
منذ استقلال السودان، ظل الكفاح الوطني رهينًا لمعادلات المصالح، حيث تسللت النخب السياسية والاقتصادية إلى مفاصل الدولة كواجهة جديدة للمستعمر لا لتخدم الشعب، بل لتكرّس امتيازاتها وتعيد إنتاج نفوذها. ومع كل مرحلة انتقالية أو تغيير شكلي، كانت تُعاد صياغة ذات التحالفات، وتُستنسخ ذات الشعارات، بينما ظل المواطن السوداني يدفع الثمن من أمنه ومعيشته وكرامته.
ما تشهده الدولة السودانية اليوم من اضطرابات متواصلة واستقطاب سياسي حاد ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية من الفساد الممنهج والتبعية العمياء للمشاريع الخارجية. التدخلات الأجنبية، التي بدأت تحت غطاء الدعم السياسي أو الإنساني، سرعان ما تحولت إلى أدوات لتأطير الفساد وتكريس نفوذ نخب لا ترى في السودان سوى بوابة لمصالحها. هذه النخب، التي ارتبطت بالمشروع الخارجي، لم تكن يومًا معنية بمصلحة الشعب، بل كانت واجهات ناعمة للاستعمار الجديد، تلبس ثوب الوطنية وتخدم أجندات لا تمت للوطن بصلة.
حرب 15 أبريل ليست حدثًا معزولًا، بل هي نتيجة مباشرة لهذا المسار الطويل من التآكل الوطني. إنها لحظة انفجار لما تم بناؤه على أساس هش من المحاصصات والولاءات الخارجية، حيث تحولت الدولة إلى ساحة صراع بين وكلاء النفوذ الإقليمي والدولي، بينما غاب صوت الشعب تمامًا عن طاولة القرار. هذه الحرب كشفت بوضوح أن من يدّعون تمثيل الشعب هم في الحقيقة جزء من الأزمة، لا من الحل.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن مصلحة الشعب السوداني من خلال النخب الحالية، بل يجب العودة إلى الجذور، إلى المجتمع نفسه، الذي ظل صامدًا رغم كل محاولات التفكيك. بناء المجتمع من القاعدة، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وتفعيل دور النقابات والمجتمعات المحلية، هو السبيل الوحيد لاستعادة السودان من قبضة المصالح غير الوطنية. فالبنية الاجتماعية هي الحصن الأخير، وإذا تم تفكيكه، فلن يبقى شيء يُبنى عليه.
من يعارض المشروع الوطني الحقيقي، القائم على حكم الشعب لنفسه، هم أولئك الذين يستفيدون من استمرار الفوضى. لا يرون في السودان وطنًا يجب أن يُبنى، بل ساحة لتصفية الحسابات وتبادل المصالح وتكريس الامتيازات التاريخية. وإذا عدنا إلى التاريخ، سنجد أن الكفاح الوطني تم اختطافه مرارًا، وأن من اختطفه هم أنفسهم من يعيدون إنتاج الأزمة اليوم، تحت مسميات جديدة وبخطابات مزيفة.
الطريق نحو سودان جديد لا يمر عبر إعادة تدوير الأحزاب أو الخطابات، بل عبر إعادة تعريف الوطنية وربطها بمصلحة المواطن، لا بمصلحة النخب. وهذا يتطلب وعيًا شعبيًا متقدمًا، وحراكًا اجتماعيًا واعيًا، ومشروعًا وطنيًا جامعًا لا يُقصي أحدًا، لكنه لا يساوم على مصلحة الشعب. فالسودان لن يُبنى إلا بسواعد أبنائه، لا بأيدي من باعوه في سوق المصالح.