هدنة بلا سلام: حين يحاول التمرد الهروب من حصار الانتهاكات وتغيّر المزاج الدولي!؟

لم يكن إعلان مليشيا الدعم السريع عن “هدنة من طرف واحد للمرة الثانية ” حدثاً معزولاً في توقيته أو لغته أو أهدافه. فالخطوة جاءت في لحظة سياسية وعسكرية ضاغطة على التشكيل المتمرد، وفي أعقاب خطاب واضح وصارم من القائد العام الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، أمام كبار قادة الجيش في لحظة حاسمة. وبقدر ما بدا الإعلان محاولة لتقديم صورة “مسؤولة” أمام العالم، إلا أنه في جوهره ليس سوى خدمة دبلوماسية محضة لرعاتهم وداعميهم الكثر. تهدف إلى الهروب من حصار الانتهاكات والإدانات الدولية ، والتقاط أنفاس قوات استنزفتها الحرب، ومحاولة الالتفاف على تغيّر المزاج الدولي الذي بدأ، لأول مرة منذ شهور، يميل إلى تثبيت السردية السودانية الرسمية حول طبيعة الحرب وجرائم الدعم السريع المروعة.بما يرقى لتصنيفها منظمة أرهابية ويكشف خطلها على سلم الاقليم برمته.
التمرد في مواجهة جدار الحقيقة
على مدى أكثر من عامين، تمكنت مليشيا الدعم السريع من بناء شبكة تضليل واسعة، استندت على:
• استغلال الفراغ الإعلامي داخل السودان؛والمنصات المبسوطة لهم
• التلاعب بالسرديات الإنسانية؛
• وتحشيد منظومة علاقات عامة خارجية ضخمة حاولت تقديمهم كطرف “مهمش” أو “ثائر” في محاذاة الجيش.
لكن هذا البناء بدأ يتهاوى مع تراكم الشواهد على جرائم حرب واسعة، شملت:
• الإبادة المنظمة في غرب السودان؛ واغلب مدن وقرى الشمال والوسط
• الاستهداف العرقي الممنهج؛
• العنف الجنسي كسلاح؛
• النهب الممنهج؛ للممتلكات العامة والخاصة
• تدمير الممتلكات العامة والخاصة؛
• نزوح وهجرة سكان الخرطوم بصورة غير مسبوقة.
وقد صدرت خلال الأشهر الماضية تقارير أممية ومنظمات دولية مرموقة، إلى جانب تحقيقات صحفية غربية ومؤسسات اكاديمية مرموقة، كرّست كلها صورة المليشيا كجماعة مسلحة متورطة في جرائم ضد الإنسانية. وللمرة الأولى، وجد المجتمع الدولي نفسه أمام رواية سودانية موثقة ومتماسكة حول طبيعة هذا الصراع، بعدما حاولت قوى خارجية وإقليمية تعويم صورة التمرد لاعتبارات المصالح والنفوذ. وقد رفض التمرد وقتها التجاوب مع دعوة الامين العام لفك الحصار عن الفاشر لدواعي إنسانية رغم القرار الاممي ٢٧٣٦.
تأتي هذه الانعطافة الماكرة من التمرد مقابل تغيّر جوهري في المزاج الدولي وضع التشكيل المتمرد في الزاوية. إذ لم تعد دعايته تنطلي على أحد، ولم تعد المظلة الإقليمية والدولية قادرة على الدفاع عنه بعد تضخم الأدلة على الجرائم والمناداة بالتحقيق والمساءلة.
هدنة تُعلن تحت نيران المسيّرات
المفارقة الكبرى أن التمرد يعلن هدنة في الوقت الذي:
• يواصل فيه هجماته بالطائرات المسيّرة والمدفعية على المدن الآمنة؛
• ويحاول الانقضاض على بعض المناطق في كردفان؛ بابنوسة نموذجا، الي جانب البني التحتية وقتل المدنيين.
• ويشن عمليات تقدم خاطف لاستعادة مواقع خسرها تحت ضغط الجيش.
الجيش وحكومة السودان رفضا، بوضوح، التعاطي مع خطوة الهدنة. ليس فقط لأنها مجرّد مناورة سياسية، بل لأنها تأتي بينما ما تزال المدن تتعرض للقصف والاقتحام والابتزاز المسلح. فكيف يمكن لطرف يهاجم المدنيين بطائرات مسيّرة أن يوزع خطابات السلام في اللحظة نفسها؟
إنها هدنة بلا توقف للقتال، وسلام بلا إرادة لوقف الجرائم.
الهدف الحقيقي: كسر الطوق الأخلاقي والدبلوماسي
إعلان الهدنة هو رد فعل مباشر على التحولات الدولية الخطيرة التي بدأت تطوّق مليشيا الدعم السريع وتحاصرها:
1. تقارير الأمم المتحدة الأخيرة التي استخدمت لأول مرة عبارات واضحة بشأن الانتهاكات واسعة النطاق.
2. انتقال الموقف الأمريكي من “التوازن” إلى وضع علامات استفهام ضخمة حول الدعم السريع على لسان وزير الخارجية روبيو.
3. المواقف الأوروبية الأكثر صراحة تجاه جرائم دارفور بإدانة وعقوبة من قبل الاتحاد الأوربي على قائد ثاني التمرد .
4. تزايد ضغط المنظمات الإنسانية والحقوقية على مستوى مجلس حقوق الإنسان، والمطالبة بعقوبات مباشرة على قيادات التمرد.
في مواجهة هذا كله، يبحث حميدتي عن “مخرج سياسي” يعيد تلميع صورته. والهدنة من طرف واحد تمنحه فرصة لتمرير رسائل للخارج مفادها أنه:
• “طرف منضبط” وهذا ليس صحيحاً
• “حريص على حماية المدنيين”
• “مستعد للتفاوض”
لكن الحقيقة أن الهدنة ليست سوى خطوة في حرب العلاقات العامة، الهدف منها تشويش السردية السودانية التي نجحت أخيراً في فرض نفسها على المسرح الدولي.
انهيار المنظومة الميدانية: الدافع المخفي
الدافع الآخر — وربما الأهم — هو الواقع العسكري.
فالدعم السريع يعاني في الشهور الأخيرة من:
• تراجع في الإمداد والعتاد
• تآكل القوة المقاتلة وقلة المرتزقة
• فقدان مناطق حيوية في كردفان ودارفور وحصار ينقلب على الساحر
• تزايد الانشقاقات الداخلية
• تراجع الدعم الإقليمي بعد انكشاف طبيعة الحرب وحقيقة سرديتها.
وهنا تأتي الهدنة التي نادت بها الإمارات قبله، كفرصة لإعادة التموضع، وليس بهدف التهدئة. هي محاولة لالتقاط الأنفاس واعادة التموضع، وليس لوقف إطلاق النار.
السردية السودانية تنتصر
بفضل جهود أفراد ومؤسسات وخبراء وناشطين، وواقع ميداني، وبفعل التسريب الضخم لأدلة مرئية ومكتوبة، بدأت الرواية السودانية تتقدم دولياً على حساب سرديات التمرد. ولأول مرة، يظهر التمرد باعتباره المعتدي الرئيسي، بينما تتعامل الدبلوماسية الدولية بجدّية أكبر مع رؤية الخرطوم الان لوضع الحرب ومآلاتها.
ولهذا السبب بالذات، جاء إعلان الهدنة كخطوة استباقية لمحاولة:
• قلب المعادلة او الطاولة ؛بظنهم
• إرباك الوسطاء؛ وهم يدركون الاستحالة
• تصوير الجيش كطرف رافض للسلام؛
• وتحويل الضحية إلى جلاد والعكس.
لكن الواقع الميداني والسياسي والدبلوماسي اليوم أكثر وضوحاً من أن يُموّه بهذه الحيل والمحاولات اليائسة لإنقاذ التمرد التي انكشفت للكل بالداخل والخارج، والتعبئة تزداد زخما.
خاتمة
هدنة التمرد ذر للرماد في العيون ، وهي صيحة في غير ما واد، وهي ليست بداية مسار نحو السلام وطرائقه، بل إعلان أزمة داخلية محاصرة بالانتهاكات والإدانات الدولية وبتحوّل جوهري في نظرة العالم للحرب في السودان. إنها محاولة للهروب من جغرافيا الاتهام وليس من جغرافيا القتال. فالسلام الذي يُعلن تحت هدير المسيّرات والمدافع والخداع ، ومع محاولات الانقضاض على مدن جديدة، ووسط انهيار أخلاقي وفشل سياسي، ليس سلاماً بل خدمة دبلوماسية مصنوعة على عجل.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تتقدم السردية السودانية الحقيقية ، المبنية على الوقائع والوثائق لا الشعارات، وتفرض نفسها على طاولة العالم، لتكشف ما وراء هذه “الهدنة” من مناورة، وما وراء المناورة من مأزق، وما وراء المأزق من سقوط مشروع التمرد برمّته. لعل الأقدار المحضة وفرت للسودان فرصة كبيرة ونادرة لاستعادة زمام المبادرة وفرض رؤيته الوطنية ، لانهاء الحرب من واقع مبادرة في طور التشكل .. عليه ان ينتظر تفاصيلها ليحدد مساره في ثقة وثبات. من واقع مترتبات هذه الحرب وكلفتها على البلاد أرضاً وشعباً ودولة . وان لا ينصرف بأي حال لمثل هذه المزايدات الرخيصة التي لا يوجد مبرر او مصداقية في تاريخ التمرد تجعل الدولة تتعاطى معها، ويدهم في القتل والتدمير والسحل والجرائم البشعة مستمر ولن تسقط دماء اهلها بالتقادم والتزييف، مهما فعل الرعاة والممولين من جهد لأنقاذهم، فهم الي سقوط وزوال لا محالة.
——————
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥م



