مجلس الأمن يضع خطوطًا حمراء في حرب السودان: لا شرعية للسلطات الموازية ولا تسامح مع التدخلات الخارجية !؟

في خطوة تعكس تصاعد القلق الدولي من مسار الحرب في السودان، أصدر مجلس الأمن امس الاربعاء ١٣ اغسطس الجاري بيانًا حاسمًا برفض إعلان إنشاء سلطة حكم موازية في المناطق التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع، محذرًا من أن هذه الخطوة تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة البلاد وسلامة أراضيها، وقد تؤدي إلى تفاقم النزاع وتدهور الوضع الإنساني المتردي أصلًا.
الموقف، الذي جاء نتيجة جهود مضنية وبصيغة توافقية بين أعضاء المجلس، يحمل عدة رسائل سياسية وأمنية واضحة. فهو من جهة يقطع الطريق على أي محاولات لفرض أمر واقع سياسي بالقوة، ويؤكد أن المجتمع الدولي لن يمنح شرعية لكيان سياسي ينشأ خارج إطار السلطة الشرعية أو التوافق الوطني. ومن جهة أخرى، يعيد تثبيت المرجعية الأساسية للحل المتمثلة في سيادة السودان واستقلاله ووحدته، مع التأكيد على أن الحلول يجب أن تكون نابعة من الإرادة الوطنية السودانية.
البيان تضمن كذلك تذكيرًا بقرار مجلس الأمن رقم 2736 (2024)، الذي طالب مليشيا الدعم السريع برفع الحصار عن مدينة الفاشر ووقف القتال، وحذر من أن استمرار الحصار يهدد بانتشار المجاعة وانعدام الأمن الغذائي. اللافت أن البيان أشار صراحة إلى التقارير الواردة عن تجدد هجوم التمرد على المدينة، وهو ما يعكس ميلًا متزايدًا داخل الخطاب الأممي نحو تحميل هذه القوات مسؤولية مباشرة عن التدهور الإنساني وحماية المدنيين في دارفور.
كما وسّع المجلس دائرة إدانته لتشمل أعمال العنف الأخيرة في إقليم كردفان، التي أوقعت أعدادًا كبيرة من الضحايا المدنيين، في محاولة للحفاظ على توازن الخطاب الدولي وعدم حصر الإدانة بطرف واحد، مع إبقاء الضغط على جميع أطراف الحرب. وفي الوقت نفسه، أرسل المجلس إشارة قوية إلى الأطراف الإقليمية المتدخلة سلبا في الحرب، داعيًا الدول الأعضاء إلى الامتناع عن أي تدخل خارجي يفاقم الصراع، وهي رسالة يُقرأ خلفها استياء متزايد من أدوار أطراف إقليمية بعينها في تأجيج الحرب.
البيان ختم بدعم واضح لجهود المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، رمضان لعمامرة، وهو ما يؤكد رغبة أممية في إعادة إحياء المسار التفاوضي الأممي، بعد أن شهدت المبادرات الإقليمية تعثرًا وفشلا وانقسامات حادة. هذه الإشارة توحي بأن الأمم المتحدة تسعى لاستعادة زمام المبادرة في إدارة الملف السوداني، مع وضع خطوط حمراء واضحة: لا تقسيم، لا شرعنة للسلطات الموازية، وضرورة العودة إلى مسار سياسي بقيادة مدنية.
في المحصلة، يعكس هذا البيان في جوهره إدراك مجلس الأمن أن السودان كاد يقترب من نقطة اللاعودة إذا استمرت الحرب بنفس الوتيرة، وأن حماية وحدة البلاد باتت أولوية قصوى تتجاوز حتى البعد الإنساني. كما أنه يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الضغوط السياسية والدبلوماسية، وربما العقوبات، إذا لم تُترجم هذه الرسائل إلى خطوات عملية على الأرض من قبل التمرد وداعميه في التقاط الاشارات.
دلالة الكسب والخسارة :
وبقراءة موازين المكاسب والخسائر التي يترتب عليها بيان مجلس الأمن، يظهر أن الحكومة السودانية والجيش خرجا بمكسب سياسي مهم يتمثل في دعم المجتمع الدولي لوحدة السودان وسيادته ورفض أي سلطة موازية، وإن كان ذلك لا يعفيهما من الضغوط المتعلقة بالملف الإنساني والانخراط في تسوية سياسية. في المقابل، تلقى مشروع التمرد لضمان موطئ قدم سياسي ضربة قوية، مع تحميله مسؤولية الحصار والمجاعة في الفاشر، ما يفتح الباب أمام عقوبات أو قيود أممية مستقبلًا. أما القوى السياسية والمدنية، فقد عزز البيان موقعها بإعادة التأكيد على الحل السياسي بقيادة مدنية، لكنه في الوقت نفسه يفرض عليها تحدي التوحد حول رؤية مشتركة. وعلى الصعيد الإقليمي، وجّه البيان رسالة تحذيرية للأطراف المتدخلة في الحرب، ما قد يقيّد حركتها ويضعها تحت الرقابة الدولية، بينما كسبت الأمم المتحدة والمبعوث الأممي رمضان لعمامرة دفعة إضافية في شرعنة دورهما كقائدين للمسار التفاوضي، رغم بقاء تحدي إلزام الأطراف بقرارات المجلس قائمًا.
أسباب التحول داخل مجلس الأمن:
تعود الانعطافة الملحوظة في موقف مجلس الأمن تجاه الحرب في السودان، بعد أكثر من عامين على اندلاعها، إلى جملة من الأسباب الجوهرية التي تراكبت خلال الشهور الأخيرة. أول هذه الأسباب يتمثل في تنامي المخاوف من تفكك الدولة السودانية بفعل مساعي فرض سلطات موازية على الأرض، وهو سيناريو بات يهدد ليس فقط وحدة السودان وإنما استقرار الإقليم برمته. وثانيها، التحذيرات المتصاعدة من منظمات الأمم المتحدة بشأن خطر المجاعة واسعة النطاق في دارفور، ولا سيما في الفاشر التي تحولت إلى بؤرة حصار خانق، بما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية إنسانية مباشرة. وثالثها، اتساع نطاق القتال إلى أقاليم جديدة مثل كردفان، وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، ما أعاد الزخم إلى المطالب بحماية المدنيين ووقف الانتهاكات. أما السبب الرابع، فيرتبط بتزايد وضوح أدوار بعض القوى الإقليمية في تأجيج الصراع، وهو ما استدعى من المجلس إطلاق تحذير صريح ضد التدخلات الخارجية. وخامسا التطورات على المشهد الميداني التي ترجح كفة الجيش ، وانتظام عودة الحياة والخدمات بعودة المواطنيين الي ديارهم مما يشيء بتعافي نسبي وأخيرًا، فإن فشل وتعثر المبادرات الإقليمية وتعدد مسارات الوساطة جعل من الضروري بالنسبة للمجلس إعادة الإمساك بخيوط الملف السوداني وإعادة إحياء المسار التفاوضي الأممي بقيادة المبعوث الخاص، والبناء على ما توافر من اجراءت مدنية.
البيان تحول وازن في مسارات الحرب ورعاتها
في المحصلة، ترحيب السودان بالبيان ياتي ليكشف الموقف الأخير لمجلس الأمن المعبر عن تحول نوعي في تعاطي المجتمع الدولي مع الحرب في السودان، من سياسة المراقبة الحذرة والتعاطي الإنساني المحدود والتعيش في ادانة التمرد، إلى وضع خطوط حمراء صريحة أمام مشاريع فرض الأمر الواقع بالقوة ، وفي مقدمتها مشروع الكيان الموازي وضرب الشرعية الذي يطرحه التمرد ورعاته الإقليميون. هذا الموقف يقترب في جوهره من موقف الاتحاد الأفريقي، الذي وإن بدا في بياناته أكثر تحفظًا، فإنه أكد مرارًا رفض أي مسار يُقوّض وحدة السودان أو يتجاوز مرجعية الحل السياسي الشامل بقيادة مدنية. أما جامعة الدول العربية، فقد حافظت على خطاب يوازن بين دعوات وقف القتال واحترام السيادة، لكنها لم تُظهر حتى الآن نفس الحدة التي اتسم بها بيان مجلس الأمن، ربما مراعاةً لحساسيات أعضائها المنخرطين في الملف السوداني. وبين هذه المواقف الثلاثة، يبدو أن هناك أرضية مشتركة يمكن البناء عليها لبلورة موقف إقليمي–دولي منسق، يرفض تفتيت السودان ويغلق الباب أمام أي محاولات لشرعنة كيانات مسلحة على حساب الدولة، مع الدفع نحو مسار تفاوضي يفضي إلى انتقال سياسي متفق عليه وملزم لجميع الأطراف، مبني على الإرادة الوطنية والسند الداخلي والمزاج العام للشعب السوداني الذي يرفض التسوية مع جنرالات الحزب ، كما يرفض المشروعات الخارجية التي لا تراعي الاثار البشرية والمادية المهولة التي رتبتها الحرب على البلاد ارضا وشعبا ودولة ومقدرات.
—————
١٤ أغسطس ٢٠٢٥م