الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

مناورات النجم الساطع : قراءة في البُعد الاستراتيجي للبحر الأحمر ودور السودان المحتمل (1)

د. اسامة محمد عبدالرحيم *


*[عقيد بحري ركن متقاعد
دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)]

____________

في ظل التحولات العميقة في خارطة الصراعات الإقليمية والدولية، تبرز مناورات (النجم الساطع _Bright Star) كواحدة من أهم التمارين العسكرية المشتركة في منطقة الشرق الأوسط، إذ تحوّلت من نشاط ثنائي محدود إلى منصة متعددة الجنسيات لاستعراض القوة، وبناء التحالفات، وتعزيز الجاهزية في فضاء استراتيجي بالغ الحساسية، هو البحر الأحمر ومحيطه الحيوي.
تستدعي هذه المناورة، وبما تحمله من رسائل وأبعاد، قراءة تحليلية متأنية، خاصة من زاوية موقع السودان ودوره البحري المستقبلي في الإقليم.

نحاول و في مقال من جزئين ان نلقي الضوء على مناورات (النجم الساطع) ربطاً بالبعد الاستراتيجي للبحر الأحمر و الادوار المحتملة للسودان مستقبلاً، حيث يتناول الجزء الأول من المقال الإطار العام والتحليل الإقليمي، في حين يتناول الجزء الثاني وضع السودان ودوره المستقبلي.

مناورات النجم الساطع: البدايات و التطور

بدأت المناورات لأول مرة عام 1980م، عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كتمرين ثنائي بين مصر والولايات المتحدة. ثم تحوّلت لاحقًا إلى أكبر مناورة متعددة الجنسيات في المنطقة، تُعقد كل عامين (مع توقفات استثنائية). نُفذت حتى الآن حوالي 18 دورة، أحدثها في 2023م، وشهدت توسعًا في عدد الدول ونوعية التهديدات المفترضة.

تدرجت طبيعة مناورات النجم الساطع من الحرب التقليدية إلى تكتيكات الجيل الخامس، حيث شهدت مناورات (النجم الساطع) منذ انطلاقها عام 1980م تطورًا لافتًا في طبيعة السيناريوهات والتكتيكات التي تُدرّب عليها. فبينما كانت في بداياتها تركز على العمليات التقليدية الكلاسيكية (مثل الهجوم البري والدفاع الساحلي)، تطوّرت لاحقًا لتشمل عناصر من الحرب الحديثة متعددة الأبعاد، وأصبحت تحاكي تهديدات معقدة من قبيل:
مكافحة الإرهاب العابر للحدود. التصدي لهجمات سيبرانية على أنظمة القيادة والسيطرة.
تأمين المنشآت الحيوية وخطوط الإمداد اللوجستي. الاستجابة للتهديدات الهجينة (Hybrid Warfare) التي تجمع بين الجماعات غير النظامية، والحرب الإعلامية، والطائرات المسيّرة، والهجمات الإلكترونية.

هذا التحول يعكس إدراكًا متزايدًا لطبيعة الحروب الحديثة، حيث لم يعد ميدان المعركة تقليديًا، بل يشمل ساحات غير مرئية تتطلب جاهزية تكنولوجية، ومرونة عملياتية، وتنسيقًا متقدمًا بين الحلفاء.

الأهداف الرئيسية لمناورات النجم الساطع

تبرز جملة من الاهداف التي تركز عليها مناورات النجم الساطع، منها:

1) رفع الكفاءة القتالية والتكامل العسكري بين القوات المشاركة:

يُعد هذا الهدف جوهريًا في أي مناورة عسكرية متعددة الجنسيات. مناورات (النجم الساطع) تشمل قوات من دول مختلفة (أبرزها مصر، الولايات المتحدة، وعدد من دول الناتو ودول عربية)، مما يسمح بتبادل الخبرات والتكتيكات القتالية.

يتم التدريب على العمل المشترك (Joint Operations) في بيئات متنوعة (صحراوية، بحرية، حضرية…)، ما يُعزز التنسيق بين الجيوش من حيث القيادة والسيطرة (C2 و C4 و C4I)، أنظمة الاتصالات، الإمداد، والاشتباك.

كما تسمح المناورات باختبار كفاءة الأسلحة، وتكامل النظم التقنية (Interoperability) بين مختلف المنصات الجوية والبرية والبحرية.

2) اختبار سيناريوهات حرب غير تقليدية،حيث تتجاوز مناورات النجم الساطع فكرة الحرب التقليدية لتُحاكي أشكالًا أكثر تعقيدًا من التهديدات، منها :

مكافحة الإرهاب عبر تدريبات على اقتحام أوكار إرهابية، تحرير رهائن، وتفكيك خلايا مسلحة، ضمن بيئات غير متماثلة.

الحرب السيبرانية من خلال التدريب على مواجهة هجمات رقمية على أنظمة القيادة والسيطرة، واختبار قدرة الجيوش على العمل في ظل شلل إلكتروني جزئي أو كلي.

الحروب البحرية، بالتدريب على تأمين السواحل، وحماية الممرات الملاحية (خصوصًا في البحر الأحمر وشرق المتوسط).

التهديدات المختلطة (Hybrid Threats)، مثل الجماعات المسلحة المدعومة خارجيًا، أو استخدام الطائرات المسيرة، أو الحروب الإعلامية والمعلوماتية، مما يعكس طبيعة الحروب الحديثة.

3) تعزيز التحالفات الأمنية في محيط البحر الأحمر والشرق الأوسط:

تؤدي هذه المناورات دورًا سياسيًا/استراتيجيًا يعزز المحاور والتحالفات الأمنية بين دول المنطقة، خاصةً تلك التي تشترك في المخاوف من التهديدات المشتركة (مثل الإرهاب أو النفوذ الإيراني).

تساعد على بناء الثقة المتبادلة، والتنسيق في حالات الطوارئ (مثل تأمين قناة السويس أو مضيق باب المندب).

كما تبرز التزام الولايات المتحدة بدعم حلفائها في المنطقة، وتأكيد الحضور الأمريكي في المسرح الإقليمي.

4) إرسال رسائل ردع استراتيجية تجاه خصوم إقليميين ودوليين:

عندما تُجرى مناورات بهذا الحجم وبمشاركة قوات متعددة الجنسيات وبأسلحة متقدمة، فإنها تُقرأ كـ(إظهار للقوة) موجه نحو أطراف تعتبر خصومًا محتملين:
(إيران)، من حيث برامجها النووية وأذرعها المسلحة في المنطقة. (روسيا والصين)، كقوتين توسعيتين في النظام العالمي، تحاولان توسيع نفوذهما في الشرق الأوسط، سواء عبر صفقات الأسلحة أو المشاريع الاقتصادية.
بالتالي، تحمل هذه المناورات رسائل مفادها أن التحالف الغربي والعربي ما زال متماسكًا وقادرًا على الردع والانتشار السريع.
كما تُظهر الجاهزية العسكرية في التعامل مع سيناريوهات حرب إقليمية أو تهديد الملاحة البحرية أو أمن الطاقة.

المشاركات الدولية في المناورات

درجت عدد من الدول الغربية الاوربية، العربية و الافريقية على المشاركة في مناورات النجم الساطع، يمكن تصنيف ذلك في ما يلي:

1) الدول الأساسية المشاركة (الركائز الغربية والعربية):

أ. مصر (الدولة المستضيفة):
تُعد مصر المحور الجغرافي واللوجستي للمناورات. حيث تستفيد من هذه المناورات في رفع كفاءة قواتها، وتعزيز مكانتها كحليف إقليمي للغرب. فضلا عن ان المشاركة في المناورات تضيف إلى جاهزيتها في حماية قناة السويس والحدود الغربية والجنوبية.

ب. الولايات المتحدة (القيادة والتقنية):
إذ تشارك بقوات جوية وبرية وبحرية متقدمة، وتقدم الدعم الفني، والأنظمة الإلكترونية، والقيادة والسيطرة. و تهدف أمريكا إلي المحافظة على نفوذها العسكري في الشرق الأوسط وإعادة ضبط التوازن أمام تحركات الصين وروسيا.

ج. (بريطانيا – فرنسا – ألمانيا – إيطاليا – اليونان) :
تمثل القوى الأوروبية التقليدية في حلف الناتو، وتشارك بأنظمة متقدمة (طائرات مقاتلة، وحدات خاصة، وحدات بحرية). كما أن هذه المشاركة توضح اهتمام أوروبا باستقرار شرق المتوسط والبحر الأحمر. و اليونان تحديدًا ترى في المناورة فرصة لتعزيز تحالفها العسكري مع مصر ضد التهديدات التركية في المتوسط.

2) دول الخليج والبحر الأحمر:

أ. (السعودية – الإمارات – البحرين – الأردن) : إن مشاركة هذه الدول تُظهر تطور قدراتها العسكرية، وحرصها على التدريب المشترك في إطار( إقليمي – غربي) موسّع، فضلا عن أن وجودها يعكس أيضًا قلقها المشترك من التهديدات الإيرانية، والصراعات غير المتكافئة (كالطائرات المسيرة، والمليشيات). كذلك نجد أن الأردن يُمثل محورًا جيوعسكريًا مهمًا في شرق المتوسط، ويتميز بقوات برية ذات خبرة عالية.

ب. السودان (شارك في نسخة 2021)، و كانت مشاركته تعبيرًا عن انفتاح الخرطوم آنذاك على الشراكة الإقليمية والدولية بعد ثورة ديسمبر 2019م و سقوط نطام الانقاذ، وسعيًا لإعادة تأهيل المؤسسة العسكرية. كما تعكس هذه المشاركة أهمية السودان كدولة مطلة على البحر الأحمر، وممر استراتيجي نحو إفريقيا.

3) الدول الإفريقية:

أ. (كينيا) ، و تشارك بقوات برية وشرطة عسكرية، وتُعد شريكًا مهمًا في مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي.

ب. (تونس – المغرب)، قوتان مغاربيتان لهما علاقات دفاعية قوية مع أوروبا وأمريكا. ان المشاركة تعزز قدرتهما على التعاون في المهام متعددة الجنسيات (مثل حفظ السلام ومكافحة الإرهاب).

ج. (زامبيا)، تعكس المشاركة توجهًا لضم دول من جنوب القارة ضمن إطار التعاون الأمني العابر للإقليم، وتُستخدم مشاركتها في جوانب التدريب على الاستجابة السريعة والإغاثة.

كتحليل سياسي واستراتيجي للمشاركة الدولية، نجد ان هذه التوليفة من الدول تعكس تحالفًا واسعًا متعدد الجنسيات، يجمع بين قوى عالمية (الولايات المتحدة، أوروبا)، وقوى إقليمية (مصر، السعودية، الإمارات…)، دول نامية تسعى للتحديث العسكري.

كذلك يمكن استخلاص ان هذه المشاركة الواسعة تهدف إلى:
إظهار التعددية الدفاعية الغربية في مواجهة القوى المنافسة (روسيا، الصين). تعزيز التحالف الأمني العربي ضد التهديدات المشتركة (الإرهاب، الحروب غير المتكافئة، النفوذ الإيراني).
_تدريب الجيوش الصاعدة على معايير الناتو وتكامل العمليات متعددة الجنسيات.

مصر مركز مناورات النجم الساطع

لقد ظلت مصر هي المركز الرئيسي لتنفيذ مناورات النجم الساطع، و لهذا الامر أسبابه و التي يمكن حصرها في الاتي :

1) موقع مصر الجغرافي من بوابة البحر الأحمر إلى قناة السويس:
فمصر تُمثّل عقدة مواصلات استراتيجية تربط بين ثلاث قارات (آسيا – أفريقيا – أوروبا).
جنوبًا: تمتد باتجاه مدخل البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مما يمنحها أهمية كبرى في تأمين خطوط التجارة والطاقة العالمية المارة عبر الخليج العربي والقرن الأفريقي.
شمالًا: تتحكم في قناة السويس، أحد أهم الممرات البحرية عالميًا (يُمرّ عبرها ما يقرب من 12% من التجارة العالمية). السيطرة على هذا الممر الحرج تمنح مصر نفوذًا جيوسياسيًا بالغًا.

إن وجود مصر في قلب هذه المسارات يجعلها لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات تخص أمن البحر الأحمر، أو حماية الملاحة الدولية، أو الأمن البحري العالمي.

2) الشراكة العسكرية التاريخية مع واشنطن:
منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، أصبحت مصر حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في المنطقة. كما حصلت على مساعدات عسكرية سنوية ثابتة (حوالي 1.3 مليار دولار)، وشاركت في عدد كبير من برامج التدريب العسكري المشترك مع الجيش الأمريكي.
تمثل مناورات النجم الساطع ذروة هذا التعاون، وتُعد واحدة من أكبر وأقدم المناورات العسكرية متعددة الجنسيات في العالم، بدأت منذ الثمانينيات. وتعتبر واشنطن مصر حجر الزاوية في استراتيجية (الاستقرار الإقليمي) ، خاصة لموقعها بين مناطق التوتر: غزة، ليبيا، السودان، البحر الأحمر، شرق المتوسط.

3) امتلاك مصر لبنية تحتية عسكرية بحرية وبرية استراتيجية،منها:
أ. قاعدة محمد نجيب العسكرية:
تقع في شمال غرب مصر، افتُتحت عام 2017م. وتُعتبر أكبر قاعدة عسكرية في إفريقيا والشرق الأوسط، ومجهزة لاستضافة مناورات متعددة الجنسيات، ولها دور لوجستي محوري.
ب. الموانئ البحرية:
على البحر الأحمر، نجد ميناء السخنة، سفاجا، برنيس (الذي توجد قربه قاعدة بحرية متطورة). على البحر المتوسط، نجد ميناء الإسكندرية، دمياط، وميناء جرجوب الجاري تطويره كميناء استراتيجي.
_تمتلك مصر أيضًا أسطولًا بحريًا نشطًا، ويجري تحديثه عبر صفقات مع فرنسا (فرقاطات ميكو)، ألمانيا (غواصات Type-209)، وإيطاليا.

هذه القدرات تمنح مصر دورًا قياديًا في أمن البحرين الأحمر والمتوسط.

4) مركزية مصر في ترتيبات الأمن الإقليمي في ظل تراجع قوى تقليدية:

مع تراجع أدوار تقليدية لدول مثل العراق وسوريا نتيجة الحروب الداخلية، وتقلبات الدور التركي، برزت مصر كـ(مرتكز استقرار) إقليمي.

مصر تُحافظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، الصين)، ما يجعلها قناة تواصل مهمة بين المحاور المتصارعة.

تُشارك مصر بفاعلية في أزمات إقليمية مثل:
الملف الليبي (عبر دعم الجيش الوطني الليبي). أمن البحر الأحمر (من خلال التنسيق مع السعودية والإمارات).
_الملف السوداني (عبر استضافة مؤتمرات دولية للحوار).

كل هذا يجعل مصر في قلب أي صيغة أمنية إقليمية جديدة، سواء لحماية الممرات المائية، أو مواجهة الإرهاب، أو ضمان أمن الطاقة.

إن التركيز على مصر في مناورات النجم الساطع ليس مجرد مجاملة سياسية أو جغرافية، بل نتيجة حتمية لحقائق استراتيجية منها على سبيل المثال لا الحصر (موقعها الجيواستراتيجي،جيشها الكبير والمتدرّب،علاقاتها الدولية الواسعة، دورها المحوري في أمن البحرين الأحمر والمتوسط، و البنية التحتية العسكرية المتقدمة) . ولهذا، فإن أي سيناريو لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة، لا بد أن يمر عبر القاهرة.

غير أن البعد الأعمق لمناورات النجم الساطع يتجلى في انعكاساتها على دول حوض البحر الأحمر، حيث يصبح السودان لاعبًا محوريًا بحكم موقعه وإمكاناته… وهذا ما سنفصّله في الجزء الثاني.”

الاحد 17 أغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!