مسارات إنهاء الحرب في السودان ( 1- 2 ) – التفاوض بين الجيش والدعم السريع !

Kameir@yahoo.com
تورونتو، 6 نوفمبر 2025
مقدمة
على خلفية المساعي الإقليمية والدولية الجارية لوقف الحرب (الرباعية)، وهي على أعتاب عامها الثالث، أصبحت عملية “التفاوض” بين الحكومة/الجيش وقوات الدعم السريع الموضوع الرئيس في النقاشات السياسية المكتوبة والمرئية، وحتى في الجلسات الاجتماعية، رغم تباين وجهات النظر بين المتحاورين. ويرافق هذا الاهتمام المتزايد بالتفاوض تساؤلات حول دور دولة الإمارات العربية المتحدة، المتهمة بالعدوان والدعم المباشر لقوات الدعم السريع، وكيفية التعامل معها. فقد انتقلت الإمارات من موقع “المراقب” في مفاوضات جنيف التي لم تُعقد في أغسطس 2024، إلى صفة “الوسيط” في اللجنة الرباعية منذ يونيو 2025. وينقسم الرأي السياسي حول دور الإمارات بين من يصفها بالعدوان ويرفض وساطتها، ومن يرى أن وجودها داخل اللجنة يمكن توظيفه لصالح السودان.
وفي ظل الحرب والاضطراب السياسي الذي تعيشه البلاد، فإن هذين الموضوعين يُعدّان محوريين في مسار إنهاء الحرب، ويحيط بهما قدر كبير من التعقيد، مما يجعل الإجابة عنهما بالغة الصعوبة. لذا، سعيت إلى توسيع دائرة الاستشارات بطرح السؤالين على مجموعة موسعة من أصحاب الرأي المهتمين بالشأن السياسي، بهدف الوصول إلى خيارات تصب في مصلحة البلاد. استصحاباً لهذه المشاورات، أهدف من هذا المقال (من جزئين) إلى إلقاء مزيد من الضوء على الموضوعين المترابطين، وطرح أسئلة مُهمة تُثير النقاش والحوار الموضوعي مما يُقرِّب من وجهات النظر المُتباينة، حتى يصل السودانيون وصفةٍ توافقية إلى وقف وإنهاء الحرب.
أُسلط الضوء في هذا الجزء الأول من المقال على قضية التفاوض بين الجيش والدعم السريع، على أن أتناول في الجزء الثاني موضوع كيفية التعامل مع دولة الإمارات.
أولاً: التفاوض
زادت حدة الاستقطاب بين القوى السياسية والمجتمعية وكتاب الرأي حول التفاوض بين الجيش والدعم السريع الذي ترعاه اللجنة الرباعية، بقيادة المستشار الرئيس الأمريكي التي تجلت في دعوته لوفدين من الجيش والدعم السريع إلى واشنطون، وفي جولاته المكوكية بين الدول المعنية. هذا الاستقطاب يعكس انقسامًا عميقًا في المشهد السوداني، حيث يرى المؤيدون أنّها فرصة لإنهاء الحرب، بينما يعتبرها المعارضون تكريسًا للوصاية الخارجية وتبييضًا لجرائم الدعم السريع، خاصة بعد سقوط الفاشر وما صاحبه من فظائع مروعة.
لا أحد يريد للحرب أن تستمر إلا تجارها وسماسرتها. فمنذ منتصف عام 2023، وبالرغم من فشل مباحثات جدة، دعونا الحكومة والجيش للمشاركة في محادثات جنيف، أغسطس 2024، وأنّ التفاوص ينبغي أن ألّا يُقابل بالرفض، إذ أنّه حتى في حالة رضوخ أحد طرفي الحرب للاستسلام فلابد أن تصحبه مفاوضات (اليابان). ومع ذلك، فالتفاوض تحكمه ثلاثة قواعد رئيسة: 1) تحديد أطراف التفاوض، بين من ومن؟، 2) تعريف الموضوعات والأجندة، فحول ماذا يتم التفاوض، و3) الهدف النهائي endgame. وبعد تصريح القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة بأنهم مستعدون للتفاوض “بما يصلح السودان وينهي الحرب بصورة تعيد للبلاد وحدتها وكرامتها”، فإنه من المُمكنِ تحقيق هذا الهدف بالاحتكام لهذه القواعد الثلاث:
1-أطراف التفاوض: فصل مسار التفاوض بين الحكومة/الجيش وقوات الدعم السريع عن مسار الحوار بين القوى السياسية والمجتمعية، وعن مسار التواصل مع الإمارات والرعاة الخارجيين الآخرين. أي تبني الحكومة لاستراتيجية التفاوض في المسار الأمني/العسكري، مقابل استراتيجية الحوار في المسارين السياسي والدبلوماسي.
2-أجندة التفاوض: يُركز التفاوض بين الحكومة/الجيش والدعم السريع على إنهاء الوجود المؤسسي للدعم السريع بكافة امتداداته العسكرية والاقتصادية. وربما الأهم أن لا تحتفظ أسرة آل دقلو وقادة قوات الدعم السريع بأي مواقع سياسية أو عسكرية رسمية في حال التوصل إلى اتفاق مع الجيش، بل إن الانتهاكات والفظائع التى ارتكبتها هذه القوات خلال عملية حصار وسقوط الفاشر قد تفتح الباب أمام ملاحقات دولية ومحلية.
وبالفعل، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائيه الدولية أنّ مكتبه، “في إطار التحقيق الجاري، يتخِذُ خطوات فورية بشأن الجرائم المزعومة في (الفاشر) من أجل الحفاظ على الأدلة ذات الصلة، وجمعها لاستخدامها في الملاحقات القضائية المستقبلية”. وذكّر المكتب بأنه بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (1593، عام 2005)، تتمتع المحكمة بالاختصاص القضائي على الجرائم المرتكبة في إطار النزاع الدائر في دارفور. فقد أضعفت هذه الانتهاكات موقف الدعم السريع سياسياً وأخلاقياً، وأثارت غضباً شعبياً واسعاً داخل السودان وخارجه. ومع ذلك، فإنّ فعملية إنهاء الوجود العسكري للدعم السريع ستستغرق وقتًا، سواء خلال الفترة الانتقالية أو في نهايتها، خاصة إذا تم تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية بشكل جيد.
كما يجب أن يشمل مسار التفاوض القضايا الإنسانية، مثل تسهيل إيصال المساعدات، حماية قوافل الإغاثة، حرية حركة المدنيين، ونشر مراقبي حقوق الإنسان في مناطق النزاع. يلي ذلك الترتيبات الأمنية النهائية، بما فيها الدمج، وهي من مهام المكونات العسكرية، بما يشمل الجيش وكل الحركات المسلحة دون استثناء.
3-هدف التفاوض:
يقوم التفاوض على التمسك بالترتيبات الأمنية التي لا تعيد إنتاج أي قوة عسكرية موازية للجيش، وعلى حسمِ قضية تشكيل الجيش الوطني الواحد والقيادة الموحدة، وتكوين جيش مِهني يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخله، ويخضع للإصلاح والتطوير، سوياً مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً. بينما هذا كله لا يعني بأي حالٍ من الأحوالِ حِرمان ومنع قيادات ومنسوبي الدعم، ممن ليست موجهة ضدهم اتهامات جنائية أو انتهاكات لحقوق الإنسان، من حريتهم في ممارسة العمل السياسي وفقاً لقانون الأحزاب والتنظيمات السياسية المُرتقب بعد انتهاء الترتيبات الأمنية الشاملة، كما هو شأن كافة الحركات المسلحة.
إن استمرار وجود جيشين، إلى جانب الميليشيات والحركات المسلحة، هو وصفة لتفكك الدولة السودانية. فقد أفضى نموذج “جيشين في دولة واحدة”، الذي أقره اتفاق السلام الشامل، إلى 1) “جيشين في دولتين مستقلتين” عام 2011، و2) إلى اندلاع الحرب مجدداً في جنوب كردفان والنيل الأزرق في يونيو وسبتمبر من ذات العام.
لِمّ لا يتشكّل حزبٌ سياسيٌ يضمُ الحلفاء السياسيين للدعم السريع؟ فكل القضايا المطروحة من قبل الدعم السريع، التي لم يتطرق لها إلاّ بعد مرور قرابة العامين من اندلاع الحرب (التهميش التاريخي، لامركزية الحكم، إعادة هيكلة الدولة السودانية، وحتى علمانية الدولة)، سيتم التداول حولها في سياق الحوار السوداني الشامل، الذي لا يستثني أحداً إلاّ من أجرم وأفسد، والذي على رأس أجندته مناقشة الأسس الدستورية والقضايا التأسيسية للدولة السودانية.
أسئلة للعصف الذِهني!
I. تبدو خارطة الطريق التي قدمتها الحكومة لاحقاً إلى الأمين العام للأمم المتحدة في مطلع أبريل 2025، في مراحلها المتصلة بالترتيبات الأمنية والعسكرية، وكأنها دعوة ل “لاستسلام”، خاصة في أعقاب تشكيل الدعم السريع لتحالف “تأسيس” ول”سلطة” حكومية (بغض النظر عن الاعتراف بها)، وبالأخصِ بعد دخول الفاشر. فهل سيتعامل الدعم السريع مع هذه الخطة بإيجابية، أو يقبلها أصلاً؟ أم سيكون موقفه الصارم هو الدعوة إلى التفاوض بين الحكومة في “بورتسودان” وسلطة تأسيس في “نيالا”؟ وفي إطارٍ أوسع، لدى بعض القوى السياسية و”المدنية” تصورٌ يجمع ويخلط بين “المفاوضات” و”الحوار” ليتم التفاوض بين ثلاث كتل سياسية: القوى الداعمة للجيش، القوى الداعمة للدعم السريع، والقوى الداعية لوقف الحرب. فإن لم تصبح خارطة الحكومة قابلة للتطبيق، فها هو الخيار الآخر المتاح للحكومة والجيش؟ هل هو تسوية سياسية تقوم على التفاوض حول تقاسم السلطة والثروة على نهج اتفاقيات السلام السابقة، بالرغم من تباين الظروف الموضوعية والشروط الذاتية؟ إن كان هذا هو الخيار، فما الضمان أن لا يكون الفشل هو مصيرها كسابقاتها، والتي لم تصنع سلاماً مستداماً ولم تحفظ وحدّة البلاد؟ وبما يُنذر ليس فقط بتقسيم البلاد، هذه المرة، بل بتفكك الدولة السودانية.
II. إذا وافق الدعم السريع على التفاوض العسكري-عسكري، فهل سيقبل في هذه الحالة أن يكون بمفرده؟ أم سيطالب باصطحاب حلفائه العسكريين: الحركة الشعبية شمال والحركات المسلحة المنقسمة، التي انضمت إلى تحالف “تأسيس”؟ وإن كان هذا المسار مُعنىً بوقف إطلاق النار فكيف سيتم تعامل الحكومة مع الدعم السريع بجانب هذه الحركات المسلحة؟ في ظني، أنّ الحركات المنقسمة قد تقبل أن يفاوض الدعم السريع إنابة عنها، فالرك والمحك هي قيادة المليشيا، بينما الحركة الشعبية/الحلو قد لا يوافق على هذا العرض من أساسه. ففي رأيي أنّ الجيش الشعبي بقيادة الحلو لن يقبل بمفاوضات مع الحكومة/الجيش إلاّ بتحقيق شرطين، أولهما: أن يكون الهدف الرئيس لهذه المفاوضات هو التوصل إلى إعلان مباديء شامل يحكم العملية التفاوضية، وثانيهما: تحديد ثلاثة مواضيع للتفاوُض وتسلسُلها sequencing، بحيث تبدأ المُفاوضات بملف القضايا السياسيَّة، المُتعلقة بجذور الأزمة السُّودانيَّة، ومن ثمَّ الملف الإنساني، وأن تنتهي بقضيَّة الترتيبات الأمنيَّة ووقف إطلاق النار الشامل.
III. ونفس السؤال موجه إلى الحكومة والجيش: هل حركات المسلحة المشاركة في القوة المشتركة والمقاتلة مع الجيش لديهم موقف مشترك من المفاوضات، من جِهةٍ، ومن الرباعية ووجود الإمارات فيها، من جِهةٍ أخرى؟ وفي المقابل، فإنّ الدعم السريع بدوره لن يقبل بالتفاوض مع الجيش وفي معيته القوة المشتركة للحركات المسلحة!
IV. وربما سؤالاٌ آخر، ففي حالة قبول الجيش والدعم السريع وقف إطلاق النار المؤقت، فكيف يتم تطبيقه على الأرض؟ فبالرغم من وجود قيادة عليا لقوات الدعم السريع، مُمثلةً في حميدتي وأخيه، إلاّ أنّ هذه القيادة لا تملك السيطرة الكاملة على الأرض. فتقارير عديدة ذات مصداقية تُشير إلى أنّ بعض الوحدات الميدانية تتصرف بشكل مستقل، وتتخذ قراراتها بناءً على الواقع المحلي، الولاءات القبلية، والمصالح الاقتصادية (مثل السيطرة على مناطق التعدين أو طرق الإمداد). هذا التعدد في مراكز القرار يجعل تنفيذ أوامر وقف إطلاق النار أمراً معقداً، إذ قد لا تلتزم كل هذه الوحدات بالأوامر الصادرة من القيادة العليا، خصوصاً إذا شعرت بأنّ الاتفاق لا يخدم مصالحهاالمباشرة أو يهدد نفوذها في مناطق السيطرة.
وبالمقابل، بعد سقوط الفاشر في يد الدعم السريع، انسحبت أعدادٌ مهولة من قوات الحركات المسلحة في القوة المشتركة وتموضعت في مناطق متفرقة مما يصعب الالتزام بوقفٍ لإطلاق النار الذي قد يعرضها للخطر. وسياسياً، تستغل بعض القوى السياسية سقوط الفاشر بغرض توسيع التناقضات بين الجيش والقوة للمشتركة مما قد يفاقم التصدعات في الكتلة السياسية-العسكرية الداعمة للجيش.
V. كان رئيس مجلس السيادة قد سبق وأن قبل بهدنةٍ لمدة أسبوع دعا إليها الأمين العام للأمم المتحدة (27 يونيو الماضي) بينما رفضها الدعم السريع. ومع ذلك، فالهدنة الإنسانية التي عرضتها الرباعية ضمن خارطة طريق من ثلاث خطوات قد يتعثر قبولها وتطبيقها في ظل الضغط العسكري المتواصل، والعمليات العسكرية في كردفان ودارفور، وفي ظل سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، واستمرار الدعم والإمداد المُقدم لها من دول الجوار. وبينما استمرار الحرب دون “هدنةٍ” قد يفاقم ويوسع نطاق الكارثة الإنسانية الماثلة، ما قد يضعف موقف الجيش “دولياً”،إلاّ أنّ قبوله بالهدنة سيكون مشروطاً بوقف تحركات قوات الدعم السريع، وضمانات دولية صارمة لا تسمح بإعادة تموضعها، وآلية مراقبة ميدانية.
في ظل ترقب كبير من المراقبين والشارع السوداني والمجتمع الدولي، عقد مجلس الدفاع والأمن اجتماعاً مهماً لمناقشة الأوضاع الراهنة، خاصة في ما يتعلق بالهدنة الإنسانية التى اقترحتها الوساطة الرباعية. لكن البيان الذي صدر عقب الاجتماع جاء مقتضباًولم يتطرق نهائيًا إلى موضوع الهدنة أو خطة الوساطة، بل اكتفى بالإشارة إلى تشكيل لجنة للنظر في كيفية إنهاء المعاناة الإنسانية، وشكر الولايات المتحدة على جهودها، دون أي موقف واضح من المبادرة. هذا التجاهل أثار حالة من الارتباك وتباين التفسيرات في الأوساط السياسية والإعلامية، خاصة بعد تصريحات متفائلة من كبير مستشاري الرئيس الأميركي، الذي أشار إلى أن الطرفين يقتربان من توقيع اتفاق هدنة. وبينما يرى البعض أنّ البيان ربما سعى إلى تجنب الصدام المباشر مع واشنطن، خاصة في ظل ضغوط دولية متزايدة لتثبيت وقف إطلاق النار، يعتقد آخرون أن الحكومة ما زالت تدرس شروط القبول بالمبادرة الرباعية، وسط انقسام داخلي بين القوى السياسية حول جدوى هذه الخطة.
أختم، بأن الجيشُ حقاً يواجه معادلةً صعبة يشوبها التعقيد. فبالنسبة له، المعادلة الآن ليست فقط عسكرية، بل سياسية وشعبية أيضاً، وقيادة الجيش تُدرك أنّ أي خطوة تُفسر كـ”تنازلٍ” قد تُفقدها السند “داخلياً”. الجيش قد لا يرغب في هدنةٍ ليس بسبب استغلالها لصالح الدعم السريع في تعزيز سلطته وتأمين إمداداته العسكرية واللوجستية فحسب، فالمليشيا أسقطت الفاشر دون حاجة لها. بل، في تقديري لأنّ الهدنة تمهد لوقفٍ دائمٍ لوقف إطلاق النار يُعزز ويُقنن سيطرة الدعم السريع على مساحات واسعة في دارفور وكردفان مما يُضعِف الموقف التفاوضي للحكومة.




