
منذ ان تحرك جيش حملة اسماعيل من بربر تجاه سنار -كما سجل (إنجلش) في يومياته -التزم الضفة الغربية للنيل إلي ان وصل مقرن النيلين الأبيض والأزرق . ثم عبر إلي ضفة النيل الأبيض الشرقية المتاخمة لبقعة ( المقرن .)
وطوال الرحلة الشاقة قبل وصول الحملة إلي هذه البقعة ، لم يمرالجيش الغازي علي اي من المدينتين الهامتين : (شندي) حاضرة الجعليين او: ( الحلفاية) عاصمة العبدلاب التين تقعان علي الضفة الشرقية. لكن (إنجلش ) ذكر ان جيش الحملة توقفت عند الشاطئ الغربي المقابل لشندي وانه قد عبر إلي المدينة بصفته الفردية وشاهد مبانيها ووصف اهمية موقعها كملتقي طرق للقوافل التجارية.هنا يبرز سؤال بدهي وهو : لماذا اتّّبعت الحملة هذا المسار ولم تعط اعتبارا للمدينتين المذكورتين ؟
هناك سببان موضوعيان. السبب الأول هو ان المعلومات التي توفرت للحملة بواسطة الادلاء قد أشارت إلي ان النقطة المقابلة لمقرن النيلين عند النظرإليها من جهة ضفة النيل الأبيض الغربية هي الأنسب لعبور الجيش وعتاده – نسبة لضحالة المجري – إلي مايسمي بداية (بر سنار) اي الموقع الذي انشئت عليه الخرطوم فيما بعد . واما السبب الثاني فهو ان الأهمية العسكرية للمدينتين المذكورتين قد انتفت جراء استسلام المك نمر في بربر وضعف مشيخة العبدلاب التي جاء كبيرها ( الشيخ ناصر)خاضعا عند وصول الجيش الغازي قبالة الحلفاية .
يصف ( إنجلش) اقتراب الحملة من نقطة العبور إلي ما كان يعرف بالبر السناري بقوله : ( عبرنا السهول الصخرية الجرداء الي ان بلغنا ارضا علي حافة النهر تنتشر فيها قري عديدة …ثم مررنا بأراض رملية مغطاة بأشجار السنط الشائكة التي عوقت مسيرة الجيش ودفعته للانعطاف
عن الطريق عدة مرات ، مما ادي الي انحرافه عن الاتجاه الصحيح . وظل الجيش يتخبط حتي منتصف الليل قيل ان يبلغ ضفة النيل من جديد.)
وفي اليوم التالي – يقول إنجلش – : (تقدم الجيش ثم توقف قبيل الظهر عند شاطئ النهر قبالة ( الحلفاية ) وهي قرية كبري علي الضفة الشرقية. مكثنا لأربعة أيام بغرض الحصول علي الذرة لغذاء الجنود .ثم استأنفنا المسير علي امتداد شاطئ خال من السكان ومن ورائه صحراء علي مد البصر. وقبيل الغروب وصلنا الي نقطة يقترن فيها النيل مع البحر الابيض حيث حط الجيش رحالة.
ولو كان ( إنجلش ) يعلم الغيب لبدل صيغة فقرته السالفة بما حدث بعدها بسبعة عقود ولقال : (استأنفنا المسير علي شاطئ” الريف الشمالي لأم درمان” ومررنا ب: “بالحتانة وود البخيت وابو روف والموردة الي ان وصلنا إلي ابو سعد” حيث حط الجيش رحاله) …وأني له ان يتخيل ان هذه البقعة ستصير يوما ما (بقعة المهدي) وعاصمة دولته ؟
ويواصل (إنجلش) يومياته فيقول : (وحال وصولي إلي نقطة العبور للبر السناري ، نهلت من ماء النهر الذي احسب انني اول الافرنج الذين تذوقوا طعمه .)…ثم انتابته “حالة امريكية” فعبر عنها بقوله: (.. وبمزيج من الفخر والابتهاج غرفت غرفة من الماء متمنيا المجد والرفاه لجمهورية الولايات المتحدة العظيمة الحرة..ارض الأحرار وموطن الرجال الشجعان.)
وبعد قرن من وقفة( إنجلش) عند نقطة العبور المذكورة ، اقام حكام السودان الانجليز في نفس النقطة قنطرة تعرف اليوم ب :كبري النيل الابيض او (كبري الحديد ) لربط مدينة ام درمان التي كانت (عاصمة المهدية) بالخرطوم “عاصمة الترك” …عاصمتان متزامنتان متجاورتان متنافرتان لم يات ذكر لأي منهما في يوميات (انجلش) لانهما كانتا يومئذ في رحم الغيب,
ولايعلم الغيب الا الله سبحانه.
( نواصل