مكي المغربي
من أسوأ ما يحدث حاليا نكران دور بورتسودان وحقها الأدبي في إعلان بث تلفزيون السودان القومي منها، وهو حقيقة منها ومن استديوهاتها، وكل العالم يعرف أن هذا البث من بورتسودان، لقد ردد (الانصرافي) الاكثر شعبية من بين المؤثرين ومن التلفزيون نفسه حاليا، اكثر من مرة أنه لم تعد أهمية استراتيجية تستحق خسائر باهظة ازالة المليشيا من الاذاعة والتلفزيون لأن البث من بورتسودان.
لا يعجبني إطلاقا ما يحدث من تفويت متعمد لمكسب الحرب الأكيد، وهو الإنتباه للولايات ومعرفة فضلها الكبير، فالحرب على بؤسها وفظاعتها وفداحة خسائرها فتحت الباب واسعا لإعمار وتطوير الولايات ورد الاعتبار لها، ولقنت الجميع درسا أن السودان بدون الخرطوم ممكن يمشي وممكن أي مدينة ولائية “تسد فرقة” الخرطوم وزيادة في مجالات حيوية جدا، وهذا أمر لا تكتمل الاستفادة منه إذا لم نغير العقلية القديمة التي تختزل النشاط في مدينة واحدة، وستكون كارثة إذا ظل شبح الخرطوم وعقليتها يسيطران على القرار في العواصم الجديدة، وهذا يتجلى في اضاعة الحقوق والفرص للمدن الغالية.
أيضا بسبب الإصرار على تفادي إعلان البث من بورتسودان (وكأنه عيب!) أننا خسرنا أجمل خلفية للحوارات والبرامج، وهي الميناء، حيث يوجد زجاج من السقف للأرض ومن الطبيعي إجراء الحوارات بخلفية ميناء بورتسودان، تخيلو الميناء في جماله النهاري حيث الحركة والحيوية والاشراق والاحساس بثراء السودان وانسياب حركة الصادر والوارد، وتخيلوه ليلا بأضواءه الباهرة وانعكاسها على سطح البحر الأحمر.
هذه خلفية يمكن إيجارها بالعملة الصعبة لبرنامج في فضائية دولية عن أمن البحر الأحمر يستضيف فيه السودان ثمان دول ليؤكد أن أمن السودان هو أمنها وأمن الجميع.
في زيارتي السابقة لبورتسودان، كنت أطمع في ٱجراء حوار مع وزير المالية أو ممثل وزارة الخارجية باللغة الإنجليزية بهذه الخلفية “ميناء بورتسودان”، وكان هدفي هو تثبيت الصورة الحقيقية للسودان أنه ليس الخرطوم، بل هو 45 مليون مواطن في 18 ولاية كل واحدة دولة ناجحة، وساحل طويل وأنهر وروافد وآثار، و30 جامعة ومثلها من الكليات الجامعية والخاصة.
دائما ما أردد إعلام محلي بمواصفات التصدير، عندما جلست في استيديوهات بورتسودان أحسست بعشرات الأفكار تعربد في رأسي.
السودان كبير ومستقر ويدخل الموسم الزراعي في معظم مساحاته، وكأن هذه الحرب اللعينة في نيكاراغوا.
العقلية التي تعتقد أنها تخرج من بورتسودان سرا في بث عالمي، هي ذاتها العقلية التي لم تشغل مطار عطبرة، وهو جاهز لهبوط الفوكرز على الأقل، وهي طائرة كنا حتى العام 2015 نسافر بها إلى أديس عبر الخطوط الجوية الإثيوبية ومنها إلى كل انحاء العالم من الصين إلى أمريكا برحلة أخرى.
مطار دنقلا، مطار مروي … كلها جاهزة ومختفية من خارطة الملاحة الجوية الدولية حتى قبل الحرب، إذن الحرب لم تكن هي السبب، إنما العقلية الاحتكارية الانكفائية المخادعة. عقلية “السر في البث”!
الحرب الآن هي الدافع الأكبر لتطوير الولايات وتقسيم مهام الخرطوم كاملة على المدن الولائية، وليس القاهرة، وبالرغم من اقرارنا بدور مصر الممتاز في محنة السودان لكن من العبث هذا التكدس الإعلامي والدبلوماسي والسياسي فيها في حين أن الحواضر الولائية جاهزة. لا تحملوا مصر فوق طاقتها، ولا ترهقوها بنقل صراعاتكم وفضائحكم إليها .. اختشوا واتلموا في بلدكم.
عودة للموضوع (البث من بورتسودان) إذا كان التأخير سببه هو عدم الرغبة في إعلان احتلال جنود المليشيا الغادرة للاذاعة والتلفزيون وحماية انفسهم بالدروع البشرية والمختطفين والرهائن، فهو سبب واهي جدا .. لقد احتل القرامطة الحرم المكي وسرقوا الحجر الأسود عقدين من الزمان وخبئوه في اقليم الاحساء حتى استرده السلطان العزيز بالله، واحتل الحرم في العصر الحديث أنصار الجهيمان في عهد الملك خالد وتم القضاء عليهم، داخل الحرم المكي.
لا قدسية للمكان تحمي الفعل الشرير، وأفضل البقاع على الأرض احتلت ونهبت، الكارثة ليست احتلال الاذاعة بل احتلال عقولنا بالأوهام و”الكلفتة” من الانتهازيين الذي يؤسسون فضائيات جديدة في الخارج بحجة الحرب بدلا من تشغيل محطات مدن السودان. الغرض هو الكوميشنات و السف واللبع لا غير، الغرض توفير فرص عمل في مهجر اختياري، ثم امتلاك شقق والاستقرار.
بالنسبة لي ما تفعله المليشيا مادة للتوظيف الدولي في كل التلفزيونات الصديقة، مادة تجعل صورتها السيئة أكثر وضوحا.
القومية لا تتحقق بمصادرة حق البحر الأحمر بل بالإمكان تنشيط التلفزيونات الولائية وتكليفها بانتاج حوارات وبرامج وفتح البث لها من بورتسودان، وبذلك يصبح التلفزيون قوميا، وهو المطلوب تعدد الاستديوهات في المدن الغالية وتوحيد إشارة البث.
وعندها يقول المذيع مرحبا بكم من “باقة تفلزيونات السودان” من بورتسودان وننتقل إلى تلفزيون دنقلا، أو إلى تلفزيون الخرطوم من أمدرمان الثورة، أو إلى تلفزيون كسلا.
لقد زرت تلفزيون شندي مع المدير التنفيذي للمحلية الأستاذ خالد عبد الغفار ولم تكن نواقصه كثيرة، والأهم من ذلك في مدن نهر النيل عشرات الضيوف من الوزن الثقيل ومن الزمن الجميل يصلحون للحوارات في محطات شندي أو الدامر.
قدمنا ورشة تدريبية لعدد 37 دارس في مباني تلفزيون شندي في عمق الحرب وكانوا قدر المسئولية.
إذا كان مطلب مقاتلي الجيش لقيادته (فكوا اللجام) فإن مطلبي لقيادة البلد وجهازها التنفيذي فكوا لجام حكومات الولايات، ومحلياتها.
تحياتي لوزارة الحكم الاتحادي والوزير المهندس محمد كورتيكيلا، ونقول إن إنهاء الحرب في الخرطوم يتم باثبات أن كل مدينة في السودان هي خرطوم وأكثر.