الرأي ثقافة

أم دبيكرات تاريخ لا يدفن ووقائع تحتاج لإعادة قراءة.

✍️دكتور الصادق الهادي المهدي

بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم
الحمد لله الوالي الكريم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله مع أتم التسليم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مع حفظ الألقاب والمقامات.

مقدمة:
سأحاول في حديثي عن معركة أم دبيكرات أن أشير إلى معاني الاحتفاء بهذه المعارك وهي في نظر البعض هزائم. في الحقيقة هي هزائم وفق التنميط الذي أراده الإنجليز بينما احتفالنا بالموقف البطولي يعني هزيمة الهزيمة باستلهام العبر من صدق الموقف. وفي الحقيقة أراد الإنجليز أن ينقلوا صورة أم دبيكرات ما بعد إنتهاء المعركة ولذلك نشروا صور الشهداء وهم على الأرض لكسر أنفسنا ولكننا عندما نحتفي بهم فإننا نقلب هذه الصورة ونرفع الشهداء إلى المقام الذي يستحقونه ونحتفي بموقفهم وفاء لهم. وفي هذا المقام تندرج كتب الدعاية التي روج لها ونجت وحث كتابها من أمثال سلاطين وأورهولدر وإبراهيم فوزي لنشر آرائهم الشخصية وبث كراهيتهم للسودانين بدلا من إيراد الحقائق. وجاء خلف من الأكاديمين اندفعوا في ذات المجرى الذي رسمه ونجت باشا. ولكن بدأت صحوة جديدة في قراءة تاريخ السودان. نذكر منها كتابات السيد علي المهدي(أوراق علي المهدي)، ومؤلفات عصمت زولفو وكتابات محمد سعيد القدال ومحمد إبراهيم أبو سليم والدكتور موسى عبد الله حامد وأبو شامه والدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه والدكتور محمد المصطفى موسى والدكتورة فيفان أمينة ياجي.
فهذه مدرسة جديدة وقفت بإيراد الوقائع والحقائق في وجه الأقلام الاستعمارية وكتب الدعاية للحرب التي تكالبت تنبح في سيرة الخليفه عبدالله بن السيد محمد بقصد تشويه صورته وبالتالي النيل من صورة الثورة والدولة المهدية..
مع ذلك تظل مشكلة التاريخ السوداني ان عامة الناس لم تستطيع التفريق بين ما يعتبر وقائع تاريخية وبين الرأي في التأريخ أو في القيادات التاريخية. وأغلب ما كتب عن الخليفة رأي وشتيمة للخليفة عبد الله ولا يعكس أي حقيقة تاريخية.

  • أم دبيكرات
    قبل الحديث عن معركة أم دبيكرات أعود قليلا إلى إطلاله سريعه على تداعيات مذبحة كرري. ذلك لأن أم دبيكرات بدأت بعد كرري مباشرة. إذ من المعروف ان الخليفه عبدالله كان يشرف على معركة كرري من جبل سركاب. وبعد إنجلاء المعركة، وصعود أرواح آلاف الشهداء عقد الخليفه عبد الله بن السيد محمد اجتماعا عاجلا ضم ما تبقى من الأمراء بما فيهم الخليفة على ود حلو الذي كان جريحًا. وتم الاتفاق على اقتراح من عثمان دقنة بالانسحاب إلى داخل أم درمان. وتم تجميع ما تبقى من الجيش في ساحة قبة الإمام المهدي. تقرر في هذه اللحظات الابتعاد الى ابي سعد ثم إلى غرب أم درمان كما يورد صاحب مواكب الشهداء. ويورد إبراهيم الحلو أن الخليفه علي ود حلو آثر البقاء في حوش القبة وأصر على أن يموت بجوار ضريح الإمام المهدي بدلاً عن الذهاب غرباً، وذلك تأكيدا لمحبته للإمام المهدي بل رفض حتى الذهاب لمنزله المجاور للقبة (للعلاج) جراء الإصابات التي تعرض لها في معركة كرري. وتحت إصراره قام ابن اخته الأمير محمد مخاوي وهو من قبيلة دارحامد بنزع السيف منه وحمله على مغادرة المكان. في الأثناء تم الاتفاق على أن يخوض الربيع العريفي سلسلة معارك جريئة لمنع تقدم القوات الغازية وتمهيد طريق الانسحاب من ام درمان فخاض بطولات سطرتها قوات الملازمين بقيادة الربيع العريفي فكبد الغزاة خسائر فادحة ولذلك اعدمه سلاطين انتقامًا منه في حي بانت بام درمان في المكان المسمى حاليًا نادي الربيع . ثم كلف الخليفه عبد الله من يذهب إلى بادية كردفان لمخاطبة القبائل المجاورة لأم درمان بالسماح للأسر المنسحبة بالمرور وعدم التعرض لهم وأيضا خاطبهم بأنه بصدد إعداد الجيش لجولة اخرى لتحرير السودان من الاستعمار.
    وفي أبي سعد التي وصل إليها الخليفة عبد الله بالجيش المنسحب من أم درمان صلى صلاة المغرب والعشاء جمع تاخير. ثم وقف خطيباً في الجموع. وقال لهم ما معناه انه يترحم على الشهداء ولكنه يرفض الهزيمة وبشرهم بالنصر ، وان كرري رغم الخسائر والشهداء فإنها اعظم المعارك ولكنها لن تكن آخرمعاركنا مع عدو الله. وأنه عازم للعودة بعد تعبئة السودانيين لهزيمة الغزاة اعداء الإسلام. وتحرك ركب الخليفه نحو الغرب. ففي فترة وجيزة التف حول الخليفة عبد الله بن السيد محمد كل الأمراء الذين لم يستشهدوا بما فيهم الأمير عثمان دقنة وأمراء المجاذيب محمد الطاهر وعبد الرحمن المجذوب وأمراء الجعليين بقيادة الأمير أحمد جمال الدين وأمراء البطاحين بقيادة الأمير النائب الفحل وأمراء كنانة وغيرهم من أمراء القبائل كعلي الجلة والبشير عجب الفيا فضلا عن الخليفه علي ود حلو والامير أحمد فضيل والامير يونس ود الدكيم.
    كان الوصول إلى الخليفه صعباً تحفه المخاطر والصعوبات ووعورة الطرق. وأضرب مثال بالمعاناة والبطولة والإصرار الذي تميز به الرجال الذين التفوا حول الخليفه عبد الله . فعلى سبيل المثال الأمير أحمد فضيل قبل مجزرة كرري كان في شرق السودان لحماية الحدود الحبشية. وكان عمره يومئذ ثلاثين عاماً. فاتجه إلى القضارف وكان معه حوالي (4) آلاف مجاهد من جملة (7) آلاف مقاتل كانوا تحت إمرته بهدف المشاركة في كرري، ولكنه عندما وصل رفاعة شرق النيل الأزرق كما يورد المؤرخ إبراهيم الحلو: (علم بانتهائها فرجع مرة أخرى إلى القضارف بجيشه فوجد الحامية المصرية قد احتلتها. عندها وصله خطاب الخليفه عبدالله الذي الذي طلب إليه اللحاق بهم وقال له: ( ليس القصد من الحضور للجهة المذكورة إلا التحيّز عن الأعداء آخذًا بالحزم والا فليس القصد الا اعادة الكرة على الأعداء المخذولين ومحاربتهم ان شاء الله تعالى حتى يهلك الكافرين) ، لذلك قرر الأمير أحمد فضيل الاتجاه غرباً للحاق (بالخليفة عبد الله)، فاتجه جنوب القضارف وعبر بجيشة 4 أنهر، الرهد ثم الدندر ناحية كركوج ثم اتجه جنوباً ليعبر النيل الأزرق جهة الروصيرص، ثم اتجه جنوباً للرنك فعبر النيل الأبيض ناحية الجلبين ثم اتجه جنوباً ثم غرباً ثم شمالاً إلى أن وصل شركيلا دار الجوامعة منضماً (للخليفة عبد الله).
    خلال هذه المسيرة الشاقة كان سلاطين يرسل في أثره الجواسيس والمرتزقة ويناوشه بالسلاح الناري، واشترى سلاطين ولاء الأمير عبد الرحمن أبو ضقل فتحول لعدو للثورة. ولكن الأمير أحمد فضيل تمكن بإصراره من إكمال رحلة شملت شرق السودان وجنوبه وغربه وكان معه خلال هذه الرحلة أكثر من (3 آلاف) مجاهد كلهم في مستوى إصراره. ولكن بسبب المعارك المتصلة والأمراض والجوع، يورد عصمت زلفو أن الأمير أحمد فضيل عندما وصل إلى الخليفة عبد الله لم يكن معه سوى (30) مجاهداً، وقدرهم الكاتب محمود آدم، صاحب (الفتوحات الربانية في الأسرار الإلهية على ما وقع في زمن المهدية) قدرهم بسبعين مجاهداً. ويشير إبراهيم الحلو إلى (إن تلك الحملات الموجهة ضد أحمد فضيل امتدت لمدة 5 أشهر من سبتمبر 1898م إلى يناير 1899م غطت آلاف الأميال!
    والدرس المستفاد منها مستوى الإصرار والعزيمة التي لا تهتز مهما تكن العواصف فسار بما تبقى من جيشه حتى وصل الخليفه عبد الله ليشاركه في خططه ومعاركه التاليه. ويصف (ثيوبولد) هذا الإصرار بأن الشيء الملفت في الأمر ليس الأحداث العسكرية (ولكن الشجاعة الخارقة وقوة العزيمة والإصرار والمثابرة لأمير المهدية أحمد فضيل الذي يدرك تماماً أنه لن يكسب شيئاً ولكنه حقق شرف البطولة واحترام خصمه له ولا شك أنه نال النصيب الأكثر من هذه القيم).
    ونورد مثال ثاني للإصرار على عدم الاستسلام وهو موقف الخليفة شريف.
    يقول الإمام عبدالرحمن في مذكراته أن مجموعة الخليفة شريف بعد إنجلاء مذبحة كرري قررت اللحاق بالخليفه عبدالله. فانسحب من أم درمان واتجهت غربًا حتى وصلت بالقرب من تندلتي وأن الخليفه عبدالله كان قد أرسل إليهم مائة من الجمال ليلحقوا به في (الفشاشوية). ولكنهم لم يستطيعوا اللحاق بجيشه وأنهم واجهوا مشقة وهجوم متصل من تحالف العربان الصديقه وهم مجموعة من عملاء الجيش الغازي. ويضيف الإمام عبدالرحمن أنهم من شدة الجوع وطول المسير والمشقة الحاصلة أكلوا من الجمال (40 جملاً)، وأرسلوا على ظهور البقية منها العوائل اللائي كان رجالهم مع خليفة المهدي. وفي شبشة تعرضت مجموعة الخليفة شريف والعوائل للنهب مما اضطر الشيخ السماني الشيخ برير لإرسال من يعظ قطاع الطريق. وفي ظل هذه المقاساة وعدم توفر وسيلة للحاق بالخليفه عبدالله اضطروا لعبور النيل الأبيض إلى الجزيرة أبا ريثما يعدوا أنفسهم للحاق بجيش الخليفه. ولكنهم في نوفمبر من عام ١٨٩٨م وبينما كانوا في مراكب ليعبروا عليها الى الجزيرة ابا أسرتهم قوة كبيرة كان يقودها عبدالرحيم أبو ضقل. فتمت اقتياد الخليفه شريف وأسرة الإمام المهدي إلى القوات الغازية فقررت ارسال الخليفه شريف وابناء الإمام المهدي الفاضل والبشرى والسيد عبدالرحمن ووالدته مقبولة بنت نورين زوج الإمام المهدي الى حلفا ليكونوا ضمن الأسرى الآخرين من عائلة الإمام المهدي وعائلة الخليفه عبدالله والعوائل الانصاريه الأخرى وأبناء وزوجات الأمراء. وسمحت القوات الغازية لبقية أفراد الاسرة والأطفال الذين قبض عليهم جيش عبد الرحمن أبو ضقل بالعودة الى حي عبد العزيز بالقرب من المسلمية حيث كانت تقيم هناك السيدة عائشة بنت الحاج أحمد شرفي، فاستقبلت الأطفال والنساء وأقامت لهم أكواخ رواكيب من المواد المحلية ليقيموا فيها.
    إنتهت فترة الاسر في حلفا وسمحت القوات الغازية للخليفه شريف وابناء الامام المهدي والسيدة مقبولة بالإقامة في الشكابه تحت الإقامة الجبرية وكلفت مركز الشرطة في سنار بمراقبتهم. والشكابه الخليفه شريف قرية تقع الى الجنوب من مدينة ود مدني. وتبعد حوالي اربعة كيلومترات من قرية الربوة/ البرياب. وعندما سمع الانصار بعودة الخليفة شريف وابناء الامام المهدي الى الشكابه توافدوا إليها واقاموا بيوتهم بجواره. ومع تزايد أعداد الانصار وأسرهم في الشكابه انزعج الجيش الاستعماري ولهذا في أغسطس من عام ١٨٩٩ وصل بلاغ كاذب حسب (عصمت زلفو ، كرري) يقول بان الخليفة شريف يعمل على تنظيم صفوف الأنصار لإستئناف الثوره المهدية من جديد وأن أتباعه يكدسون الاسلحة. تم تكليف صالح جبريل بإبلاغ الخليفه شريف وابناء المهدي الفاضل والبشرى بان السلطة الاستعمارية لن تتسامح مع اي تمرد عليها. وجاء رد الخليفه شريف بأنه سيكلف البشرى بن الإمام المهدي بالذهاب الى مقر الحكومة بسنار لمقابلة السلطات ونفي أي تمرد كما يورد الإمام عبدالرحمن في (مذكرات الإمام عبدالرحمن المهدي). وواضح ان مهمة صالح جبريل الذي كان يسمى الhenchman لجيش كتشنر، ان مهمته في احداث الشكابة لم تتجاوز انه بعث للشكابة من الحكومة لاخبار الخليفه شريف عن الاشاعات التي وصلت للحكومه وتحذيره من التفكير في اي عمل معاد لها. وترجح المصادر المعتبرة بأن قيادات الإنجليزي بموافقة من كتشنر شخصيا والجنرال سميث مساعد مفتش سنار أن يتم إغتيال الخليفه شريف وأبناء المهدي. ولهذا في يوم ٢٦ اغسطس ١٨٩٩ أصدر الجنرال سميث مفتش سنار امرا عسكريًا بإرسال جيش للشكابة قوامه باخرتين تحركتا الى الشكابه حسب ( نعوم شقير) ووصلت الى قرية الشكابه وحاصرتها ثم تم القبض على الخليفة شريف وابناء الإمام المهدي البشرى والفاضل. ويورد الإمام عبدالرحمن في مذكراته أنه بينما استعد أخاه البشرى للذهاب الى سنار حسب توجيهات الخليفه شريف علم بوصول الجيش الى القرية ووصفه الإمام عبدالرحمن ذلك بقوله (جاءنا الترك على مثل حالهم يوم الواقعة) اي يوم كرري. وفي أثناء الاعتقالات التي قام بها جيش كتشنر، تدفقت جموع الانصار من القرية وما حولها وحاول بعضهم منع اعتقال الخليفه شريف وابني الإمام المهدي ثم صاح انصاري اسمه (بله الغرقان) فاسا في وجه عساكر الجيش الغازي وصاح صيحة المهدية المشهورة (الدين منصور) فاطلق جنود الجيش الغازي نيرانه على المدنيين الابرياء من الأنصار فسقط في الحال سبعة عشر شهيدًا. وقررت حكومة الاحتلال تشكيل مجلس عسكري فقرر إعدام الخليفه شريف وابني الإمام المهدي البشرى والفاضل. الذين واجهوا الحكم بثبات أدهش الأعداء وصاحوا بصوت واحد (إنا للموت صابرون) فاعدموا رميًا بالرصاص تحت شجرة الجميزة المعروفة او شجرة أولاد المهدي كما تسمى محليًا وهي شجرة على الضفة الغربية للنيل الأزرق. وبعد إعدام الخليفه شريف وابن المهدي ألقيت أجسادهم في مقرن ملتقى نهر الدندر والنيل الازرق، وهذه المنطقة يسميها السكان جانجيرا بالجيم المعطشة. يورد الدكتور موسى عبدالله حامد ” قُتل الخليفة شريف والفاضل والبشري ابني الامام المهدي واصاب رصاصهم – اي الانجليز – ابن المهدي الصغير عبدالرحمن (وكان عمره أربعة عشر عاما) بجرح خطير حتي طالب هو بنفسه قائد الحملة و طالبت والدته ايضا ان يُقتل على نحو ما أغتيل ذويه. غير ان الله حفظه وابقاه. ويورد إبراهيم االحلو أن الجيش الغازي حاصرالشُكابة فجر (27/8/1898م) وقمعوا تمرد سكانهم وأعدموا فوراً الخليفة شريف وابني المهدي البشرى والفاضل رمياً بالرصاص، ويشير إلى أن إصابة خطيرة لحقت بالسيد عبدالرحمن في صدره وهو ابن أربعة عشر عاماً). ونشير إلى أن للإمام المهدي عشرة أبناء استشهد منهم أربعة هم محمد في كرري والبشرى والفاضل في الشُكابة وصديق في أم دبيكرات، وأربعة آخرون تم أسرهم وإرسالهم للسجون المصرية هم الطاهر والطيب ونصر الدين وعبدالله وعلي، وإن الثلاثة الأوائل منهم توفوا هناك بسبب برودة الطقس في معتقلات رشيد ودمياط، أما علي المهدي فقد عاد للسودان وعاش حتى وفاته في 1944م، أما الابن العاشر وهو الطيب فقد توفي أثناء الهجرة من أم درمان إلى أم دبيكرات ولهذا دُفِنَ في الجزيرة أبا، بجانب أخوان المهدي الثلاثة وهم حامد استشهد في قدير ومحمد وعبدالله الذي استشهد في حصار الأبيض.

نعود إلى أم دبيكرات
بعد مقاومة استمرت لمدة عام وشهرين رتب الخليفه عبد الله صفوف قواته وقرر أن يبدأ معارك لاستعادة السيادة الوطنية. وعندما وصل جيش الأنصار لام دبيكرات كان برفقته الجيش قادة الثوره المهدية الكبار الذين تجمعوا في حوش الخليفه في صبيحة كرري إضافة للأمير أحمد فضيل ومن بينهم الأمير علي ود حلو والأمير على الجلة والأمير يونس ود الدكيم وسلسلة من الأمراء الذين ذكروا في مقدمة هذه الورقة. وكانوا مصممين على النصر وخوض معارك لإستعادة السيادة الوطنية من الغزاة الإنجليز وعملائهم. ومن جهة أخرى عرف الجيش الغازي نية الخليفه عبد الله فقرر مواجهته في أم دبيكرات فحشد جيشا مسلحا بأسلحة نارية هدفت للقضاء على أي أمل للأنصار في مجابهة الجيش الغازي.
وبعد سلسلة مناوشات يوم 23-11-1898م أدى الأنصار صلاة الفجرفي جماعة في صبيحة يوم 24/نوفمبر1898م. ثم أعلن الخليفه بعد الصلاة أن كل من لا يرغب في القتال فإنه ليس خالعا لبيعة أو نازعا يده من طاعة وهو حر. وخرجت صيحة ملأ صداها المكان وكبر الجميع بأنهم عازمون على النصر أو الشهادة. بعدها قسّم الخليفه عبد الله بن السيد محمد الجيش لقسمين، الجيش الأول بقيادة الأمير عبدالباقي عبد الوكيل والجيش الثاني بقيادة الأمير البشير عجب الفيا. وكانت خطة الخليفه عبد الله أن يكسر الجيشان مربع الجيش الغازي لإرباكه. ولكن قبل أن تشرق الشمس كانت قوات العدو تتابع تمركزات جيش الأنصار بمناظيرها. ولهذا قبل أن يكمل الجيشان ما يشبه نصف دائرة شرعت القوات الغازية تمطر جيش الأمير عبد الباقي عبد الوكيل بمدافع المكسيم والميدان. ثم وجهت مدافعها إلى الصفوف المتقدمة من الجيش الثاني بقيادة الأمير البشير عجب الفيا. ويورد عصمت زلفو إن مدفعية العدو حصدت أغلب صفوف الأنصار وصدر الأمر من (ونجت) بالتقدم واقتحام معسكر أم دبيكرات تحت غطاء كثيف من نيران الغزاة وكانوا يدفعون أمامهم الأنصار الذين تقهقروا خلفاً يطلقون الرصاص ومن خلفهم حملة السيوف، عند الساعة 6:25 صباحاً، أصدر البروجي صوته معلناً وقف إطلاق النار.
يقول تشرشل إن الخليفة رفض الانسحاب الذي عرضه عليه ابنه عثمان شيخ الدين بصورة وصفها (لا توجد لدى أكثر القادة تحضراً)، وقال أيضاً بينما كان الخليفة في معركة كرري يشرف عليها من تلال جبل (سركاب) كان في أم دبيكرات في مقدمة صفوف المقاتلين. وأن الأنصار عندما قالوا لإسماعيل (ضَراب أم بايا) أضربها حتى يتشجع الأنصار فقال الخليفه لمن قال بذلك (يا مسكين.. اليوم أموت أنا مع سيد أم بايا).
ويورد إبراهيم الحلو شهادة أحد أحفاد الأمير علي الجلة الذي شارك في المعركة، إذ قال بينما كانت المدفعية تضرب في صفوف الأنصار ، كان الأمير أحمد فضيل بشجاعته وتضحيته المعروفة، يصول ويجول حول الخليفة مطلقاً النار في جميع الاتجاهات ويهتف (يا الله نصرك، يا الله نصرك) عندها نظر إليه الخليفه وخاطبه قائلا : يا (ود فضيل.. الله ولا أطرش.. يصيحوا ليو متل ده .. موت موتك) وأورد الشاهد أن الخليفة كان يقاتل ببندقية ماركة (هنري) وقاتل بها حتى انثنت ماسورتها من الحرارة. وعندما حصد الماكسيم القادة وأصابت الآلاف بالجروح الخطيرة. فرش الخليفه الفروة وتيقن من لقاء الله. فقرر أن يلقاه وهو ساجد. ويورد عصمت زلفو (بَسَط الخليفة فروته ارضاً باتجاه القبلة وعلى يمينه جلس علي ود حلو ونادى ود فضيل وجلس على يساره وجلس بقية الأمراء خلفهم وأصبحوا هدفاً مباشراً لنيران الرشاشات الإنجليزية من أعلى التل، وحاول (أب جكة) سائس الخليفة ستره عن الرصاص بجلبابه فسقط شهيداً أمامه فأخذه الخليفة ووضعه في حجره فحاول أحمد فضيل ابعاده فمنعه الخليفة معاتباً (أب جكة شالني أربعة عشر سنة وأنا ما أشيلو يوم استشهاده) . على أن عادة فرش الفروة عربية وإسلاميه تهدف لسلب العدو ميزة النصر المعنوي كما أنها تجعل الإنسان يموت وأن آخر ما فعل هو الصلاة والركوع والسجود. لهذا أمر الخليفه الأمراء بالنزول من خيولهم ووضع أسلحتهم وصلاة ركعتين والجلوس على الفروة باتجاه القبلة ومواجهة رصاص الكفار بصدور عارية مع ترحاب الشهادة. ويورد محمود آدم، صاحب (الفتوحات الربانية) إن الخليفه عبد الله استشهد أولاً ثم استشهد الأمير علي ود حلو والصديق ود المهدي ثم بعدهم أحمد فضيل وإسماعيل. ويورد نعوم شقير لقد سألنا الأسرى عن هؤلاء القتلى فقالوا إنهم الخليفة عبد الله والأمير ود حلو وأحمد فضيل وهارون محمد والصديق بن المهدي وحامد ود علي والبشر عجب الفيا أمير كنانة.
وتشير المصادر إلى أن معركة أم دبيكرات أنتهت على اكثر من ثلاثة آلاف شهيد واربعة آلاف جريح وستة آلاف اسير من الأطفال والنساء. وكان على رأس الاسرى الامراء أبناء الشيخ المجذوب والامير شيخ الدين بن الخليفة عبدالله والامير يونس الدكيم والامير احمد جمال الدين وغيرهم كثير. وفي تقرير مدير المخابرات ونجت باشا الذي أرسله في ثاني يوم للمعركة بتاريخ (25/11/1899م) أرسله للسردار جاء فيه (… استدعي – يقصد الخليفة – أمراءه وأمرهم بأن يترجلوا من جيادهم وجلس على فروته كعادة كبار زعماء العرب الذين تأبى نفوسهم الاستسلام للعدو وأجلس الخليفة علي ود حلو على يمينه وأحمد فضيل على يساره بينما جلس بقية الأمراء حولهم، والحرس أمامهم على بعد عشرين خطوة، في هذا الوضع قابلوا الموت بثبات دون أن ترمش لهم عين). وأضاف (وتحت إشرافنا أجريت لهم مراسم دفن تتناسب مع مقامهم بواسطة رجال قبائلهم، ويعتبر موت الخليفة علامة للاستسلام التام وبحلول الظهر جمعنا (3) آلاف رجل و(6) آلاف امرأة وطفل وكميات من السيوف والرماح والبنادق..). يستفاد من دروس المعركة أنها:

  • أكدت ام دبيكرات الالتفاف الوطني حول قيادة الخليفه عبد الله بن السيد محمد وهو التفاف أزعج كتشنر نفسه فقطع إجازته وعاد من بريطانيا ليجهز جيش مكون من أثني عشر ألف ليحارب به جيش الخليفة عبد الله الذي كان يروج بأنه مكروه من جيشه ومن مواطنيه.
  • أيضا المساهمة الكبيرة لأهالي كردفان والنيل الأبيض في دعم عبور الأسر ودعم مجهود العودة لمحاربة الغزاة. وهي مجموعات كثيرة تشمل قبائل دغيم وكنانة والمك بوش ملك جبال قدير وكذلك عرب شمال كردفان من الجوامعه ودارحامد والبديرية وسكان شركيلا فقد وفروا الحماية والمشاركة وتقديم المؤن .
  • إن وقائع التاريخ الموضوعية المجردة تنصف مواقف الخليفه وتؤكد بانه كان بطلا قوميا عندما خاض معركة كرري وعندما استشهد في أم دبيكرات. وعندما قال كلمتة التي خلدها التاريخ ولا زال يردد صداها ..(فلتذهب الدولة وتبقي الفكرة) .

اترك رد

error: Content is protected !!