✍️ د. أحمد عبد الباقى
“لما كانت الحروب تتولّد عن عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام”، بهذه العبارة الرصينه صُدّر البند الأول لإعلان الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) مما يشير إلي أهمية السلم الاجتماعي كأحد حصون السلام. السِلم الاجتماعي من المصطلحات الحديثة نسبيا التي اهتم بها علم الاجتماع السياسي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. السِلم أصله من السلامة وهو بمعني التصالح و التسالم والتصافي و هو مقابل لحالتي الحرب والصراع والسِلم إصطلاحيا -كما عرفه حسن الصفار -في كتابه السلم الاجتماعي مقوماته وحمايته- يُقصد به “حالة السلم والوئام داخل المجتمع نفسه، وفي العلاقة بين شرائحه وقواه. إن من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع، تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، فسلامتها علامة على صحة المجتمع وإمكانية نهوضه، بينما اهتراؤها دلالة سوء وتخلف”.
السِلم الاجتماعي إما أن يكون داخليا في علاقات المجتمع ببعضه بعضا أو خارجي في شكل علاقات هذا المجتمع مع مجتمعات خارجية. تؤسس مرجعية السلم الاجتماعي الداخلي علي عدة عوامل داخلية تسود في الدولة المعنية (مثل نوعية الخطاب السياسي السائد، وجود السلطة وهيبة الدولة وسيادة حكم القانون)، بينما تؤسس مرجعية السِلم الخارجي علي أسس قوانين الأمم المتحدة التي تأسست في عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لا ننسي أن هنالك ثمة فرق بين السلام و السِلم. السلم قائم على ردع العنف والكراهية وكبت الاحقاد واقامة جو آمن ومتصالح فيه المجتمع ، بينما السلام هو فترة تكميلية للسلم أي بعد السلم ياتي السلام وهو الأمن التام والاستقرار وإنتفاء الحروب والاعمال العدائية بكافة أشكالها.
أهمية السلم الاجتماعي:
إذا كان السلم الاجتماعي يمثل تصالح المجتمع وتعافيه من أحقاده فإن غيابه مؤشر خطير وأعراض لعلة مرضية أصابة ذلك المجتمع وصفها المفكر الجزائرى مالك قائلا: “فإذا تطور مجتمع ما على أية صورة فإن هذا التطور مسجل كما وكيفا في شبكة علاقاته، وعندما يرتخي التوتر في خيوط الشبكة فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة، فذلك أمارة على ان المجتمع مريض وأنه ماض الى النهاية. أما اذا تفككت الشبكة نهائيا فذلك إيذان بهلاك المجتمع،وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ”. ولأهمية هذا السلم في استقرار المجتمع، اهتم علم النفس السياسي بدراسة العلاقة بين الواقع السياسي والواقع الاجتماعي و مدي تأثير الأحداث السياسية علي البنية الاجتماعية.
السلم الاجتماعي في السودان عقب ثورة ديسمبر 2018م:
أعقب سقوط الإنقاذ نشوة ثورية سرت فيها سيكولوجية الجماهير، فتلاشت شخصية الأفراد التي تميزهم حينما أصبحوا جزءاً من الجمهور الذي تأثر بخطاب سياسي ملؤه إستقطاب سياسي حاد تقوده الحظوظ الذاتية الضيقة وغاب عنه هم الوطن الذي يسع الجميع. تشبع هذا الخطاب بشيطنة الخصم وغُيب عنه شرف الخصام، وغَلب عليه التعصب للرأي فساد شعار “من ليس معنا فهو ضدنا”، وظهرت سلوكيات غريبة علي المجتمع انعدم فيها احترام الكبير الذي تعرض لوحشية بطش الأجهزة الأمنية وسوء معاملتها وطفق طلاب بعض المدارس و الجامعات يزفون أساتذهم ويرمونهم بغليظ القول وفظه و أُستغل الأطفال الصغار في الرياض و المدارس والمظاهرات ولُقنوا -دون وازع أخلاقي -كراهية جرحت فطرة الحب والتسامح التي جُبلوا عليها قبل أن تطمسها أهواء الساسة الخبيثة.
لا شك أن المآسي عاليه من منغصات السِلم الاجتماعي وخوارمه. و في ظل سيطرت سيكولوجية الجماهير تلك، غاب الواعي الذاتي الذي يُشكل تفكير الفرد و تصرفاته خاصة التي تحكم علاقاته مع محيطه المجتمعي وتربطه به علاقات بينية تتأثر سلبا بمنغصات السِلم الاجتماعي.
مقومات السِلم الاجتماعي في السودان:
معالجة منغصات السلم الإجتماعي تُبني علي مقومات أتت من مخرجات بحوث ومحاضرات ومقالات أكاديمة متعددة تأخذ في الحسبان المتغيرات المختلفة لتصلح للتطبيق في المجتمعات التي تتأثر بخوارم (منغصات) السِلم الاجتماعي. ومن هذه المقومات التي نستند عليها هنا، مخرجات ندوة علمية (بحضور جمع من العلماء والأكاديميين) عقدت في عام 2001 لحسن الصفار ووضعت في كتاب تحت عنوان “السلِم الاجتماعي مقوماته وحمايته”:و من هذه المقومات التي يمكن إسقاطها السلم الاجتماعي في السودان الآتي: (أ)السلطة والنظام:من الأهمية بمكان اليوم قبل الغد أن تتشكل في السودان سلطة حاكمة ونظام سياسي (إنتقالي حاليا وديمقراطي مستقبليا) لإدارة شؤون المجتمع ولا يمكن الحديث عن سلم اجتماعي معافي في ظل غياب الدولة ومن واقع التجربة، رأينا كيف عانت الشعوب في لبنان والصومال وأفغانستان من قبل وحاليا ليبيا واليمن وسوريا حين اُفتقدت سلطة الدولة، وأصبحت نهباً لمطامع الميليشيات والأحزاب والمتصارعة على السلطة والحكم، علي الرغم من أن السودان ما زال في مأمن علي الأقل في الوقت الراهن ولكن لن تسلم الجُرة في كل مرة.
(ب) العدل والمساواة: لابد أن يتساوي الناس أمام القانون، وينال كل ذي حق حقه من دون تمييز لفئة على أخرى، بهذا التساوي تقل دوافع العدوان وتنتفي أسباب الخصومة والنزاع. أما إذا فشت ممارسات الظلم والجور، وعانى البعض الحرمان والتمييز و ضعف سلطان العدالة، فإن السلم الجتماعي سيتزعزع، حتى ولو بدت أمور المجتمع هادئة مستقرة، فإنه استقرار كاذب، وهدوء زائف، لا يلبثان أن ينكشفا عن فتن واضطرابات مدمرة ولو مستقبلا حينما يجد الطرف المغبون فرصة للإستقواء على طرف آخر بغير حق، ودوننا في التاريخ القريب أمثلة علي هذا الإستقواء أثناء الفترة الإنقالية من خلال التعسف ضد الخصوم السياسيين عبر آلية سوء استخدام السلطة التي تعسفت الانقاذ في استخدامها ضد خصومها سابقا فطفق خصومها بعد أن آلت إليهم السلطة يسقون منتسبي الإنقاذ من نفس الكأس باسم الثورة مرة و باسم إزالة التمكين تارة. و بغض النظر عن مدي شريعة ذلك من عدمه و بين هذا وذاك تأثر سلم المجتمع السوداني سلبا وسيظل في يدور في دائرة مفرغة ما يتم الإنتباه لذلك ومعالجتة.
(د) ضمان الحقوق والمصالح المشروعة لكل فئات المجتمع: بمعني أن يشعر الجميع، (خاصة الأقليات) في المجتمع السوداني بضمان حقوقهم ومصالحهم المشروعة في ظل النظام والقانون الذي يقر التنوع والتعدد دون المساس بتلك الحقوق والمصالح علي نحوم يقوم علي الديمومة الاجتماعية (social sustainability) التي تعني في حدها الادني أن ينعم المجتمع الحالي الأجيال المقبلة بالأستقرار في ظل تنمية مستدامة.
همسة:
حينما يتكدر السلم الاجتماعي لا توجد أي مبررات إنسانية أو دينية أو أخلاقية تقدم الحلول السياسية التي تراعي مصالح الأحزاب فقط دون الاهتمام بالسلم الاجتماعي ليتحقق الوئام بين مكونات المجتمع المختلفة، لذا يجب أن يستقيظ ضمير فرقاء السياسة السودانيين للتمسك بالحوار والتفاوض والمساومة للتوصل إلي حلول تقوم علي قاعدة أن يكسب الجميع بما فيهم المكون العسكري (win-win situation) أما التمترس بنظرية المعادلة الصفرية في المفاوضات (zero sum game)، فهي مُنبَتة لن تقطع أرضا ولن تبقي ظهرا بينما الفائز هو إرادة الأفراد ومصالح أحزابهم الضيقة والخاسر هو المجتمع لسلمه ونبكي يوما مجتمعا ضيعناه باللامبالة بما يجري للسلم الاجتماعي.