العين الثالثة / ضياء الدين بلال

نعم يا هاشم “طق.. توقف الزمبرك”

ضياء الدين بلال

كانت لحظات اللقاء الأخير نهار الجمعة الماضية ، ميقات رحيله أمس. كُنّا في الطريق إليه بشقة ابنه محجوب.. كانت زوجتي رانيا تحمل معها الدكوة والويكة وقارورة بها ماء زمزم.
اتّصلت على هاتفه ذاك النهار، جاءني الرد بصوت أماني امرأة من ذهب وحنين وفيض معانٍ، بيتها مفتوح لضيوف الليل والنهار. أخبرتني أماني أنّ هاشم ليس بالشقة، فقد أعاده الأطباء للمستشفى وخرج لتوِّه من غرفة العناية المُركّـزة. ذهبنا ثلاثتنا أنا ورانيا وشقيقي محمد، وجدت هاشم على سريره الأبيض بذات الابتسامة الصافية النقيّة، وأماني إلى جواره كعادتها منذ أن عرفت هاشم.
تذكرت أول لقاء بيننا كفاحًا: كأنّنا نتعارف منذ سنين، ونَمَا بيننا الود والحنين، ونشوة الحكي الجميل والضحك على الدنيا ومنها، وبعض الدموع تُراق في ذكرى الراحلين من الأصدقاء المُشتركين.
صداقة عامرة بالمَودّة والاحترام وتبادل الآراء بين توافق واختلاف وود محفوظٍ.
تبادلنا الرسائل والتعليقات والونسات الهاتفية والقراءات المُتبادلة ما قبل النشر، بعض من الشعر والغناء (دمعي اتشتت غلب اللقاط ويا زاهية قلبي الشلتي جيبي). في كل لقاء بيننا… لم تغِب الضّحكة والطرفة، هكذا هو هاشم رغم رِقّة وعُذوبة مشاعره، ولطف شخصيته، و(دمعته القريبة)، فهو فارسٌ نبيلٌ جسورٌ، لا يخشى المعارك، ولا تهزم ابتسامته الأوجاع. فهو كما عهدناه دائماً، بَاسِمَ الثّغر، يلُوح بالأماني، ضيئ عينيه بريق ومعان. مع أبو محجوب، ما أروع الحكي الطاعم والأنس الشفيف.. الفول وزيت السمسم وملاح الرجلة بالكسرة والشطة الحراقة الحمراء.. وشعر بزيع:
يضحكُ مُنتشياً للصباحِ
ويتركُ ضحكتهُ في حقول الذرة. مع الكرار تسري فينا عدوى الضحك والسرور وقصص من ليالي السهر وكدح النهار في سباق الأخبار وحبر المطابع وطرائف أستاذه إبراهيم عبد القيوم وتلك (الأيام) وحكايات مع القدال والعميري ومحمد محمد خير ونجيب نور الدين وفتح الرحمن النحاس. هو هاشم ذاك النهار.. كعهدي به بشوشاً، كريماً رحيباً، يدندن في سرِّه وجهره وفي عافيته ومرضه لأمانيه (ست البيت) أم الأولاد وهي تعد العشاء لضيوف الفجأة وطوارق الليل، وتخفف عنه وعثاء الداء: مَا بِتَحْسِبْ عَلَىْ كُلِّيَّه وتَكْرِمْ كُلَّ مَنْسُوبْ لَىَّ أَشْفَقْ مِنْ جَنَاىَ عَلَىَّ وأَطْوَعْ مِنْ بَنَانِى إِلَىَّ لَوْ كَانْ يُومْ شَكَيتْ يَا جَمَاعَه بَى عَرْض العِيُونْ دَمَّاعَه. كانت أماني لهاشم كنخلة محي الدين الفاتح: تتعهّد قلبه بالسقيا
تحمل عنه ثقل الدنيا تمنحه معنى أن يحيا وينتصر بصبره وجلده وابتسامته على الألم والمرض و ورهبة الموت. رحل هاشم وقبل أسبوع كان يحكي بعسرٍ وأنفاسٍ مُتصاعدةٍ إلى علياء الرحمة عن أصدقائه الأوفياء من زمان مضى في الحصاحيصا والخرطوم.
رحل هاشم ولم تكتمل الحكايات وطرائف الذكريات. رحل هاشم عن دنيا العذابات والحروب والخرطوم خراب وحريق ودمار. رحل هاشم بعيداً عن الوطن المضام الوطن الذي أحب؛ الوطن الذي كاد أن يصبح حطام . رحل هاشم إلى كريم غفور رحيم يتغمّده بواسع الرحمة ويسكنه فسيح جناته بإذنه تعالى مع المصطفين الأخيار أصحاب القلوب النقية السليمة. (إنا لله وإنا إليه راجعون)

اترك رد

error: Content is protected !!