من البيانات الإعلامية إلى المقاطعة العملية : الطريق الذي قاد حرب السودان إلى دائرة الضوء العالمية

خلال الأسابيع الماضية، تناولت زاوية “الكتلة الحرجة” في مقالين متتابعين، الأول بتاريخ ٦ نوفمبر بعنوان “بين الإنكار والتواطؤ .. حين تنظر الدولة في مرآة بياناتها”، والثاني في ١٩ نوفمبر بعنوان “كرة القدم كمرآة للوعي الوطني السوداني”، مجموعة من الوقائع المتعلقة بالدور الإماراتي في الحرب السودانية، وبالأخص تدفق السلاح والذهب والتمويل عبر قنوات موثقة إلى مليشيا الدعم السريع.
لم يكن الربط بين هذه الوقائع تهويلاً، بل محاولة لفهم اتجاهات تتشكل في ظل التناقض بين البيانات الرسمية، استمرار الدعم السياسي والميداني، وتنامي الغضب الشعبي.
ما حدث خلال الأيام الأخيرة مع انتشار حملة “حبيبي قاطع دبي” وصعودها إلى قوائم الأكثر تداولاً في أكثر من عشرين دولة (معظمها عربية وإسلامية) أعاد فتح الملف بصورة أوسع. الحملة لم تنشأ من فراغ، بل جاءت استجابة لحقائق تراكمت على مدار سنوات، وبرزت بوضوح مع ازدياد التقارير الإعلامية والحقوقية التي تؤكد تورط الإمارات في إطالة أمد الحرب وتفاقم المأساة الإنسانية في السودان.
حملة “حبيبي قاطع دبي” وتأثيرها العالمي
انطلقت الحملة في أوائل نوفمبر ٢٠٢٥ على منصات إكس وإنستجرام وتيك توك، وتحولت خلال أيام إلى أحد أبرز الموضوعات تداولاً في العالم العربي وعدد من الدول الإسلامية. استلهمت اسمها من حملة الترويج الإماراتية الشهيرة “حبيبي تعال دبي”، لكنها قلبته إلى دعوة صريحة لمقاطعة دبي سياحياً واقتصادياً.
الفارق بين الحملتين ملفت: الأولى استخدمت كل الموارد المؤسسية الممكنة من مرسل محدد، ميزانية ضخمة، رسالة موحدة، وسائط اتصال متنوعة، لكنها بقيت محاصرة داخل حدود الدولة الراعية ولم تخترق الجمهور الدولي المستهدف فعلياً. أما الحراك الشعبي فلا يملك مرسلاً مركزياً ولا ميزانية، لكنه يحمل صرخة ضمير إنساني واحدة، تعددت لغاتها وتجاوزت الحدود، لتصل إلى عشرات الملايين حول العالم.
جاءت الحملة كرد فعل مباشر على التقارير المتكررة التي تثبت دعم أبوظبي لمليشيا الدعم السريع سياسياً و بالسلاح والتمويل والتدريب، وعلى الصلة الموثقة بين الذهب المنهوب من دارفور وتمويل الحرب. ساهم الغضب السوداني والعربي، إلى جانب تفاعل شخصيات عالمية بارزة في مجال النشاط البيئي والموسيقي والحقوقي، في دفع الوسم #قاطعوا_الإمارات إلى ملايين التفاعلات، مع دعوات صريحة لمقاطعة خطوط الطيران والمنتجات والذهب المرتبط بالحرب.
رغم النفي الرسمي الإماراتي واعتبار الحملة “موجة سياسية منظمة”، فإن استمرارها يكشف تحولاً حقيقياً في الوعي الدولي تجاه الأدوار الإقليمية لأبوظبي، ويضع القوة الناعمة الإماراتية تحت اختبار صعب.
ردود الفعل الإماراتية والتعتيم
لم تكتفِ السلطات الإماراتية بالنفي الرسمي، بل لجأت إلى حجب الوسم على إنستجرام وتيك توك داخل الدولة، وتعليق أو حذف مئات الحسابات التي روجت له. في المقابل، ظهرت حملات مضادة سريعة مثل #الإماراتترحببكم و#دبيأجملوجهة، غالباً ما كانت تبدو مدفوعة ومنسقة. هذه الإجراءات زادت من سخط المستخدمين وأعطت الحملة الأصلية دفعة إضافية خارجياً.
الدلالات المستقبلية
تصاعد الحراك يثبت أن تراكم الأدلة الموثقة، عندما يلتقي بنشاط شعبي منظم، قادر على خلق ضغط عالمي حتى على دول تملك ثروة وقوة ناعمة. كما يكشف محدودية القوة الناعمة التقليدية عندما تُربَط مباشرة بمظالم إنسانية موثقة. ويبرز الدور الجديد للمجتمع المدني العالمي ومنصات التواصل غير التقليدية في فرض مساءلة سياسية واقتصادية قد تغير قواعد العلاقات الدولية في السنوات القادمة.
استدامة الحراك مرهونة بثلاثة عوامل: طول أمد الحرب في السودان، استمرار اهتمام الإعلام الدولي بالانتهاكات، ومدى تفاعل الجمهور العالمي. لكن حتى لو تراجعت حدته مؤقتاً، فإن هذا النموذج سيظل مرجعاً لكيفية تحويل البيانات والحقائق إلى قوة ضاغطة قادرة على إعادة ترتيب الأولويات.
الخاتمة
الحملة الحالية ليست مجرد موجة غضب عابرة، بل نتيجة طبيعية لتراكم الحقائق التي كشفتها تقارير وطنية ودولية على مدى سنوات. إنها تثبت أن الوقائع الموثقة يمكن أن تنتقل من التحليل المحلي إلى حراك شعبي عابر للقارات، يفرض مساءلة حقيقية ويعيد ترتيب أولويات القوى الإقليمية والدولية على أساس القيم الإنسانية.
وفي النهاية، تتلاقى حملة “حبيبي تعال دبي” مع حملة “حبيبي قاطع دبي” في نقطة واحدة، هى أنه “من الحب ما قتل”.



