العبيد احمد مروح
سأحاول هنا أن أقدم قراءة مختصرة للإعلان الذي تم توقيعه في أديس أبابا بين تحالف (تقدم) وقوات الدعم السريع المتمردة، يوم الثاني من يناير الجاري، في سياقه الكلي وعلى خلفية الأحداث التي أنتجته، وهو ما أعتقد أنه سيوصلنا إلى فهم ما حدث بشكل صحيح.
السياق الكلي الذي ينبغي أن نقرأ على ضوئه الأحداث في السودان هو أن “الفاعل الخارجي” ظل هو صاحب الكلمة الفصل في صنع السياسات منذ سقوط نظام الإنقاذ، بل إن الفاعل الخارجي نفسه كان له القدح المُعلى في إسقاط النظام، وبقي من بعد ذلك متحكماً بأدوات متنوعة في مسار الأحداث يحاول إعادة هندسة الأوضاع في البلاد على النحو الذي يناسب ما يسعى إليه.
عقب أزمة فض اعتصام القيادة العامة تدخل الخارج عن طريق رئيس الوزراء الأثيوبي فأنتج الوثيقة الدستورية، ولكي تستمر هيمنته مرر عبر أدواته المصنوعة مرشحه لرئاسة مجلس الوزراء فكان الدكتور عبد الله حمدوك، وحتى ينجح حمدوك في مهمته رتب معه استدعاء بعثة اليونيتامس وأعطاها تفويضاً على كامل التراب السوداني وشكل لها حرساً من أربعة أشداء حتى يضمنوا حُسن تنفيذها لما عُهد إليها من أجندة ظاهرة أو باطنة فكانت الرباعية الدولية !!
آخر ما أنتجته بعثة الأمم المتحدة لدعم الإنتقال “يونيتامس” وكفلاؤها هو الإتفاق الإطاري، وهو في مختصره الذي يعرفه الكثيرون تسليم السلطة على طبق من ذهب لتحالف الدعم السريع ومجموعة المجلس المركزي وبعض القوى الديكورية الأخرى، حتى يسهل الإجهاز على ما تبقى من السودان وتفكيك ما يسمونه بدولة ٥٦ والقضاء على كل عنصر يقاوم أو يفكر في مقاومة هذا المسار، وكانوا يطمحون أن ينضم الجيش – المستهدف بالتفكيك – وحركات دارفور الموقعة على إتفاق جوبا، للاتفاق الإطاري.
لم يكن السيد فولكر بيرتس إلا مديراً تنفيذياً لمشروع إعادة هندسة الأوضاع في السودان، ولا شك عندي أنه – والقوى الإقليمية والدولية التي ترعى المشروع – كانوا على علم تام بمخطط الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب في ١٥ أبريل من العام الماضي، وكانوا ينتظرون نجاح المخطط صباح ذلك اليوم حتى يكملوا بقية جوانب الإخراج على النحو الذي يردد البعض شعاراته الآن كالببغاوات “حماية الديمقراطية والدولة المدنية”، وحين فشل المخطط في الاستيلاء على السلطة تكفّل أحد الكفلاء بإشعالها حرباً شاملة على السودان وأهله ولم يترك بندقية قابلة للإيجار، من السودانيين أو من عرب الشتات وغيرهم، إلاّ استأجرها.
ذهب فولكر، لكن “الإطاري” بقي لأن رعاته باقون، ولهذا حاولوا إعادة رص صفوف أُجَرَائهم على مستوى السودان والإقليم لمقابلة إستحقاقات المرحلة التالية، ولأنهم أدركوا أن مجموعة المجلس المركزي بوجهها القديم يصعب تسويقها وسط السودانيين، مهما بذلوا لها من مساحيق، تفتق ذهنهم لصناعة واجهة “مدنية” جديدة فكانت “تقدم”، وهي تحالف يضم مجموعة المجلس المركزي و”عويشاً” ممن أسموا أنفسهم قوى مدنية وبعض المنشقين من قوى الكفاح المسلح وجعلوا من حمدوك على رأس هذا التحالف الجديد.
حين اكتملت هيكلة “تقدم” ودانت قيادتها لحمدوك، أخرج الكفلاء “البو” من مخبئه ودفعوا به للتجوال بين دول الإيغاد حتى تكتمل تهيئة المسرح للخطوة التالية وهي أن تحتضن أديس أبابا – التي سبق وأن رعت إتفاق الوثيقة الدستورية – لقاءً هو الأغرب من نوعه، لقاء قوى سياسية تسمي نفسها مدنية وتطالب بإبعاد الجيش عن السلطة كلياً بقوى ميليشياوية مسلحة تقتل وتنهب وتمارس كل أنواع الإنتهاكات ومع هذا تدعي أنها مع المدنية، فأنتج هذا اللقاء وثيقة أديس أبابا !!
مَن ظهروا على مسرح الأحداث في أديس أبابا يوم الثلاثاء الماضي لم يكن بينهم فاعل أصيل، كانوا جميعاً، بمن فيهم صاحب الضيافة، دمى تحركها أيدٍ خارجية تُصر أن تواصل العبث بمستقبل السودان وأهله، وهم في نهاية الأمر ينفذون مشروعاً إستعمارياً، كما كتبنا عنه من قبل وكتب غيرنا؛ والحال كذلك ينبغي أن يكون فعل السودانيين الأحرار وقيادتهم أصيلاً وبما يتناسب ومواجهة هذه الهجمة الاستعمارية الجديدة، وإلاّ فسيفقدون بوصلة القياس إن هم ظلوا يتعاملون بردود الأفعال ويعتقدون أن الدمى هي من يصنع الحدث.