الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

مالك عقار: بوصلة السودان في زمن العواصف

محمد الحاج

مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، يواصل ترسيخ مكانته كأحد أبرز مهندسي السياسة الخارجية في السودان، عبر تحركات دبلوماسية مدروسة ومكثفة في الإقليم الإفريقي. هذه التحركات لا تأتي من فراغ، بل تنبع من خلفية تاريخية وتجربة سياسية عميقة، جعلت منه شخصية محورية في إعادة صياغة علاقات السودان الخارجية، خاصة في ظل الأزمة الوطنية التي تعصف بالبلاد منذ اندلاع الحرب مع قوات الدعم السريع.

ولد مالك عقار في ولاية النيل الأزرق، ونشأ في بيئة سياسية معقدة، حيث كان أحد القيادات البارزة في الحركة الشعبية لتحرير السودان، قبل انفصال الجنوب. لعب دوراً محورياً في اتفاقية السلام الشامل عام 2005، وكان حاكماً لولاية النيل الأزرق، ثم رئيساً للحركة الشعبية – شمال، ما أكسبه خبرة واسعة في التعامل مع الملفات السياسية والأمنية الحساسة، خاصة تلك المتعلقة بالهامش السوداني. هذه التجربة جعلته أكثر إدراكاً لتعقيدات المشهد السوداني، وأكثر قدرة على التواصل مع الأطراف الإقليمية والدولية، وهو ما انعكس لاحقاً في أدائه كعضو في مجلس السيادة، ثم كنائب لرئيسه.

عقار لا يتحرك في الفراغ، بل ينطلق من فهم عميق للبنية السياسية الإفريقية، ولديه شبكة علاقات واسعة مع القادة الأفارقة، خاصة أولئك الذين تربطه بهم روابط تاريخية من أيام الكفاح المسلح والعمل السياسي المشترك. علاقته بالرئيس الأوغندي يوري موسفيني، والرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت، ليست وليدة اللحظة، بل تمتد إلى سنوات من التنسيق والتعاون، ما يمنحه قدرة على التأثير في مواقف هذه الدول تجاه الأزمة السودانية. هذا الفهم المتقدم لطبيعة العلاقات الإفريقية، وللتحولات الجيوسياسية في الإقليم، يجعل من عقار شخصية دبلوماسية ذات وزن، قادرة على التحرك بثقة وفعالية في محيط معقد ومتشابك.

في زيارته الأخيرة إلى أوغندا، التقى عقار بالرئيس موسفيني في العاصمة كمبالا، حيث ناقشا تطورات الأوضاع السياسية والعسكرية في السودان، والانتصارات التي تحققها القوات المسلحة السودانية في مواجهة المليشيا المتمردة. اللقاء حمل رسائل واضحة، أبرزها تأكيد موسفيني على عدم الاعتراف بأي حكومة موازية يتم تشكيلها خارج إطار الدولة السودانية، في إشارة إلى محاولات مليشيات قوات الدعم السريع وحلفائها السياسيين خلق واقع سياسي بديل. كما عبّر عقار عن استياء الحكومة السودانية من التعاون الذي تجده المليشيا من الحكومة الكينية، خاصة بعد توقيع وثيقة نيروبي، مؤكداً أن مثل هذه التحركات تهدد استقرار القارة الإفريقية، وتستوجب موقفاً حازماً من القيادة الإقليمية.

أما زيارته إلى جنوب السودان، فقد حملت دلالات استراتيجية عميقة. التقى عقار بالرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه بول ميل، حيث ناقشوا العلاقات الثنائية، وتفعيل اللجان الوزارية المشتركة، خاصة السياسية والأمنية، بالإضافة إلى قضايا اللاجئين التي تسببت فيها الحرب، وحصار مدينة الفاشر الصامدة. عقار أطلع القيادة الجنوبية على التقدم العسكري الذي تحرزه القوات المسلحة، وعلى موقف السودان الرافض لتشكيل حكومة موازية، مؤكداً أن أي فوضى تضرب السودان ستنعكس سلباً على جنوب السودان، ما يستوجب تنسيقاً عالياً بين البلدين.

هذه التحركات تعكس وعياً دبلوماسياً وسياسياً نادراً، وتؤكد أن عقار لا ينظر إلى الأزمة السودانية من زاوية داخلية فقط، بل يدرك تماماً أن حلها يتطلب تحركاً إقليمياً مدروساً، لإقناع دول الجوار بخطورة المسلك الذي تنتهجه المليشيا المتمردة، وتأثيره السلبي على الأمن والسلم الإقليمي. كما أن زيارته لجوبا تحمل رسائل تطمين، وتجديد للثقة في جنوب السودان كشريك استراتيجي، رغم بعض التوترات التي ظهرت خلال الحرب، نتيجة سوء تقدير للمواقف.

لكن الأهم من ذلك، أن تحركات مالك عقار لا تعكس فقط حنكة دبلوماسية وفهماً عميقاً للمشهد الإقليمي، بل تكشف أيضاً عن مستوى عالٍ من التنسيق الداخلي بين مؤسسات الدولة السودانية. فكل خطوة يخطوها نائب رئيس المجلس السيادي تأتي ضمن خارطة طريق واضحة، متوافق عليها من قبل القيادة الحالية بجميع مكوناتها، سواء كانت عسكرية أو مدنية، تنفيذية أو سيادية. هذا التناغم في الأداء السياسي والدبلوماسي يبعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، مفادها أن السودان، رغم التحديات، لا يزال يحتفظ بقدرته على المبادرة، وعلى بناء تحالفات إقليمية جديدة، لمواجهة التهديدات التي تستهدف وحدته وسيادته.

عقار لا يتحرك بصفته الشخصية، بل كممثل رسمي لقيادة موحدة، تدرك أهمية الحراك الخارجي في دعم الموقف الوطني، وتفويت الفرصة على الجهات التي تسعى لتقويض الدولة السودانية. فزياراته إلى أوغندا وجنوب السودان، وما حملته من رسائل سياسية وأمنية، جاءت منسجمة تماماً مع الخطاب الرسمي للدولة، ومع المواقف التي تعبر عنها القوات المسلحة، ووزارة الخارجية، ومجلس السيادة. هذا الانسجام يعكس وجود رؤية استراتيجية مشتركة، تتعامل مع الأزمة السودانية باعتبارها قضية وطنية شاملة، لا تحتمل التنازع أو التردد.

إن قدرة عقار على التحرك بثقة، ولقاء القادة الأفارقة، والتحدث باسم الدولة السودانية، تعكس حجم الثقة التي يحظى بها من قبل القيادة، كما تعكس التماسك الداخلي الذي بات واضحاً في أداء مؤسسات الدولة. فالسودان اليوم لا يتحرك بردود فعل، بل وفق خطة مدروسة، تتكامل فيها الجهود السياسية والعسكرية والدبلوماسية، ويُعد عقار أحد أبرز منفذيها على المستوى الإقليمي.

هذا التنسيق الداخلي يمنح تحركات عقار زخماً إضافياً، ويجعلها أكثر تأثيراً، لأنها لا تمثل وجهة نظر فردية، بل تعبر عن موقف دولة، وعن إرادة سياسية موحدة، تسعى لاستعادة الاستقرار، والحفاظ على وحدة السودان، ورفض أي محاولات لتقسيمه أو فرض واقع سياسي موازٍ. ومن هنا، فإن تحركات عقار ليست فقط دبلوماسية، بل هي تعبير عن وحدة القرار الوطني، وعن قدرة السودان على إدارة أزمته بعقلانية، وبأدوات سياسية فعالة.

إن إشادة المراقبين بهذه التحركات ليست مجاملة، بل اعتراف بقدرة عقار على إحداث اختراقات دبلوماسية لصالح السودان، في وقت تتكالب فيه الضغوط الإقليمية والدولية، وتتصاعد فيه محاولات تفتيت الدولة السودانية. عقار يثبت أن السياسة ليست مجرد تصريحات، بل هي فعل وتحرك واستباق، وهذا ما يفعله اليوم في قلب إفريقيا. فهو لا يكتفي بإرسال الرسائل، بل يصنعها، ويعيد تشكيل المشهد الإقليمي بما يخدم مصالح السودان العليا، ويعزز من مكانته كدولة ذات سيادة، قادرة على الدفاع عن نفسها، وعن وحدتها، وعن مستقبلها.

وفي ظل هذه التحركات، يبرز مالك عقار كعرّاب حقيقي للسياسة الخارجية السودانية، في مرحلة تتطلب رجال دولة من طراز خاص، يجمعون بين الخبرة، والجرأة، والقدرة على بناء الجسور، وتفكيك الأزمات، وإعادة صياغة العلاقات بما يخدم الوطن. والسودان، في هذه اللحظة التاريخية، يبدو أنه وجد في عقار أحد هؤلاء الرجال.
١٥ اغسطس ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!