ثُمر المداد / د. أحمد عبدالباقي

ملامح من مهددات الأمن المجتمعي السوداني: الصراع القبلي أنموذجا 3/2

د / أحمد عبدالباقي

تعرضت الحلقة الأولي من هذا المقال إلي مفهوم الأمن المجتمعي الذي طرحته مدرسة كوبنهاجن والتي أبانت فيه أن أشكالاً جديدة من الأخطار والتهديدات قد تواجه الدول وفقا لتحولات شهدها العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة، تشمل تلك التحولات بعض الظواهر كالعولمة،التهديدات العابرة للحدود والتي لا تحمل طابعًا عسكريًّا مباشرًا، ويكون مبعثها فواعل غير رسمية (الجريمة، المخدرات التغيرات البيئية الخ…)، كذلك يشمل مفهوم الأمن المجتمعي التعامل مع التهديدات اللاتماثلية (شكل من أشكال الحروب، يستخدم فيها المقاتلون أدوات أو إستراتيجيات متباينة ومناقضة لمعايير التوازن السائدة، وتتميز بانعدام مسرح عمليات محدد فيها ، كما يستخدم كل طرف فيها خططا وأسلحة غير متماثلة وغير متوقعة، وقد لا تكون هناك علاقة بين الفعل ورد الفعل فيها، و لا يكون هناك تقيد بمبادئ الحرب و إنما بأفكار تنتج عن مصادفات يتم تحلويلها إلي خطط مدروسة، ويختلط فيها ما هو مادي بما هو نفسي).

تتسم بيئة الأمن المجتمعي كما وصفتها المدرسة ببروز مشاكل القوميات العابرة للحدود وتفشي الجهوية ومشكلة الهوية وتصاعد النزاعات الداخلية المسلحة بين الجماعات العرقية أو القبلية، ولمعالجة تلك المشاكل حددت المدرسة ما يُعرف بالمعضلة الأمنية و مفهوم الأمننة (تم تعريفهما في الحلقة الأولي) و ربطت ذلك بمفهوم الأمن الاقتصادي، الأمن السياسي، الأمن البيئي والجانب العسكري.

وتأسيسا علي مفهوم الأمن المجتمعي عاليه والمعطيات السائدة في العالم في القرن الواحد وعشرين، فإن السودان ليس بمعزل عن التأثر بتلك المعطيات،و بإسقاط مفهوم الأمن المجتمعي علي الصراع القبلي في السودان، فإن الأمن المجتمعي السوداني مهدد و يحتاج لنظرة شاملة للمعالجة وبالتالي لابد من التفكير في إمكانية الاستفادة من الاطروحات الجديدة في التعامل مع ذلك الصراع الذي ما زلنا نتعامل معه بأطر تقليدية مكررة دون الاستفادة من عِبر التاريخ الماثلة عبر تاريخ السودان منذ تكوينه الحديث في 1820 م وبعد استقلاله في 1956م و مرورا بمحطات التطورات السياسية و الحكومات الوطنية المتعاقبة حتي عام 2022م، مع العلم أن بذرة الصراع القبلي التي اتخذت مظاهر شتي بدأت مع تكوين السودان الدولة القطرية الحديثة التي نشأت في القرن التاسع عشر الميلادي (عام 1820م).

السودان الحديث و الصراع حول الهوية

بدأ تاريخ السودان الحديث أي الدولة القطرية بشكلها الحالي -مرورا بعدة تطورات سياسية و استعمارية- بقيام مملكة سنار ( 1504 – 1821 م ) التي مثلت بداية مرحلة جديدة من تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي والثقافي، ورغم ظهور بعض الممالك الإسلامية الأُخرى في أجزاء متفرقة من السودان حينها مثل دولة المسبعات (1559-1821م)، دولة تقلي (1570-1927م) ودولة الفور (1640-1874،1898-1916م) إلا أن سنار تعتبر أكبر هذه الممالك وأكثرها منعة وتأثيرًا على مجريات السياسة الاقليمية آنذاك، بسطت مملكة سنار سلطتها على عدد من المشيخات السودانية، إلا أنها لم تفلح في ضم الممالك الإسلامية الثلاث ( المسبعات و تقلي والفور ) في غرب البلاد، حتي مجئ الحكم التركي المصري في عام 1820م الذي أسس الدولة السودانية علي انقاض مملكة سنار بعد أن ضم إليها بقية الممالك الإسلامية علي مراحل حتي تشكل السودان بشكله الحالي مع بعض الفوارق الجغرافية والتأثيرات السياسية المتعاقبة.

صاحب تكوين السودان الحديث منذ بدايته بوادر صراع حول هوية الدولة بين الإفريقيانية والعربية أم الأثنين معا، في 1877م عين الخيدوي إسماعيل غردون باشا حاكما عاما علي السودان ( استعان حكام مصر حينها بالأوربيين لتسنم بعض المناصب في السودان من بينها منصب الحاكم العام)،في 1884م أعلن غردون باشا في طريقه للسودان بصفه الحاكم العام عن نيته تسليم السودان لحكامه السابقين الذين كانو يحكمونه قبل الفتح المصري، واقترح تكوين كونفدرالية تجمع الممالك السودانية في إطار دولة واحدة، لكن غردون عدل عن الفكرة وأسس حكم مركزي بغية التصدي للثورة المهدية، كما أن فكرة الكونفدرالية نفسها اصطدمت بعدم وجود نظام عشائري أو أهلي في بعض المدن الكبري مثل الخرطوم وكسلا وبعض مناطق الولاية الشمالية (الصراع علي السودان 1840-2008: جمال الشريف).

رغم أن الدولة المهدية (1885-1898م) مثلت أول حكم سوداني لدولة السودان المستقلة و لمده 13 عاما عززت خلالها القومية السودانية، إلا أن تحديد الهوية تعقد إبان فترة الحكم الثنائي في 1898م وحتي الاستقلال في عام 1956م وحتي 2022م، عمدت حكومة الاستعمار البريطاني لبناء هويتين منفصلتين للسودان واحدة في الجنوب وأخري في الشمال( أطلق الصديق د. جمال في كتابه الصراع علي السودان مثل هذا التحديد بناء هوية قائمة علي النظرة الإثنية).

في عام 1922 أصدر الحاكم العام للسودان قانون المناطق المقفولة والذي أعلن بموجبه كل من جنوب السودان وجزء من شمال كردفان وقيسان وكسلا ودارفور مناطق مغلقة، كما عمل الاستخراب الإنجليزي علي تنمية بعض الولايات و إهمال بعضها مما أوجد نوعا من الغبن في نفوس بعض السودانيين حينها،ثم انتشر ذلك لبعض المناطق لاحقا ومازال مستمرا حتي يومنا تحت مسمي التهميش.

إزا تلك السياسة البريطانية التي قضت بإغلاق بعض المناطق وتنمية بعضها وإهمال أخري، ظهرت بعض الاحتجاجات المطلبية حين عبر بعض السودانيون آنذاك عن عدم رضاهم لاختلال التوازن في المشاركة السياسية و العسكرية والتنموية وتطور ذلك الاحتجاج لتكوين ما عُرف بالكتلة السوداء في عام 1938م التي فازت في انتخابات الجمعية التشريعية الأولي (1948-1953) عن دائرة جنوب ام درمان، شملت مطالب الكتلة السوداء تحسين الظروف الاجتماعية خاصة وسط الفقراء والحد من الجريمة والقضاء علي الفوارق الاجتماعية ودعم وتأسيس سودان ديمقراطي حر، و في عام 1954م تحولت الكتلة السوداء إلي منظمة الزنوج الأحرار السرية ولكنها انقسمت الي جناحين هما النوبة والبجا، في 1948م تأسست رابطة خيرية باسم اتحاد غرب السودان وشملت عضويتها كل من أبناء دارفور وكردفان، وفي 1958م تأسس مؤتمر البجا والذي اتخذ عددا من المقررات من بينها الدعوة لحكم ذاتي لإقليم شرق السودان وإشراك البرلمانيين من أهل الشرق في السطلة التنفيذية و تنمية الإقليم (الصراع السياسي علي السودان: جمال الشريف).

بعد اكتوبر 1964م ظهر نشاط لكيانات ذات طابع جهوي اقليمي بصورة واضحة فتأسست جبهة نهضة دارفور في عام 1964م واتحاد عام أبناء جبال النوبة في نفس العام أيضا وجبهة نهضة كردفان في عام 1965م، كما دخل مؤتمر البجا و اتحاد عام جبال النوبة في ميثاق سُمي بالميثاق القومي للمناطق المتخلفة ودعا رواده الي تحقيق اللامركزية في الحكم وضمان التطور السريع للمناطق المتخلفة والحفاظ علي وحدة السودان وتوفير فرص التعليم.

يتواصل ……

اترك رد

error: Content is protected !!