ملامح من الذكري السنوية لحرية الصحافة في 2022م : حرية التعبير في السودان بين الحصار الرقمي للصحافة والمسؤولية الأخلاقية 3-3
✍️ د. أحمد عبد الباقي
مواصلة للحديث في الحلقتين (1 و2) تناقش هذه الحلقة الأخيرة من السلسلة ملامح حرية التعبير في الفترة الإنتقالية 2019-2021م.
رغم أن الثورة في ديسمبر رفعت شعارات الحرية إلا أن حرية التعبير خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي اعترتها بعض العقبات التي أثرت عليها فيما يلي:
رغم إيجابياتها في تيسير ممارسة حرية التعبير، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي في السودان أُستغلت أستغلالا سيئا شوه نُبل الممارسة، فكان من بعض ما استشري خلال الفترة الإنتقالية الإنتشار الكثيف للشائعات بسبب توفر المعلومة دون موثوقية و بث خطاب الكراهية وشيطنة الخصوم دون مراعاة لشرف الخصام، ظهر ذلك من خلال الخطاب السياسي و تناول الناشطين السياسيين والاجتماعيين لموضوعات الساحة السياسية بشئ من عدم الحساسية و وضع المصالح الضيقة فوق المصالح الوطنية، خير وصف لتلك الحالة ما جاء في ندوة عقدها مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية في عام 2021م تحت عنوان “الحلول المطروحة إعلامياً لمشكلات الفترة الانتقالية” وقُدمت فيها ورقتين الأولى: تطرقت الأولي لدور الإعلام في الرقابة والمساهمة في طرح الحلول، والأخري جاءات حول خطاب الكراهية في الإعلام وأثره علي استدامة السلام.
شارك في المنتدي عدد من الخبراء المعروفين من أمثال فيصل محمد صالح الذي كان مستشارا إعلاميا لمجلس الوزراء وأشار بصريح القول إلي عدم وجود رؤية إعلامية للحكومة ومحجوب محمد صالح (ممثل المركز) الذي شدد علي ضرورة الرقابة الذاتية للصحفيين كما شارك في المتندي آخرين من الصحفيين منهم حيدر المكاشفي. خلص المنتدي إلي أن خطاب الكراهية و العنصرية والشائعات من مهددات الفترة الإنتقالية و شدد علي أهمية ودور الرقابة الذاتية في ممارسة حرية التعبير خاصة لدي الصحفيين.
ضيقت حكومة الفترة الإنتقالية علي الرأي الآخر الذي يخالفها، فأغلقت بعض المؤسسات الإعلامية مثل دور الصحف ومحطات التلفزيون و إلغاء ترخيص البث لبعض المحطات والقنوات تحت ذريعة محارب التمكين، أو الاتهام بالإنتماء إلي النظام البائد أو الدولة العميقة لدرجة أن التقرير العالمي لحقوق الإنسان لعام 2020م أنتقد أغلاق صحيفتي “الرأي العام” و”السوداني” وقناتين تلفزيونيتين خاصتين بدعوى أن لها صلات مالية مع نظام البشير واصفا اللجنة بأنها تفتقر إلى الرقابة القضائية وأنها أداة سياسية.
علي المستوي المهني، تعرضت نقابة الصحفيين هي الأخري لهزة داخلية في عام 2019 م بقيام ثلاثة أجسام صحافية بسبب شدة الاستقطاب السياسي، لينتهي الأمر بتدخل كبار الصحافيين والتوسط لإنهاء الخلاف والاحتكام للجمعية العمومية . أضف إلي ذلك أن هنالك معوقات خارجية تؤثر علي حرية التعبير مثل: عدم توفر خدمات الانترنت بصورة دائمة وتعرضه للإنقطاع بسبب قانون الطوارئ و استمرار المظاهرات التي تعيق حركة المرور، أغلاق الطرق، وتدني المرتبات و ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج المتعلقة بالعمل الإعلامي سواء كان معدات، مواد طباعة الخ…..
أري ضرورة أن تتدخل الدولة لدعم قطاع الصحافة والإعلام والنظر إليه كشريك أصيل وليس عدو مُتحفز من أجل توسيع و تنويع مواعين حرية التعبير دون محاباة.
وضع حرية التعبير في عام 2021م
دعي تقرير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الحكومة لاحترام حرية التعبير وحرية الصحافة والأعتداء علي مقراتها و التعسف ضد منتسبيها والجهات ذات الصلة بالعمل الصحفي وحرية التعبير، محاسبة كل من ثيت تورطه في الأعمال السابقة (يمكن الرجوع للتقرير مفصلا في مظانه). الملاحظ أن التقارير الحقوقية خاصة التي تصدر من المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وغيره من وسائل الإعلام الغربية والإقليمية وحتي المحلية تركز بشدة علي انتقاد أوضاع حرية التعبير أثناء فترة فض الشراكة بين العسكريين والمدنيين وهيمنة الجيش علي مقاليد الأمور منذ اكتوبر 2021م، تتجنب هذه التقارير الإشارة إلي انتهاكات حرية التعبير لفترة ما قبل أكتوبر 2021م والتي تمتد إلي 8 أشهر. الأمر الذي يعكس أذدواجية المعاييير عند تلك المؤسسات، هذا لا ينفي أن هذه الفترة شهدت تشديد القبضة علي حرية التعبير مثل قطع الأنترنت و تعرض الصحفيين للمضايقات والإعتقالات.
تقرير حرية التعبير الذي تُصدره منظمة ” مراسلون بلا حدود” و يقيم 180 دولة و يُظهر التصنيف العالمي لحرية الصحافة على مدار السنة، أبان بأن السودان حل في تصنيف عام 2020 و 2021م رقم 159 عالميا متقدما 16 مرتبة عن موقعه في عام 2019م كما أنه حل رقم 13 بين ترتيب الدول العربية لعام 2021م.
سوء استغلال مواقع التواصل الاجتماع في ممارسة حرية التعبير
تحولت وسائل التواصل الاجتماعي في كثير من دول العالم ومن بينها السودان إلى سلطة أقوى من الحكومة والدولة وهي ليست قادرة فقط على “تعبئة وتحريك المستهلكين بل الجماهير الانتخابية كما حدث في الانتخابات الأمريكية عام 2016 واقتحام الكونغرس الأمريكي في يناير من عام 2020م وكذلك استغلالها من بعض الجهات الإجرامية وسوء استخدامها لإحداث المزيد من الاستقطاب السياسي كما هو الحال في الأوضاع الملتهبة في السودان حيث تستغل بعض الجهات حرية التعبير عبر هذه الوسائل لنشر الكراهية والعنصرية أو حتي الجهات السياسية تفعل ذلك لتحقيق مكاسب سياسية، كما رشح عن إغلاق فيس بوك المئات بل وصل العدد إلي ألف من الحسابات الوهمية أو المستعارة التي تعمل لصالح جهات داخل الحكومة الإنتقالية.
إزاء سوء الاستغلال ذلك، اتجهت الحكومات علي مستوي العالم ومن بينها السودان إلي ضبط وتنظيم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لممارسة حرية التعبير، حتي لا يتعدي ذلك الخطوط الحمراء التي تضعها الدول وفقا للظروف السائدة، وتأسيسا علي ذلك وضعت السلطات في السودان سابقا وحاليا في الفترة الإنتقالية عدة قوانين لتنظم حرية التعبير وهي:
الوثيقة الدستورة للفترة الانتقالية لسنة 2019م التي كفلت المادة (57) منها حرية التعبير والإعلام لكل مواطن، بمنحه الحق في حرية التعبير وتلقي ونشر المعلومات والمطبوعات والوصول إلى الصحافة، ومن القوانين سابقا ذات الصلة غير المباشرة بممارسة حرية التعبير: القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 م و قانون المعاملات الإلكترونية لسنة2007م، اما القوانين المباشرة فتشمل (أضافة إلي قوانين أخري) قانون جرائم المعلوماتية لسنة 2007 م و 2018م والذي اصبح مثيرا للجدل بعد أن تم تعديله في يوليو 2020م وانتقده المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بجنيف متهما حكومة الفترة الإنتقالية- في بيان صحفي في عام 2020م- باستغلال الحكومة للتعديلات التي أُدخلت على قانون مكافحة جرائم المعلوماتية لسنة 2018، لفرض عقوبات أكثر تشدّدًا فيما يتعلق بالمدد الجزائية – أحكام السجن- للعديد من الممارسات الإلكترونية.
مؤسسات الرقابة الصحفية الوطنية التي تنظم مهنة الصحافة وحرية التعبير في السودان تشمل: المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية، مجلس المصنفات الأدبية والفنية والهئية القومية للإتصالات و نقابة الصحفيين. لكل مؤسسة من هذه المؤسسات دور رقابي و آخر تشريعي يتوائم مع القوانين الوطنية بغية تنظيم مهنة الصحافة والإعلام وبالتالي حرية التعبير سواء عبر الوسائل التقليدية أو الحديثة.
أهمية المسؤولية الأخلاقية والرقابة الذاتية في ضبط حرية التعبير
مع أهمية القوانين والمؤسسات المنظمة لممارسة حرية التعبير، لابد من وجود ضوابط ذاتية و مسؤولية أخلاقية للتفريق ما بين هو مفيد و هو مضر بالشأن العام في السودان، مثلا عند ممارسة حرية التعبير لابد من مراعاة الحفاظ علي السلم الإجتماعي، الأمن القومي للبلاد، التعايش السلمي، محاربة الجريمة وسوء استغلال وسائل حرية التعبير.
نحتاج في السودان إلي إعلاء تلك القيم ونشرها وسط المجتمع في ظل تعدد الفاعلين في وسائل التواصل الاجتماعي، والفهم الخاطئ لممارسة حرية التعبير التي ينبغي أن تقف عند عدم التعدي علي حرية الآخرين.
آليات تعزيز الرقابة الذاتية
يعتبر غرس قيم المواطنة الرقمية (Digital Citizenship) من أهم آليات تعزيز الرقابة الذاتية، و المواطنة الرقمية مصطلح ابتدرته الدول الغربية لضبط استخدام وسائل التواصل الاجتماع علي نحو مسؤول، وهي تعني مدى انخراط المواطن أو المستخدم وانسجامه مع مجتمعٍ رقمي ما، بالإضافةِ إلى الإلتزامِ بالقوانين والأنظمة المفروضة في المجتمعٍ الرقميٍ المعين، واستشعار الرقابة الذاتية لتحقيق الترابط بين أفراد المجتمع الواقعي بحيث يتبع المستخدم الإجراءات والأنماط والقوانين التي تتطلب منه التفاعل (ارسال، استلام، تبادل ـأو تعليق علي المواد التي تسخدم لممارسة حرية التعبير) بشكلٍ إيجابي ومسؤول مع بيئة المحتوى الرقمي مع مراعاة قيم وأعراف المجتمع الحقيقية.
المواطنة الرقمية لا تختلف عن المواطنة التقليدية، فكلاهما يتمحور حول الانتماء للمجتمع وتحقيق أهدافه والالتزام بقوانينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فيصبح المواطن ذا حقوق وواجبات في آن واحد في المجتمع الرقمي.
للمواطنة الرقمية عدة عناصر منها محو الأمية الرقمية، إشاعة وتيسير الوصول الرقمي، ممارسة الأوتكيت الرقمي، القانون الرقمي الخ… من العناصر.
همسة
آمل أن يتلفت الجميع حكومة و شعبا لمسألة المواطنة الرقمية والعمل علي التمثل بقيمها حماية للمجتمع السوداني من المخاطر التي تحدق به خاصة السلم الاجتماعي و محاربة الكراهية والعنصرية لأنهما ما فشتا في مجتمع وإلا انفرط عقده. يمكن نشر تلك الثقافة بالتوعية في المنتديات العامة ووسائل الإعلام، علي منظمات المجتمع المدني أن تتخذ موقعا رياديا في ذلك.
أري أن تركز الحكومة علي حل جذور المشاكل التي تعترض حرية التعبير بدلا عن الأمننة (استخدام الحلول الأمنية)، وكذلك إستشارة أصحاب الشأن في المجتمع وأهل الصحافة والإعلام في وضع ضوابط وأسس لممارسة حرية التعبير التي سيصبح المجتمع بغيرها نهما للشائعات والغزو الخارجي للأفكار الهدامة والتي حتما سيصل إليها الفرد بطرق اخري مثيرة تتجاوز رقابة الدولة الحضورية أو الرقمية.