مناورات النجم الساطع : قراءة في البُعد الاستراتيجي للبحر الأحمر ودور السودان المحتمل (2)

تناولت في الجزء الأول من هذه القراءة مناورات (النجم الساطع) من حيث نشأتها وتطورها وأهدافها ومراكز الثقل فيها، و في الجزء الثاني سوف اتناول الوجه الأكثر حساسية لهذه المناورات من جهة البحر الأحمر وما يحمله من رهانات جيوسياسية كبرى. ذلك أن البحر الأحمر لم يعد مجرد معبر ملاحي عالمي، بل تحوّل إلى مسرح صراع دولي مفتوح، تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى والإقليمية، وتتصاعد حوله المخاطر المهددة لأمن الطاقة والتجارة الدولية.
وفي هذا السياق، يبرز السودان كدولة مطلة على هذا البحر الحيوي، ويمتلك موقعًا استراتيجيًا وساحلًا طويلًا وموانئ ذات أهمية، ما يجعله عنصرًا لا غنى عنه في أي معادلة تخص أمن البحر الأحمر. ومع أن السودان شارك بالفعل في نسخة 2021 من هذه المناورات، إلا أن غيابه اللاحق بسبب الحرب الداخلية كشف عن فجوة مؤسفة في حضوره الإقليمي والدولي.
من هنا، تأتي أهمية التوقف عند دور السودان المحتمل في معادلة النجم الساطع وأمن البحر الأحمر، وكيف يمكن إعادة بناء هذا الدور بما يتجاوز العزلة والغياب، إلى استعادة المكانة والمشاركة الفاعلة في صياغة التوازنات الإقليمية.
مناورات النجم الساطع و دول حوض البحر الأحمر
ليس هناك ادنى شك في أن مناورات النجم الساطع، ليست فقط تمرينًا عسكريًا، بل منصة لإعادة صياغة النفوذ في البحر الأحمر، و هذا يعكس البُعد السياسي والجيوستراتيجي لمناورات (النجم الساطع) ، إذ إنها تتجاوز الطابع العسكري البحت إلى مستوى إعادة ترتيب التوازنات في منطقة البحر الأحمر، التي باتت ميدانًا مفتوحًا للتنافس الدولي والإقليمي. فالمناورة العسكرية هنا تُستخدم كأداة (دبلوماسية صلبة) لإعادة التأكيد على النفوذ الغربي والعربي في هذا الحوض، في مواجهة قوى غير مرغوب فيها (مثل إيران، تركيا، روسيا، الصين).
إن الدول المشاركة تمثل تحالفات تسعى لحماية مصالحها في الملاحة، الطاقة، مكافحة التهريب، والهجرة، فنجد ان (السعودية، الإمارات، مصر، الأردن، الولايات المتحدة) تمثل النواة الصلبة لما يمكن تسميته بـ(تحالف البحر الأحمر) . و هذه الدول تشترك في مخاوف عدة منها :
تهديد الملاحة الدولية (مثل الهجمات الحوثية في باب المندب). تهريب السلاح والبشر والمخدرات عبر السواحل غير المُحكمة.
الهجرة غير النظامية من القرن الإفريقي باتجاه الخليج وأوروبا. الاختراق الإيراني عبر الحوثيين أو وكلاء غير مباشرين في إريتريا واليمن.
كذلك، يُلاحظ مشاركة أو تمثيل جزئي لدول مثل السعودية، الإمارات، الأردن، وأحيانًا السودان، بينما تغيب دول مثل إريتريا، جيبوتي، واليمن،
السعودية والإمارات تُشاركان بانتظام، لارتباطهما المباشر بأمن البحر الأحمر وخطوط تصدير النفط.
الأردن رغم عدم إطلالته على البحر الأحمر إلا من منفذ صغير، يُشارك لأسباب سياسية وعسكرية متعلقة بدوره الإقليمي وتحالفه مع مصر والسعودية.
السودان شارك في نسخة المناورات عام 2021م، وكان ذلك خلال فترة الانفتاح بعد الثورة التي اسقطت نظام الانقاذ و انهت حكم البشير في العام 2019م، لكنه غاب لاحقًا بسبب الحرب و الانشغالات السياسية و العسكرية الداخلية، بينما نجد أن غياب دول مثل (إريتريا، جيبوتي، اليمن) يعكس انقسامات جيوسياسية وبعض هذه الدول تقترب من معسكرات منافسة (مثل التقارب الإريتري مع روسيا، أو الحضور الصيني في جيبوتي)، اما اليمن فهي غائبة بسبب الحرب المستمرة وضعف الدولة المركزية.
دلالات التركيز على البحر الأحمر
ان التركيز علي البحر الأحمر لم يأتي من فراغ، و انما له مدلولاته و مسوغاته، حيث :
1) أهمية البحر الأحمر كممر دولي للطاقة والتجارة:
يمر عبر البحر الأحمر قرابة 10% من تجارة العالم، وقرابة 12% من تجارة النفط والغاز العالمي.
كما يُعتبر البحر الأحمر جزءًا من الطريق البحري بين آسيا وأوروبا، حيث تمر السفن من باب المندب إلى قناة السويس. كذلك فإن أي اضطراب فيه يؤدي إلى ارتفاع كلفة النقل البحري عالميًا، وتهديد مباشر لاقتصادات الطاقة.
2) تنامي التهديدات في الإقليم:
فقد عادت القرصنة للواجهة قرب مضيق باب المندب، سواء من جماعات عشوائية أو مدفوعة سياسيًا.
كذلك الإرهاب البحري و الذي يتمثل في الألغام، الطائرات المسيّرة، والصواريخ الموجهة التي تستهدف السفن (كما يفعل الحوثيون).
الظهور و التدخل التدخل الإيراني الذي يتم عبر الحلفاء المسلحين مثل الحوثيين أو عبر دعم جماعات تهريب السلاح.
ان حرب اليمن جعلت البحر الأحمر ساحة مواجهة عسكرية فعلية، وأظهرت هشاشة الأمن البحري.
3) توجّه استراتيجي أمريكي لتعزيز التواجد في مواجهة الصين وروسيا:
تراقب الولايات المتحدة تعاظم النفوذ الصيني عبر قاعدة جيبوتي البحرية، وصفقات الطاقة والموانئ في القرن الإفريقي.
و روسيا تسعى لتحقيق تواجد بالبحر الاحمر من خلال محاولتها تأسيس نقطة دعم لوجستي و فنبي بقاعدة بورتسودان البحرية في السودان ، مما يزعج واشنطن و بعض دول الجوار.
لكل هذا تعمل أمريكا على تعزيز التحالفات العسكرية في المنطقة، من خلال مناورات (النجم الساطع)، و من خلال تعزيز القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (AFRICOM)، و بالتعاون الأمني مع دول البحر الأحمر عبر مبادرات ثنائية ومتعددة الأطراف.
4) اختبار جاهزية التحالفات البحرية لمواجهة نزاعات محتملة:
المناورات تتيح اختبار سيناريوهات متوقعة و احداث محتملة مثل إغلاق مضيق باب المندب،أو استهداف ناقلات النفط، أو تعطيل الملاحة بسبب صراع إقليمي (إيران – إسرائيل مثلًا). وهي بمثابة (محاكاة ميدانية) لحرب بحرية أو أزمة جيوسياسية في البحر الأحمر. كما تمثّل تجريبًا عمليًا لتكامل القوات البحرية والجوية والبرية متعددة الجنسيات في مسرح عمليات مشترك.
إن التركيز على البحر الأحمر في مناورات مثل (النجم الساطع) يعكس تحوّله من مجرد معبر ملاحي إلى ساحة استراتيجية للصراع العالمي، وتُعد هذه المناورات أداة لإعادة ترسيم خطوط النفوذ، وهي منصة لاختبار قوة الردع،كما قد تكون وسيلة لتشكيل تحالفات أمنية بحرية قادرة على التدخل في حال نشوب الأزمات.
مشاركة السودان في مناورات النجم الساطع
شارك السودان في مناورات النجم الساطع عام 2021م، جاءت هذه المشاركة بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، في سياق انفتاح دبلوماسي وعسكري مع الولايات المتحدة وحلفائها.
مثلت المشاركة السودانية مكسبًا رمزيًا كبيرًا، حيث أعادت السودان إلى محيطه الإقليمي والدولي بوصفه شريكًا في جهود حفظ الأمن البحري ومكافحة التهديدات الجديدة.
أظهرت تلك الخطوة رغبة السودان في إعادة تموضع جيشه ومؤسساته الأمنية ضمن المنظومات الغربية والإقليمية، وتجاوز إرث العزلة والعقوبات.
لكن عاد السودان مجددا للغياب في نسخة 2023م، ويُعزى ذلك إلى :
اندلاع الحرب الداخلية بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023م. تراجع جاهزية القوات المسلحة، وانشغالها في معركة مصيرية داخلية.
_غياب التمثيل الدبلوماسي والدفاعي الفعال عن المحافل الإقليمية بسبب الانقسام السياسي.
هذا الغياب يُعد تراجعًا مؤسفًا عن المسار الذي بدأ في 2021م، ويقلّل من الحضور السوداني في قضايا الأمن الإقليمي.
تعد مشاركة السودان في هذه المناورات و بكل تأكيد اضافة نوعية و استراتيجية، و ذلك للاتي :
1) هي فرصة للاندماج العسكري، حيث تمنح الجيش السوداني فرصة التدريب في بيئة متعددة الجنسيات، وتبادل الخبرات في التكتيكات البرية والبحرية والجوية، فضلا عن تعزيز مفاهيم العمليات المشتركة والتنسيق الإقليمي، خاصة في مسرح البحر الأحمر.
2) الاعتراف الدولي بالدور السوداني،فالمشاركة تعني اعترافًا ضمنيًا بموقع السودان الاستراتيجي في البحر الأحمر، كما تعيد السودان إلى (الخريطة العسكرية) الإقليمية، بعد سنوات من العزلة.
3) بناء شراكات ثنائية و فتح آفاق للتعاون مع دول مثل مصر، السعودية، أمريكا، في مجالات التدريب، التحديث العسكري، وتبادل الخبراء.
إن غياب السودان عن مناورات النجم الساطع، رغم كونه من الدول المحورية في إقليم البحر الأحمر، يُعد خصمًا مباشرًا من دوره ومكانته الاستراتيجية. و ذلك للآتي:
1) فهي عزلة عن الترتيبات الأمنية الإقليمية، وتغيُب السودان عن منصات رسم السياسات الأمنية والبحرية، خاصة في البحر الأحمر يضعف تأثيره الاستراتيجي.
2) و هي تمثل ضعفا للدبلوماسية العسكرية في ظل اشتداد التنافس الإقليمي على النفوذ في البحر الأحمر، تصبح المشاركة العسكرية أداة للنفوذ، وغيابها يُفقد السودان ورقة ضغط.
3) تمثل خسارة فرص للتحديث العسكري، لأن المناورات تُستخدم لتجريب الأسلحة، تقييم أداء الوحدات، وتطوير آليات الاستجابة السريعة، وكل ذلك يُفوَّت فرصة للاحتكاك و المعايشة و الاكتساب على القوات السودانية في حال الغياب.
هناك جملة من المقترحات لضمان مشاركة مستقبلية مميزة للسودان في مناورات النجم الساطع، يذكر منها:
1) إعادة بناء القدرات البحرية السودانية تدريجيًا، و ذلك من خلال البدء بخطة شاملة لإعادة تأهيل الأسطول البحري السوداني (سفن و زوارق دورية سريعة، زوارق صواريخ صغيرة او متوسطة، قطع إنزال، منظومات قيادة و سيطرة.. )، تأهيل و تطوير قدرات الكوادر البشرية عبر برامج تدريب خارجي (في مصر، تركيا، السعودية، وغيرها)، والاهتمام بـالقدرات اللوجستية والبنية التحتية في القواعد العسكرية (بورتسودان).
2) الانخراط في منظومات الأمن الجماعي الإقليمي بتفعيل الحضور في مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الضغط لعقد اجتماعاته الفنية والسياسية، والمشاركة في فرق العمل حول (الأمن البحري، مكافحة القرصنة،حماية البيئة البحرية، الطوارئ الإنسانية والكوارث البحرية).
3) إنشاء مركز تدريب مشترك في بورتسودان بتأسيس (أكاديمية البحر الأحمر للتدريب البحري المشترك) ، بالشراكة مع مصر أو السعودية او كلاهما، بحيث يتمحور التدريب حول(موضوعات الأمن البحري، مكافحة التهريب، الاستجابة للكوارث البحرية) و يُستخدم كمركز إقليمي لتدريب قوات حرس السواحل في إفريقيا.
4) طرح مبادرة سودانية لاستضافة مناورات مصغّرة بتقديم اقتراح لاستضافة مناورة بحرية إقليمية سنوية في البحر الأحمر، وبمشاركة الدول العربية والإفريقية الساحلية ويتم تنفيذها بالتناوب بين الدول.
5) فتح سبل تعميق الشراكة مع الولايات المتحدة عسكريًاالاستفادة من( برامج التعليم والتدريب العسكري الدولي International Military Education and Training – IMET) و كذلك للاستفادة من فرص ( التمويل العسكري الأجنبي Foreign Military Financing – FMF) ، واستئناف زيارات الوفود الفنية والدفاعية الأمريكية إلى السودان لتحديث بروتوكولات التعاون السابقة.
إن المشاركة الفعلية في مناورات مثل (النجم الساطع) ليست مجرد تمرين عسكري، بل هي رافعة استراتيجية لدور السودان الإقليمي والدولي. وفي ظل التحديات الراهنة، فإن إعادة بناء القوات المسلحة السودانية ودمجها في المنظومة الأمنية للبحر الأحمر سيكون عنصرًا حاسمًا في استعادة المكانة المفقودة وتحقيق الأمن القومي.
كذلك ان مناورات (النجم الساطع) ، ليست مجرد مناورة عسكرية عابرة، بل هي مؤشر استراتيجي على موازين القوة، ومساحة لصياغة اصطفافات جديدة في حوض البحر الأحمر. ومع ما يملكه السودان من موقع حيوي، وساحل طويل، وموانئ استراتيجية، فإن غيابه عن هذه الفضاءات الأمنية لا يجب أن يكون خيارًا مستمرًا، بل تحديًا مرحليًا ينبغي تجاوزه برؤية وطنية طموحة تنطلق من الأمن القومي إلى السيادة الإقليمية الفاعلة.
الثلاثاء 19 أغسطس 2025م
___________
*عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم .. حاصل علي الدكتوراة في الدراسات الاستراتيجية – ( امن البحر الأحمر )