الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

موطئ قلم – موانيء السودان بالبحر الاحمر، دوائر الصراع و التنافس الإقليمي و الدولي (3)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم


دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)

__________

بعد أن إستعرضنا في الجزئين الأول والثاني الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر وموقع السودان وموانئه، ثم أوضحنا حال الموانئ السودانية وقصور بنيتها مقارنة بجيرانها، يتضح أن هذه الموانئ لم تعد شأناً محلياً أو حتى إقليميًا فحسب، بل أصبحت جزءًا من لعبة النفوذ الدولية. فالموانئ السودانية، بحكم موقعها الاستراتيجي و إطلالتها المتميزة على الساحل الغربي للبحر الأحمر ، تحولت إلى أوراق جيوسياسية مطلوبة لدى القوى الكبرى والإقليمية، إذ يرى كل طرف أن السيطرة عليها تمنحه تفوقًا في معادلات التجارة العالمية والأمن البحري.

إن الجزء الثالث والأخير يذهب مباشرة إلى قلب المشهد، و يتناول الأطماع الدولية و الإقليمية في الموانيء السودانية، وكيف تداخلت مع الحرب الراهنة لتجعل من هذه المرافئ اهدافاً إستراتيجيةً في حد ذاتها. كما يناقش الانعكاسات المباشرة لقرارات بعض القوى الإقليمية، وفي مقدمتها الإمارات، قبل أن يفتح أفقًا للبدائل والفرص المتاحة أمام السودان لبناء رؤية مستقبلية تحول هذه الموانئ من نقاط ضعف إلى ركائز قوة وسيادة.

الأطماع الدولية في الموانئ السودانية

لم تعد الموانئ السودانية موضع تنافس إقليمي فقط، بل أصبحت جزءًا من مسرح التنافس الدولي على النفوذ في البحر الأحمر، وهو تنافس يجمع بين المصالح الاقتصادية (الطاقة والتجارة) والاعتبارات الاستراتيجية (القواعد العسكرية والتحكم في خطوط الملاحة). ويمكن رصد أبرز الأطراف الدولية الفاعلة في هذا المجال على النحو التالي:

  1. الصين _النفوذ عبر مبادرة “الحزام والطريق”:

تسعى الصين إلى ربط آسيا بإفريقيا وأوروبا عبر مبادرة الحزام والطريق، التي تجعل من البحر الأحمر ممرًا حيويًا لمشروعها الاستراتيجي.

السودان، بموقعه على الساحل الغربي للبحر الأحمر، يمثل نقطة وصل طبيعية في هذا المشروع، خصوصًا أن الصين هي الشريك التجاري الأول للخرطوم في مجالات النفط والمعادن.

بكين أبدت اهتمامًا واضحًا بالاستثمار في تطوير ميناء بورتسودان ومشاريع مناطق حرة لوجستية على ساحل البحر الأحمر، على غرار ما فعلته في جيبوتي حيث أقامت قاعدة عسكرية وميناءً ضخمًا.

بالنسبة للصين، السيطرة غير المباشرة على الموانئ السودانية تعني تأمين خطوط إمداد الطاقة والتجارة الصينية، وتقليل الاعتماد على الممرات الخاضعة للنفوذ الأمريكي والأوروبي.

  1. روسيا_ مساعي إقامة قاعدة بحرية في بورتسودان:

موسكو تنظر إلى البحر الأحمر باعتباره بوابة إلى “المياه الدافئة” التي طالما سعت إليها استراتيجيًا.

منذ 2017م، دخلت روسيا في مفاوضات مع السودان و لا تزال، لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان قادرة على استيعاب سفن حربية وغواصات نووية.

هذه القاعدة تمنح روسيا موطئ قدم استراتيجي قرب قناة السويس وباب المندب، وتفتح لها مجالًا للتأثير في خطوط الملاحة العالمية، و لعل هذا الامر اصبح لدى روسيا اوجب من ذي قبل بعد فقدانها حليفها الاستراتيجي نظام بشار الاسد في سوريا و احتياجها لمواقع حليفة متقدمة بالمنطقة.

ورغم التردد السوداني وضغوط الغرب لإفشال المشروع، إلا أن روسيا ما تزال حريصة على استغلال حاجة السودان للتنمية العسكرية والاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.

  1. الولايات المتحدة – احتواء الصين وروسيا:

واشنطن تدرك أن وجود الصين وروسيا في البحر الأحمر يمثل تهديدًا مباشرًا لنفوذها البحري والأمني.

لذلك، تحاول الولايات المتحدة استخدام أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية للضغط على السودان من أجل منع أي شراكات استراتيجية مع بكين أو موسكو.

كما تعمل على تعزيز وجودها العسكري عبر قواعدها في جيبوتي، وضمان ألا تتحول الموانئ السودانية إلى نقاط ارتكاز للمنافسين.

على الصعيد الاقتصادي، تدعم واشنطن مشاريع إقليمية بديلة (مثل ميناء العقبة في الأردن، ومشاريع في مصر والسعودية) لتقليل اعتماد المنطقة على موانئ السودان.

  1. تركيا وقطر – مشروع سواكن:

في عام 2017َم، وقعت أنقرة والخرطوم اتفاقًا لتطوير جزء من منطقة و جزيرة سواكن و لربما كان الأمر سيتطور ليشمل الميناء وتحويل المنطقة الى مركز سياحي وتجاري، مع إشارات إلى إمكانية استخدامه كمركز لوجستي عسكري.

المشروع، الذي زُعِم حينها ان قطر سوف تموله جزئيًا، _ (ولو أن ذلك أمر غير صحيح، والصحيح هو أن كل من قطر و تركيا كان يبحث عن فرصة في الاستثمار بسواكن بمعزلٍ عن الآخر) _، هذا المشروع أثار قلق الإمارات ومصر، باعتباره توسيعًا للنفوذ التركي في البحر الأحمر.

ورغم أن المشروع توقف بعد التغيرات السياسية في السودان (سقوط نظام البشير)، إلا أنه يظل دليلًا على أن الموانئ السودانية ليست بعيدة عن صراع المحاور الإقليمية والدولية.

عليه، نخلص بالقول هنا، أن:


الصين، ترى في الموانئ السودانية فرصة لتعزيز الحزام والطريق.
روسيا، تعتبرها منصة لوجود عسكري دائم على البحر الأحمر.
الولايات المتحدة، تعمل على إفشال النفوذ الصيني والروسي والحفاظ على هيمنتها.
تركيا وقطر، سعتا إلى موطئ قدم استراتيجي عبر سواكن، لكن أطماع الإمارات والتحولات السياسية عطّلت المشروع.

حرب السودان والموانئ

من الصعب فصل الحرب الدائرة في السودان عن الأطماع الإقليمية والدولية في موانئه، إذ أن هذه المعابر و المنافذ البرية و البحرية خاصة الموانئ تمثل شرايين الاقتصاد والسيادة الوطنية، ومن يسيطر عليها يمتلك أوراقًا حاسمة في الصراع. ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:

  1. السيطرة على بورتسودان، تعني السيطرة على شريان الدولة التجاري

ميناء بورتسودان وحده يستحوذ على أكثر من 90% من واردات وصادرات السودان، بما في ذلك السلع الغذائية والدوائية والوقود.

أي طرف يتمكن من السيطرة على هذا الميناء أو تعطيله يملك القدرة على خنق الدولة اقتصاديًا وإحداث شلل كامل في دورة الحياة اليومية.

لذلك، لا يُستبعد أن تكون السيطرة على بورتسودان أحد الأهداف غير المعلنة لبعض القوى الداعمة للحرب، التي ترى أن التحكم في الميناء يمنحها نفوذًا استراتيجيًا على الدولة السودانية بأكملها.

  1. الموانئ كمراكز إسناد عسكري ولوجستي

الموانئ ليست للتجارة فقط، بل تُستخدم أيضًا في إمداد الجبهات العسكرية بالوقود والذخائر والمؤن.

في الحرب السودانية، برزت أهمية موانئ البحر الأحمر كمراكز لإعادة التموين والعبور، سواء للجيش السوداني أو لأطراف إقليمية ودولية حاولت تمرير دعمها لمليشيات التمرد.

هذا البعد جعل الموانئ السودانية جزءًا من ساحة الصراع غير المعلنة، حيث تتقاطع فيها خطوط الإمداد المدني والعسكري.

  1. الخلل في الموانئ يعني انهيار أمني واقتصادي

أي تهديد لموانئ السودان، خصوصًا بورتسودان، يعني تهديدًا مباشرًا للأمن القومي.

تعطيل الميناء أو حصاره سيؤدي إلى:

نقص حاد في الغذاء والدواء.

شلل في حركة التجارة والصناعة.

انهيار قيمة العملة بسبب توقف الصادرات والواردات.

هذا ما يفسر حرص الجيش السوداني على تحصين الساحل الشرقي وحماية الموانئ من أي اختراق، لأن سقوطها يعني عمليًا سقوط الدولة اقتصاديًا وأمنيًا.

  1. الموانئ كأهداف في الصراع الجيوسياسي

القوى الإقليمية والدولية ترى أن الحرب في السودان ليست مجرد نزاع داخلي، بل فرصة لإعادة رسم النفوذ في البحر الأحمر.

لذلك، فإن بعض الأطراف الخارجية قد تكون شجعت على استمرار الحرب أو تغذيتها، بهدف إضعاف الدولة السودانية وفتح الطريق أمام التحكم في الموانئ عبر وكلاء محليين.

هنا يتضح كيف أن الأطماع الاقتصادية (الموانئ والتجارة) تتقاطع مع الأهداف السياسية والعسكرية في خلفيات الحرب.

إن الحرب في السودان لا يمكن قراءتها فقط كصراع داخلي بين الجيش والمليشيا، بل يجب النظر إليها كجزء من صراع أكبر على الموانئ والبحر الأحمر. فمن يسيطر على هذه الموانئ يسيطر على شريان الاقتصاد، ويمتلك ورقة استراتيجية لإعادة تشكيل موازين القوى في السودان والمنطقة بأسرها.

قرارات الإمارات الأخيرة

في ذروة فعاليات الحرب السودانية وما صاحبها من تصاعد التوترات الإقليمية، أقدمت دولة الإمارات العربية المتحدة على سلسلة من الإجراءات التصعيدية ضد السودان. فقد بدأت بقرار إيقاف الرحلات الجوية المباشرة من وإلى السودان، وهو ما انعكس فورًا على حركة المسافرين، ولا سيما العاملين السودانيين في الخليج و اصحاب التجارة و الأعمال الذين يعتمدون على هذه الخطوط. ثم توسعت الإجراءات لتشمل إيقاف الحركة الملاحية والبحرية من وإلى الموانئ السودانية، في خطوة وُصفت بأنها ضغط سياسي واقتصادي مباشر على الحكومة السودانية، عقابًا لموقفها الرافض للدور الإماراتي المشبوه في دعم مليشيا التمرد.

انعكاسات هذه القرارات

  1. خسائر اقتصادية كبيرة:

تعطيل جزء معتبر من حركة الصادرات والواردات، خصوصًا أن الإمارات كانت إحدى الوجهات المهمة لإعادة التصدير والتجارة العابرة.

ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين نتيجة البحث عن خطوط بديلة أطول وأغلى.

خسائر مباشرة للقطاع الخاص السوداني، خاصة شركات التصدير الزراعي والحيواني التي كانت تعتمد على دبي كمحطة توزيع رئيسية.

  1. عزلة تجارية نسبية:

هذه القرارات تؤثر و تؤدي إلى تضييق قنوات التجارة الخارجية، خاصة في ظل محدودية البدائل الفورية.

كذلك تعمل على تقليل و انخفاض حركة رجال الأعمال والمستثمرين عبر الموانئ السودانية، وهو ما يؤثر على الثقة الاستثمارية.

  1. تهديد الأمن الغذائي والدوائي:

التأثير على واردات السلع الاستراتيجية مثل الحبوب والأدوية وقطع الغيار نتيجة اضطراب سلاسل الإمداد.

ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية بسبب صعوبة الوصول إلى الأسواق الخليجية عبر خطوط النقل السابقة.

  1. انعكاسات سياسية وأمنية:

القرار الإماراتي مثّل رسالة سياسية واضحة مفادها أن أبوظبي مستعدة لاستخدام أدوات النقل والتجارة كسلاح عقابي ضد الخرطوم.

هذا بدوره عزّز القناعة بأن الأطماع الإماراتية في الموانئ ليست اقتصادية فقط، بل جزء من أجندة أوسع لإضعاف السودان وإخضاعه لمحاور النفوذ.

البدائل وسيناريوهات مواجهة القرارات و الاجراءات الإماراتية

أمام هذا الوضع، يملك السودان مجموعة من الخيارات العملية التي يمكن أن تحد من آثار القرارات الإماراتية وتفتح آفاقًا بديلة:

  1. تعزيز الشراكة مع قطر، تركيا، السعودية في سواكن :

إحياء المشروع التركي او القطري لتطوير ميناء سواكن سيعزز موقع السودان كمركز لوجستي إقليمي بديل عن الاعتماد على دبي، مع امكانية مفاوضة السعودية.

تركيا تمتلك خبرات متميزة في إدارة وتشغيل الموانئ، وقطر تملك إمكانيات تمويلية، وهو ما يجعل هذا التحالف خيارًا استراتيجيًا.

  1. إحياء مشروع الميناء السعودي – السوداني المشترك:

المشروع الذي طُرح سابقًا يمكن أن يكون ورقة رابحة للطرفين، حيث تستفيد السعودية من موقع السودان في البحر الأحمر، بينما يستفيد السودان من القدرات الاستثمارية والتكنولوجية السعودية، كما يمكن ان تكون السعودية بديلاً مثالياً للشراكة و الاستثمار في عدد من الموانئ و المواقع الساحلية.

هذا التعاون يمكن أن يعزز التكامل بين موانئ جدة وينبع من جهة والموانئ السودانية من جهة أخرى، في إطار رؤية البحر الأحمر كفضاء مشترك للأمن والتنمية.

  1. التوجه نحو الصين وروسيا لبناء مرافق جديدة:

الصين قادرة على إدخال الموانئ السودانية في مبادرة الحزام والطريق وتوفير تمويل ضخم لتطوير بورتسودان أو إنشاء موانئ جديدة.

روسيا من جانبها تسعى إلى موطئ قدم عسكري وتجاري في البحر الأحمر، ويمكن أن توفر استثمارات وبنية تحتية مقابل اتفاقيات استراتيجية.

رغم أن هذه الخيارات قد تثير حساسية الولايات المتحدة والغرب، إلا أنها تمنح السودان بدائل حقيقية لملء الفراغ.

  1. تطوير الموانئ الداخلية والنقل النهري:

الاستثمار في النقل النهري عبر نهر النيل وربطه سككياً و برياً بالموانئ البحرية يقلل الضغط على بورتسودان ويخلق بدائل داخلية مرنة.

كما أن تطوير موانئ أصغر (مثل أوسيف وعقيق) يمكن أن يوزع حركة التجارة ويقلل الاعتماد على منفذ واحد.

إن قرارات الإمارات الأخيرة ليست مجرد إجراءات إدارية، بل هي رسالة سياسية – اقتصادية عقابية، هدفها إخضاع القرار السوداني وربطه بمحور النفوذ الإماراتي. لكن في المقابل، فإن هذه الخطوات يمكن أن تتحول إلى فرصة للسودان لإعادة رسم شراكاته، عبر الانفتاح على بدائل جديدة (السعودية، مصر، قطر، سلطنة عمان، تركيا، الصين، روسيا)، وتعزيز بنيته الداخلية في النقل واللوجستيات

الفرص المتاحة أمام السودان

رغم التحديات الكبيرة التي تواجه الموانئ السودانية، إلا أن الموقع الجغرافي الاستثنائي للبلاد يمنحها فرصًا واسعة يمكن أن تعيد صياغة دورها في البحر الأحمر والإقليم بأكمله:

مركز لوجستي إقليمي يربط إفريقيا بالشرق الأوسط وآسيا:

يمتلك السودان أطول واجهة بحرية على الضفة الغربية للبحر الأحمر (720 كم)، ما يجعله مؤهلاً لأن يكون همزة وصل طبيعية بين عمق إفريقيا الغني بالموارد وأسواق الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا.

يمكن أن تصبح موانئه، إذا ما طُوّرت، منافسًا لموانئ جيبوتي في خدمة دول الجوار غير الساحلية مثل إثيوبيا، جنوب السودان، وتشاد، التي تبحث عن منافذ بحرية بديلة وآمنة.

إمكانية تصدير المعادن والزراعة عبر موانئ حديثة:

السودان غني بالثروات المعدنية (الذهب، الحديد، النحاس، الكروم) والزراعية (الحبوب، الصمغ العربي، الثروة الحيوانية).

تطوير موانئ متخصصة ومجهزة يعني القدرة على زيادة تنافسية الصادرات السودانية في الأسواق العالمية عبر تقليل تكاليف النقل والتخزين، وزيادة سرعة المناولة.

فتح شراكات مع القطاع الخاص المحلي والدولي:

بإمكان السودان استقطاب استثمارات محلية وأجنبية لتطوير الموانئ على غرار الشراكات التي تمت في جيبوتي والسعودية.

وجود مناطق حرة وصناعية قرب الموانئ سيجذب شركات كبرى لإنشاء مرافق للتخزين، إعادة التصدير، أو الصناعات الخفيفة المرتبطة بالتجارة البحرية.

هذا يفتح المجال أمام تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على الإيرادات التقليدية.

ملامح الرؤية المستقبلية

لتحويل هذه الفرص إلى واقع ملموس، لا بد من تبني خطة استراتيجية وطنية لإعادة هيكلة قطاع الموانئ، ويمكن أن تشمل المحاور التالية:

تحديث شامل لمينائي بورتسودان وسواكن:

تحديث شامل لبنيتها التحتية وتجهيزها بأحدث التقنيات الفنية و المينائية. وإدخال تقنيات حديثة لمناولة الحاويات والبضائع.

توسعة الأرصفة وتعميق الممرات البحرية لاستيعاب السفن الضخمة.

بناء محطة حاويات حديثة ببورتسودان او تطوير و تحديث المحطة الموجودة، ومرافق سياحية وتجارية في سواكن.

إنشاء مناطق حرة متكاملة:

إنشاء مناطق حرة وصناعية متكاملة تجعل منها مراكز إنتاج وإعادة تصدير وصناعة تعزز القيمة المضافة للموارد السودانية، و ذلك من خلال إقامة مناطق لوجستية وصناعية بالقرب من الموانئ، تشمل مخازن مبردة، مناطق إعادة تصدير، مصانع للصناعات الخفيفة (تغليف، تعليب، تجميع).

هذه المناطق ستوفر فرص عمل وتزيد من القيمة المضافة للصادرات السودانية بدل الاكتفاء بتصدير خامات أولية.

تعزيز الربط السككي والطرقي مع دول الجوار:

ربط الموانئ مع المناطق الانتاجية بشبكات نقل متطورة سككية وبرية و تشبيكها بالعمق الإفريقي، بما يحول السودان إلى معبر قاري بين إفريقيا والعالم.

إعادة تأهيل خط السكة الحديدية بين الخرطوم وبورتسودان وربطه بدول الجوار مثل إثيوبيا وتشاد.

إنشاء طرق سريعة تربط الموانئ بالمناطق الزراعية والمعدنية في الداخل.

هذا الربط سيحوّل الموانئ السودانية إلى معابر إقليمية تخدم ليس السودان وحده بل عمق إفريقيا.

تحييد الموانئ عن الصراعات السياسية:

والأهم، تحصينها وتحييدها ضد التجاذبات السياسية والعسكرية و الصراعات، لتكون أدوات للتنمية والسيادة لا أوراق ابتزاز وتهديد. بحيث يجب أن تكون الموانئ مؤسسات سيادية اقتصادية بالدرجة الأولى، محمية من التوظيف السياسي أو الاستغلال الحزبي.

إنشاء هيئة وطنية مستقلة للموانئ ذات طابع اقتصادي – تنموي، تخضع لرقابة الدولة ولكن بمنأى عن التجاذبات السياسية، سيضمن أن تكون الموانئ أداة للتنمية لا ورقة ابتزاز أو عبء أمني.

يمتلك السودان فرصًا نادرة ليكون لاعبًا محوريًا في البحر الأحمر إذا ما أحسن استغلال موقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية. وتتمثل الرؤية المستقبلية في بناء موانئ حديثة، مناطق حرة متكاملة، شبكة نقل متطورة، مع تحييد الموانئ عن الصراعات الداخلية والخارجية، لتتحول من أهداف للأطماع إلى ركائز للسيادة والتنمية الوطنية.

إن موانئ السودان على البحر الأحمر ليست مجرد مرافق بحرية تُستخدم لشحن البضائع وتفريغها، بل هي بوابة الدولة نحو العالم الخارجي، وشرايين أساسية لاقتصادها الوطني، وأوراق قوة أو ضعف في معادلات الأمن والسيادة. فهي نقاط تماس مباشر بين السودان والأسواق العالمية، ومن خلالها يمر الجزء الأعظم من صادراته ووارداته، مما يجعلها الركيزة الأولى لاستقرار البلاد الاقتصادي والتنمية المستدامة.

هذه الموانئ، بحكم موقعها الجغرافي الفريد، لم تسلم من الأطماع الإقليمية والدولية، بل تحولت إلى مسرح مفتوح للتنافس والصراع. القوى الإقليمية كالإمارات وتركيا وايران، والقوى الدولية كالولايات المتحدة وروسيا والصين، جميعها أدركت أن السيطرة أو النفوذ على الموانئ السودانية يعني التحكم في شريان حيوي للتجارة والأمن في البحر الأحمر. وهكذا، فإن إهمال السودان لموانئه أو تركها رهينة للتجاذبات لم يكن مجرد قصور إداري، بل نافذة تسللت منها المشاريع الخارجية لتجعل هذه المرافئ رهائن للمساومات الإقليمية والدولية.

لقد أثبتت الحرب السودانية الراهنة أن الموانئ ليست بعيدة عن دائرة الصراع، بل هي جزء أصيل من رهاناته وخلفياته. فمن يسيطر على بورتسودان يملك القدرة على خنق الدولة اقتصاديًا وإضعافها سياسيًا، وأي خلل في تشغيل هذه الموانئ يعني انهيارًا أمنيًا واقتصاديًا يفتح الباب واسعًا أمام التدخلات الأجنبية. لهذا، فإن حماية الموانئ وتطويرها لم يعد ترفًا أو خيارًا مؤجلاً، بل أصبح قضية سيادة وطنية وشرطًا لبقاء الدولة نفسها.

ومع ذلك، فإن السودان يمتلك في هذه الموانئ فرصة تاريخية، فبدل أن تكون مصدر ضعف يمكن أن تتحول إلى ركائز قوة إذا ما وُظفت ضمن رؤية وطنية مستقلة.

لقد تناولنا عبر ثلاثة أجزاء متكاملة أبعاد قضية الموانئ السودانية على البحر الأحمر، من حيث موقعها وأهميتها، وأطماع القوى الإقليمية والدولية فيها، وانعكاس الحرب السودانية الراهنة على مستقبلها. واتضح أن هذه الموانئ لم تعد مجرد مرافق اقتصادية، بل تحولت إلى مفاصل استراتيجية تحدد حاضر السودان ومستقبله، وتنعكس على أمن واستقرار الإقليم برمته.

لقد بينّا أن السودان، رغم ما يواجهه من أزمات داخلية وضغوط خارجية، يملك موقعًا جغرافيًا استثنائيًا يجعله قلبًا نابضًا في معادلات التجارة العالمية والأمن البحري. غير أن هذا الموقع لم يُستثمر كما ينبغي، فتحولت الموانئ إلى أهداف للاطماع و التجاذبات ، بدل أن تكون أدوات قوة وسيادة. كما أثبتت الحرب الأخيرة أن من يسيطر على هذه الموانئ يملك القدرة على خنق الدولة اقتصاديًا والتأثير في أمنها القومي.

رغم ذلك، فإن الموانئ السودانية تمثل أيضًا فرصة تاريخية، إذ يمكن أن تتحول إلى رافعة اقتصادية وتنموية إذا ما أُعيد النظر في إدارتها وتطويرها، ضمن رؤية وطنية مستقلة تستفيد من الشراكات الدولية دون الوقوع في فخ التبعية أو الارتهان. تحديث بورتسودان وسواكن، إنشاء مناطق حرة وصناعية متكاملة، ربط الموانئ بالعمق الإفريقي، وتحويلها إلى مراكز لوجستية عالمية؛ كلها خطوات كفيلة بتحويل هذه المرافئ من مسار ضعف إلى مفاتيح قوة استراتيجية.

إن السودان، إذا ما استوعب دروس الحرب ووعى قيمة موقعه الجغرافي، فسيكون قادراً على تحويل موانئه من أهداف مستباحة للأطماع إلى مفاتيح قوة استراتيجية تضمن سيادته وتفتح أمامه أبواب الازدهار، ليس فقط لنفسه بل للإقليم بأسره.

إن البحر الأحمر لن يعرف استقرارًا حقيقيًا ما لم يكن السودان لاعبًا فاعلًا فيه، وموانئه لن تتحرر من الأطماع ما لم تتحول إلى ركائز للسيادة والتنمية. فالمعركة على الموانئ ليست مجرد صراع جغرافي أو اقتصادي، بل هي معركة على هوية السودان و دوره في الاقليم و العالم اجمع. ومن هنا، فإن استيعاب الدروس، وبناء استراتيجية واضحة، يشكّلان الضمانة الوحيدة لتحويل الموانئ من ساحات تنافس وصراع إلى جسور عبور نحو مستقبل آمن ومزدهر.

الخميس 2 اكتوبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!