“جندي في جيش عدوه”
يمر السودان بمنعطف خطير غير مسبوق في تاريخه الحديث يواجه فيه تحديات تحكمها معطيات داخلية وخارجية مختلفة عما سبق من بينها تدهور الوضع الاقتصادى بصورة مريعة فى ظل أوضاع سياسية أكثر تعقيدا وسط تشرذم حاد في الجبهة الداخلية علي جميع مكوناتها المجتمعية والحزبية.
على المستوى الدولى يواجه السودان محاور استقطاب متشاكسة تتقاطع مصالحها القومية بحثا عن موطء قدم فى القرن الإفريقى والبحر الأحمر و تسابق محموم علي حيازة الموارد الاقتصادية في ظل الصراع الخفي بين الصين وأمريكا و الحرب الدائرة بين روسيا و أكرانيا، بل فوق هذا وذاك أن أدوات هذا الاستقطاب في عصرنا الحالي قائمة على الوكالة -أو ما يعرف بـ (proxy) – في تسخير جهات فاعلة خلاف الدول (non-state actors) مثل الاستفادة من المليشات أو شق الجبهة الداخلية بتقوية فصيل في وجه آخر أو استغلال الوكالات الدولية مثل صندق النقد الدولي أو البنك الدولي أو العقوبات الاقتصادية الخ… لإضعاف الدول حسب ما تقتضيه مصالح ما يعرف بكبار اللاعبين أو القوي العظمي.
تأسيسا علي ما ورد عن حروب الوكالة، يبدو أن السودان يتعرض لخطر ماثل يحمل ملامح ما يعرف بحرب الجيل الرابع التى تمثل أحدي سماتها استهداف مؤسسات الدولة و اضعافها بوعي أو غير وعي وبالتالي عجزها عن القيام بواجباتها. وخير مثال علي ذلك الاستهداف هو كثرة الحديث و بغبن عن هيكلة مؤسسات الجيش والأمن والشرطة و الطعن في المؤسسات المدنية الأخري و القدح في مؤهلات شاغليها من القيادات العليا ونشر مكاتبتها السرية أو تزويرها بغرض الكسب الرخيص أو الفوز علي عدو متوهم، في الحقيقة من يفعل ذلك فإنه يستهدف الوطن الذي وجد ليبقي ولتبقي ومؤسساته التي ملك ملك للحاضر والمستقبل فلما الخراب؟ ولما الدمار ؟
ولمعرفة سمات حروب الوكالة التي يبدو أن السودان قد نال نصيب نصيب منها، نورد تصنيفا للحروب التى أوردها خبراء العسكرية على النحو التالى:
أجيال الحروب
يرى العديد من المحللين الاستراتيجيين والعسكريين أن تاريخ الحروب الحديثة يرجع إلى توقيع معاهدة صلح وستفاليا(Peace of Westphalia) عام 1648م التي ارتبطت بنشأة الدول القومية واحتكارها للاستخدام الشرعي للقوة، حيث تم التمييز بين عدة أنواع من أجيال الحروب التي وصلت لستة ،نذكر منها:
حروب الجيل الأول التي اعتمدت على استخدام البنادق والمدافع البدائية، حروب الجيل الثاني التي ارتبطت نشأتها بظهور معدات عسكرية حديثة، مثل المدرعات الثقيلة، والطائرات المقاتلة، فضلاً عن الاستفادة من الاقتصاد الصناعي للدول الأوروبية لإنتاج العتاد العسكري بكميات ضخمة، حروب الجيل الثالث التي ظهرت أثناء الحرب العالمية الثانية وأهم سماتها التطور التكنولوجي، خاصة ظهور الدبابات، وتطور الطائرات المقاتلة ونظم الاتصالات، مما ساعد على القيام بـالمناورات العسكرية بدرجة لم تكن معهودة سابقاً و حروب الجيل الرابع وهو مفهوم أبتدره ضابط أمريكى يدعى وليم س. ليند فى عام 1989م وظهر فى مقالة له تحت عنوان: “The Changing Face of War: Into the Fourth Generation” شرح فيه المفهوم ومن ثم توال تأطيره من عدة جهات، لخص د. احمد المرهبى -فى مقال تحت عنوان :” الجيل الرابع. المواطن جندي في جيش عدوه”- اهم عناصر هذا الجيل كما يلى: الحرب بالإكراه أي أن على العدو قبول الحرب رغما عن إرادته (الحرب على الإرهاب، سواء كانت التنظيمات محلية أو متعددة الجنسيات)، زعزعة الاستقرار الذي يأخذ صورا متعددة،(كاستخدام الضغوط السياسية والاقتصادية والحقوقية والعسكرية لتشكيل حالة من الإرباك وعدم الاستقرار، الغزو الثقافي (تفتيت الدولة الواحدة واستخدام تكتيكات التمرد لإفشال الدولة من أجل فرض واقع جديد و استخدام القدرات العقلية، أو ما يعرف بـالقوة الذكية (حرب الإعلام والإشاعات). وتستخدم في كل هذا وسائل الإعلام الجديدة (مواقع التواصل الاجتماعى) والتقليدية ومنظمات المجتمع المدني للمعارضة والعمليات الاستخباراتية والنفوذ وغيرها من وسائل الضغط الاقتصادي من مقاطعة و استغلال مؤسسات التمويل الدولية. الناظر للأوضاع في السودان فإنه لا يخاطله شك في أن هذا النوع من السمات استشرت علاماته في الأوضاع الحالية وبدرجات متفاوتة يتمثل في الهجوم علي مؤسسات الدولة خاصة العسكرية والشرطية والأمنية.
الهجوم علي مؤسسات الدولة تحت ذريعة الهيكلة
أحدي سمات حروب الجيل الرابع في السودان هي حرب الإعلام والشائعات ضد المؤسسات الحكومية خاصة الجيش والشرطة والأمن والطعن في أهلية قيادات تلك المؤسسات من خلال استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لبث التشكيك والنقد مما ألحق ضرارا بليغا بها و أثر في الروح المعنوية لمنتسبيها في ظل سيولة أمنية مفزعة، وفي ظل أستهداف للحدود الشرقية و حروب قبلية في غرب البلاد تحتاج لضبط إمني وقانوني يحافظ علي الامن والاستقرار في هذه الانحاء وكافة أرجاء البلاد.
فلنتفق أن هذه المؤسسات تحتاج لإعادة هيكلة من أجل الحفاظ علي وحدة السودان ومواجهة التحديات الماثلة ولكن في تقديري يجب أن يتم ذلك وفقا لأسس مدروسة وبصورة موضوعية وفقا لرؤي واضحة يضطلع بها أصحاب الأختصاص من هذه المؤسسات و أهل القانون و ممثلي عن حركات الكفاح المسلح و استصحاب أراء كل أصحاب المصلحة وفقا لرؤي سودانية خالصة دون التدخل السافر من جهات أجنبية -مثل بعثة الأمم المتحدة بقيادة فولكر- لا يُوثق بها البتة وخير شاهد علي ذلك أن تاريخ هذه الجهات الأجنبية مليء بخيبات الأمل بما فيها فشل بعثات الأمم المتحدة (مثل بعثة فولكر) علي اختلاف تفويضها لأن هذه المؤسسات مهما أحسنا الظن بها فإنها في نهاية المطاف تمثل رؤي ما يسمي ب “القوي العظمي” خاصة صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن (بريطانيا،فرنسا، أمريكا، روسيا والصين). مجلس الأمن بُني علي مفهوم الغلبة للدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية وهي التي تهيمن علي العالم بسياسية العصا والجزرة تأسيسا علي نصرها في الحرب، لذلك لا يرجي منها خير بل أن هذه الدول تسعي لرعاية مصالحها القومية أولا ودائما وأبدا وعلينا إلا ننجرف بحديثهم المعسول الذي أثبتت الأيام إزدواجية معاييره و تطفيفه في العدل.
لا تصبج جنديا في جيش عدوك
المعارضة حق مشروع لكل الأفراد والجماعات والأحزاب و لكن بمسؤولية تفرق بين سقوط الحكومة القائمة أيا كان شكلها وسقوط الدولة ومؤسساتها، فالحكومات تأتى و تذهب وكذلك أحزابها والأمر نفسه ينطبق على المعارضة وأحزابها ولكن مؤسسات الدولة أُنشئت لتبقى فهي ملك للشعب وليس للحكومة أو المعارضة، ماذا نستفيد من سقوط مؤسسات الدولة وخرابها؟ لذا لابد من التحلى باليقظة و المسؤولية حكومة ومعارضة تجاه مؤسسات الدولة خاصة تلك المذكورة والنأي بها عن المزايدات والمكايدات ووضعها فوق الجميع، على من يروجون للشائعات تحرى الصدق والدقة فيما يكتبون أو ينقلون أو يتداولون عن تلك المؤسسات لأن ذلك أمانه وطنية ينبغى مراعاتها بعيدا عن الكسب الضيق والإثارة والعاطفة.
على وسائل إعلامنا تحمل مسؤلية النشر الصادق وتبنى المهنية بعيدا عن السبق الصحفى والإثارة الضارة ومحاربة الشائعات والتشكيك في هذه المؤسسات بالدفاع عنها بحق رغم تجاوزات بعض منسوبيها والحديث بموضوعية عن الهيكلة و الضرورة الملجئة إليها علي أن يتم ذلك ببث التنوير و شرح الكيفية و الدعوة للبعد عن التشنج و التعصب الحزبي البغيض في موضوع الهيكلة. نحن فى عصر تقنية وسائل إعلام حديثة تنتشر بسرعة فائقة وفى لمح البصر وعبر عدة وسائط تخاطب عدة طبقات من المجتمع بمختلف مقدراته الذهنية والعقلية وحتى مستواه التعليمى لذا لابد من تحرى دقة وصدق المعلومة والاستفادة من هذه الوسائط لبثها.
الوعي بأهمية مؤسسات الدولة عامة والمذكورة بصفة خاصة -مهما اختلفنا مع ممارسات بعض منتسبيها- مطلوب من أجل الحفاظ عليها و علي قوتها و وحدتها وتماسكها، يجب أن يعالج الخلل بأطر مؤسسية بعيدة عن حظوظ الأحزاب السياسية الضيقة و أن تُراعي المصلحة العامة في هذه الهيكلة لأن تلك المؤسسات ملك لكل الشعب الذي بناها بعرق جبينه و فداها نفر خلص بدمائهم الطاهرة و ينبغي النظر للصورة كاملة بكل تقاطعاتها بعيدا عن المغامرات و حظوظ النفس والاستقواء بالجهات الخارجية حتي وإن كانت بعثة الأمم المتحدة.