من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

هل تتوافق الكتلة الصلبة بالحد الادني وفقاً لمبادئ للاجندة الوطنية؟



قد يكون الحديث عن “التوافق” في السياق السياسي في السودان قد أصبح ضرباً من الحلم، وذلك لاعتبارات عديدة، نجملها في المسافات ما بين الفاعلين السياسيين – الممانعة منها خاصة – سواء على مستوى التصور، أو الممارسة، بل وحتى على مستوى الأفق السياسي، ناهيك عن الأجواء المشحونة التي خلفتها التجارب السابقة والتي أوصلتنا إلى حرب ١٥ أبريل التي شنت على الشعب السوداني أجمع.

بيد أن إيماننا بأن مِعْوَل التفرقة، والذي درجت الأنظمة الخارجية على استعماله، لهدم المجتمع السوداني وتفكيك نسيجه الاجتماعي بعد تغييب المكونات الاجتماعية والسياسية والمدنية وجعلها تلهث خلف السلطة، قد بدأ يجد مقاومة، وذلك عبر “الوعي الجمعي” الذي صنعته حرب ١٥ أبريل، وذلك بالمناداة بضرورة توحيد الكتلة الصلبة ودعمها من قبل الدولة لرفع أعمدة المشروع الوطني للدولة السودانية الحديثة واستعادة السيادة الوطنية بدعم المؤسسة العسكرية سياسياً داخلياً وخارجياً.

ومن جهة أخرى، يمكن الحديث عن “محفزات” من بعض التجارب الإقليمية، والتي قد لا يسعنا القياس عليها لوجود فوارق عديدة، شكلاً ومضموناً، لكنها كفكرة وواقع ومنوال، لا شيء يضعنا أمام أفق توافقي بالقوة قبل الفعل لكي يتم استشرافه، بل ورسم صورة مقربة لتلاقي منظور حول مائدة سياسية، تقوم بإخراج السودان من دوامة “الاحتراب قبل الشتات”، ومن العداوة قبل الخلاف، ومن الاستبداد قبل التخلف.

محاولاً في هذه السطور تجميع خلاصات مجموعة من اللقاءات والندوات حول مسمى التوافق، إضافة إلى مقالات من هنا وهناك، يتحدث أصحابها عن “مخرجات” توافقات قائمة، نعم بأشكال ورؤى وسياقات مختلفة، لكنها كفيلة بإعطائنا صورة مقربة لما يمكن أن نصطلح عليه: “أسس التوافق السياسي ومحدداته”.
١ – أفق التوافق السياسي:
لقد ارتأيت أن أتحدث عن أفق التوافق السياسي، باعتباره حصراً مبدئياً لما نعنيه هنا بكلمة “توافق سياسي”، وهو اصطفاف أو تكتل سياسي، غير “مؤدلج” (سياسي وليس إيديولوجي) لمجموعة من المكونات (أحزاب، منظمات، نقابات، شخصيات عامة، ممثلين جهات…) الغرض منه: إيجاد صيغة سياسية للوصول إلى تفاهم مشترك، وحقيقي، لحل مشكلات السودان المزمنة والعالقة، عبر إعادة هيكلة النسق السياسي، وبناء جاد لمفهوم التعددية السياسية.

إنه تلاقٍ حول آليات عملية ميدانية، الغرض منها خلق جو سياسي، تسود فيه قيم ومبادئ المجتمع الديمقراطي، مثل حرية “التعبير” و”الاختيار” و”التنظيم” وغيرها؛ وجعلها رافعة لبناء قوة مجتمعية، تستطيع الإجابة عن سؤال: ما المطلوب لخروج السودان إلى بر الأمان؟

٢ – دوافع التوافق السياسي بالحد الأدنى:
إن حصرنا لدوافع التوافق السياسي في أربعة محاور لهو من باب اختيار لما نراه أكثر إلحاحاً، مثل:
أ – الاختلاف سنة كونية:
يقول ربنا جل جلاله في محكم كتابه الكريم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” (الحجرات: 13). إنها صفة كونية، طبيعية، في كل مجمع؛ وبالتالي وجب العمل على جعلها عامل “قوة” لا عامل ضعف، عامل “توازن” لا اختلال، “تكامل” لا تضاد.
ب – ضرورة الانتقال الديمقراطي:
قد يطول الحديث إذا ما أردنا الخوض في مفهوم الانتقال أو التحول الديمقراطي، لكننا نستطيع إجمال القول بأنه: مجموع التدابير والإجراءات والمراحل التي من خلالها – ومن خلالها فقط – يتم خروج أي بلد من الجور إلى فضاءات العدالة. ولهذا وجب التفكير بشكل جماعي، ومستعجل، وعدم الاستمرار في هدر الزمن السياسي، لجعل الانتقال بعد إيقاف الحرب، انتقالاً سلساً وهادفاً يقوض إعادة إنتاج الأزمات والمشاكل بمعالجة كل ما له أن يعيد هذه الأزمات مستقبلاً عبر الزمان والمكان.
ج – الحاجة إلى الوطن:
يجب الإقرار بأن التعايش السلمي هو السبيل الوحيد لفك لغز أي تمايز على المستوى المادي، أو الرمزي، لكي نستطيع الحديث عن الوطن الحاضن، للمرأة وللرجل، للعامل، وللسياسي، وللإنسان.
د – الكرة الآن في مرمى قادة الدولة و قادة المجتمع المدني:
نعم، الكرة الآن في مرمى قادة وحكماء وفضلاء الشعب السوداني، وخيريه من أصحاب الضمائر الحية، بعد أن أصمت الحرب الآذان، وتكالب الاستكبار العالمي (بمؤسساته: المالية…); بعد أن سقط القناع الحقوقي العالمي، القناع الأممي (المجتمع الدولي)، القناع العربي العروبي. علاوة على – وهذه من تلك – و ذلك بقيادة مرحلة جديدة من تاريخ السودان تُعيد الاستقرار لشعبه الصابر المكلوم وذلك بالتوافق على خلق اصطفاف داخلي يجمع جميع السودانيين لهزم المخططات الخارجية ويعمل على دعم المشروع الداخلي وقيام الدولة السودانية الحديثة.
٣ – الضمانات والشروط:
نحتاج في حديثنا عن أي شكل من أشكال التوافق مع هذا أو ذاك، إلى حد أدنى مما قد نصطلح عليه ضمانات حامية، ومؤطرة، تجعل له “معنى” بل، و”أفقاً” واستمرارية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أ – علاج ناجع لمسببات عدم التوافق.
وأراها في:
– تفضيل المصلحة العليا للوطن على صنمية التنظيم والرصيد التاريخي والذات.
– تفضيل المصلحة العليا للوطن على المعايير التفاضلية، كمية كانت أو عرقية أو جهوية.
– التسليم بعدم قدرة أي طرف، مهما كانت إمكانياته، على العمل منفرداً.
ب – ترسيخ المبادئ:
– الوضوح والشفافية.
– الاعتراف بالآخر.
ج – وضع ميثاق شرف يحدد المبادئ التي على الجميع الالتزام بها (العلاقة بين الأطراف…).
د – بناء توافق على مرأى ومسمع من الشعب.
فنحن في حاجة إلى مصارحة الشعب فيما نقول ونعمل، بل أكثر من ذلك: في حاجة إلى تحويل التوافق، والتعايش إلى ثقافة شعبية، وسلوك سار فينا صغيراً وكبيراً.
هـ – المواكبة النقدية
فالنقد ذاتياً كان (من داخل كل طرف) أو موضوعياً (للعملية التوافقية) هو من أهم الضمانات التي تقف في وجه الزلل أو التراجع؛ فنحن في حاجة دائمة إلى تقييم وتقويم المسار، والوقوف على مكامن النقص والتراجع عن سبل الخلاف.
٤ – محاذير التوافق السياسي:
إنها مجموعة من المطبات التي تستطيع تقويض، إيقاف، أو حتى قتل التوافق. ومنها:
أ – القفز على المراحل.
وقد يكون قفزاً تجاوزاً، أو اختزالاً، أو استطاله، فالمطلب هنا – وكما يقال – خطوات آمنة لا خطوات كبيرة.
ب – القفز على الواقع
وذلك عبر استصغار الكلفة المادية والسياسية لكل خطوة تغييرية أو استعجال نتائجها.
ج – السقوط في قبضة الجماهير، أو تغليب الواجهة المطلبية.
د – انفصام الرؤية بين كل من القيادة والقاعدة، التنظير والممارسة، وبين المركز والهامش.
هـ – التحول من التنسيق الجامع إلى التنسيقيات التفكيكية.
ولنا في العمل النقابي أوضح مثال.
٥ – محاور عملية للعمل
إنها مقترحات تحاكي بعض التجارب كما ذكرنا ذلك أعلاه، مثل:
أ – مأسسة الحوار / أو الحوار المؤسساتي.
نحتاج لكي يكون حوارنا منتجاً إلى جعله على أرضية حقيقية وصلبة. وهنا نقترح: حوارات إقطاعية / مجالية /تخصصية بحتة كل في تخصصه.
ب – مأسسة العمل / أو العمل المؤسساتي.
عبر إعادة بناء الهياكل الجماهيرية (جمعيات، نقابات…) والاشتغال من داخلها.
ج – مأسسة ثقافة / مفهوم التداول والمداولة في التسيير وصولاً إلى المفاهيم الكبرى للتداول على السلطة.
د – مأسسة التنافس المبني على الكفاءة، وعلى جميع المستويات.
هـ – تحييد المؤسسات العامة (الإعلام، الجيش، القضاء) ومحلياً (الأمن، السلطات المحلية…).

ويبقي السؤال؟ هل تستطيع القيادة أن تدعم الكتلة الصلبة في صناعة و صياغة مشهد توافقي جديد بالحد الادني وفقاً لمبادئ للاجندة الوطنية للوقوف صفاً وأحداً كسودانيين لاستعادة السيادة الوطنية؟

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!