دور الحكومات الوطنية في التعامل مع الصراع القبلي
كما أسلفنا، فإن تاريخ الصراع القبلي في السودان طويل و واضح ,بل هناك رصد كامل للصراعات التي حدثت خلال القرن الماضي سواء تحت الحكم الثنائي أو دولة الاستقلال وحتي تاريخه في عام 2022م، و حُظيت هذه الصراعات (خاصة في دارفور) باهتمام كبير في كثير من البحوث العلمية و المقالات المنشورة في مختلف الوسائط الاعلامية ويزيد الاهتمام بها كلما انفجر صراع قبلي في مكان ما من السودان و تنشغل به الاوساط الأمنية والسياسية وجميع فئات المجتمع، ثم يحتدم النقاش و أحيانا تبادل الاتهامات ويكثر التنظير وترسل الوفود والإغاثات للمناطق المتأثرة وتكون اللجان الخ…، ورغم كل ذلك لم يحدث تغييرا ملموسا يذكر يسهم في حل المشكلة لأن الواقع الذي افرزته هذه الصراعات لم يتغير كما أن العالم من حولنا تعرض لتغيرات كبيرة و معقدة وجزء كبير منها يتعلق بالصراعات العرقية والقبلية، و رغم ذلك مازال الخيار المفضل لدى الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال وحتي تاريخه يتراوح بين مؤتمرات الصلح التقليدية أو التدخل لفض النزاع عبر القوات النظامية أو محادثات للسلام تنتهي بقسمة السلطة و الثروة والترتيبات الأمنية، الحلول التي اتُبعت أثبت عدم جدواها نتيجة لمتغيرات عديدة داخلية وخارجية حدثت وتحدث على الأرض في عالم القرن الحادي والعشرين وتطور تلك الصراعات تبعا لتلك المتغيرات في ظل تآكل السيادة الوطنية للدول بفعل هذه المتغيرات.
الأمن المجتمعي و أهميته في تحييد الصراع القبلي
لاشك أن التطورات التي يشهدها العالم في كافة نواحي الحياة زادت من تعقيدات المشكلات التي تواجهها الدول خاصة بعد نهاية الحرب الباردة و سيادة العولمة و تفشي أساليب الحرب الناعمة وحروب الوكالة، و انتشار ظواهر خارجية -مثل الجرائم العابرة للحدود، المخدرات، الهجرة غير الشرعية، الصراعات العرقية العابرة للحدود، الصراعات الحدودية والبطالة- تؤثر علي سيادة الدول
كل هذه التطورات أثرت علي الأوضاع الداخلية للدول ومن بينها السودان، وللتصدي لتلك التطورات اهتمت العديد من مراكز البحوث في الدول الغربية بدراسة هذه التطورات وخرجت بمقترحات للتعاطي معها، برز من بين هذه المراكز مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية و التي اهتمت بدراسة ظواهر الصراعات العرقية والقبلية و وضعت لها بعض الحلول التي يمكن إسقاطها –مع بعض التعديلات- علي كثير من المعضلات التي تواجه الدول المختلفة (خاصة السودان) التي تعاني من مشكلات مثل التي طرحتها المدرسة أو أخري شبيهة لها.
من بين الحلول التي وضعها المدرسة -والتي يمكن إسقاطها للتوصل لمقترحات لتحييد الصراع القبلي في السودان- مفهوم ما يُعرف بالأمن المجتمعي الذي ركز علي أمن الفرد الذي هو محور الاهتمام ونواة المجتمع الذي بتحقيق أمنه يتحقق أمن الدولة (انظر الحلقة 1و2). تدعو هذه المدرسة إلي عدم أمننة حل القضايا التي تواجه الدول خاصة الصراعات العرقية والقبلية، أي ينبغي أن تتم معالجة القضايا من منظور غير أمني أو اتخاذ تدابير غير إستثنائية (اللأمننة) ،بل يُنظر إلي قضايا مثل الصراع العرقي أو القبلي من منظور أنها معضلات أمنية -حسب مفهوم المدرسة- وبالتالي يجب التعامل معها من منظور معالجة مشاكل: الهوية، التأثيرات المناخية، العرقيات العابرة للحدود، الجريمة العابرة للحدود، المخدرات، البطالة باعتبارها أمثلة تهدد أمن الفرد وبالتالي أمن المجتمع الذي هو نواة لأمن الدولة ككل، وحتي تتم المعالجة بصورة كلية لهذا التهديد، أضافت المدرسة أربع قطاعات للأمن المجتمعي وهي: العسكري، البيئي، السياسي ، الاقتصادي بحيث تتضافر هذه العوامل مجتمعة للحفاظ علي الأمن المجتمعي ويمكن الحديث عنها بصورة عامة كما يلي:
الأمن العسكري: يعني قدرة الدولة القومية على الدفاع عن نفسها و/ أو ردع أي عدوان عسكري ضد وحدة أراضيها، يعبر الأمن العسكري عن قدرة الدولة القومية على تنفيذ خياراتها السياسية بإستخدام القوة العسكرية ليس بغرض البطش أوالظلم بل لحماية السلام وهذا ما يتطلبه السودان من أجل فرض هيبة الدولة و وبالتالي فرض القانون علي الكل خاصة فيما يلي الصراع القبلي.
الأمن السياسي: يقصد به مدى استقرار أنظمة الحكم ومؤسسات الدولة وشرعية تفويضها وهذه ما يحتاج له السودان ويقع عبئه علي الأحزاب السياسية و الفئات المدنية المختلفة غير الحزبية (منظمات المجتمع المدني الخ….). يشار إلي أن تهديدات الأمن السياسي تأخذ بعدين: أحدهما داخلي ويشمل كل ما يتعلق بالمساس بقيم الديمقراطية وجميع الحركات التي تستهدف وتناهض وتعارض مؤسسات الدولة ورموزها، أما الآخر فهو البعد الخارجي الذي يتعلق بمدى تأثير النظام الدولي علي الدولة كوحدة سيادية وكيفية مقدرة السودان علي التعامل مع تلك التأثيرات.
الأمن الاقتصادي: هو قدرة الدول على توفير الموارد الطبيعية وقدرتها على تلبية متطلبات سكانها بما يضمن لهم المستوى المعيشي المقبول الذي يجنبهم الوقوع في الفقر والبطالة والصراع حول الموارد المتاحة خاصة في مناطق الرعاة والمزارعين مع عدم إغفال المستوى الدولي من منظور اقتصادي، أي أن الأمن الاقتصادي يرتبط بمدى قدرة الدول على الوصول إلى الأسواق العالمية والتمويلات الضرورية للحصول على مستويات مقبولة من الرفاهية والسلطة في النظام الدولي وتعقيداته (ضغوط الشركات العالمية ومؤسسات التمويل الدولية)، مثل هذا الأمن الاقتصادي يمثل أهمية قصوي للسودان في ظل التدهور المريع وازدياد حدة الفقر علي نحو غير مسبوق مما يزيد من حدة التوتر في المجتمع و الاستقطاب القبلي وازدياد الصراعات (سواء أكانت مسلحة أو غير مسلحة) علي الموارد.
الأمن البيئي: يهتم بالحفاظ على المحيط والمجال الايكولوجي المحلي والعالمي وحماية البيئة من الممارسات البشرية المتسببة في العديد من ظواهر التدهور الايكولوجي كالاحتباس الحراري، التلوث والجفاف مما يزيد من حدة الصراعات القبلية للحصول علي الموارد خاصة المزارعين والرعاة.
تأسيسا علي ما سبق من نقاش، لابد من الإشارة إلي أن أي حديث عن تقليل حدة المواجهات القبلية واستعادة السلم الاجتماعي والتعايش السلمي في السودان لن يكتب لها النجاح ما لم يُتصدى لكل الاسباب التي ذُكر بعضها والتي تشكل جزءا من جذور المشكلة، نحتاج لحلول خارج إطار المألوف عن طريق استصحاب مفهوم الأمن المجتمعي والعوامل المرتبطة به. ولتحقيق ذلك يحتاج السودان لتوافق وطني يحدث تغييرا شاملا في نظام الحكم علي نحو يحقق الاستقرار السياسي و التنمية المتوازنة والمستدامة و العادلة ليس فقط في تقسيم الموارد بل ايضا في تقديم الخدمات والمشروعات التنموية والمشاركة السياسية في صناعة القرار من أجل التوصل لحل جذري لمشاكل السودان و الصراع القبلي بصورة خاصة.