملة للقوانين المصرية لتتماشى مع الشريعة، لم يوقف إدخالها حيز النفاذ الا اغتياله. وفي ماليزيا واندونيسيا، وبسبب قلة ضغوط الغرب على الحكام هناك لغياب العامل الاسرائيلي فقد سلّمت الأحزاب العلمانية الحاكمة بدور الاسلام في الحياة العامة. فاستجابت للرأي العام وفرضت الزي الاسلامي واشترطت حفظ شيء من القرآن للقبول في الجامعات او للحصول على اذن بالزواج. وهكذا فان معركة الليبراليين ليست مع الاسلاميين وانما هي مع الاسلام. ولو كانوا يعقلون لعلموا أنه إذا كان هناك من يؤمَّل في ترفقه واعتداله في أسلمة الحياة فهم الإسلاميون وليست الجماهير. يقودنا هذا الحديث للحلقة السادسة والأخيرة من هذا المقال، التي تبين كيف أن الأوبة لحضن الشعب السوداني – وليس التمايز عنه – هي شرط نهضة الإسلاميين في السودان إن هم أرادوا إحباط هذا المخطط العلماني المستنصر بالغرب وإسرائيل.