ما يزعجني ليس السؤال، إنما التناقض المريع في الإجابة عليه من المسئولين والسياسيين، حكومة كانوا أم معارضة أم “مزدوجين”، وقد تعودت ألا أجيب عليه بما أعرف وأسرد كلاما عاما تاركا الباب للتعليق لأكتشف أن من يسألني أصلا لا يرغب في النقاش ولا المباحثة بل لديه قناعة مسبقة حول كيف يجب أن تفكر أمريكا تجاه السودان كما يتناسب معه أو مؤسسته أو حزبه، ويرغب أن تكون الإجابة مطابقة لما يريد، وعندها أحمد الله كثيرا أنني لم آخذ حديثه على محمل الجد.
أنا لا أدعي أن إجابتي هي الوحيدة، ولكنني أعتقد أنني أهتممت بالصورة الكاملة والتي لا تتم إلا بالسؤال الموازي وهو “ماذا يريد السودان من أمريكا؟”
قد يقول قائل هذا سؤال بسيط وسهل ولا داعي أصلا لمناقشته، لأن السودان يرغب في علاقات طيبة ومتكافئة مع أمريكا، لا يريد حربا معها ولا أي توتر؟ وهو عين ما تردده أي حكومة منذ إستقلال السودان، ولو خرجت عن النص فإنها تعود إليه سريعا.
نعم صحيح، ما يريده السودان من أمريكا معلوم ومعروف على مستوى التنظير والمطالب العامة المعلنة والعقل الجماعي والمصادر المفتوحة، ولكن عندما تذهب العقول الفردية لتمثيل السودان أو للتفاوض مع أمريكا فإنه هنالك مطالب أخرى تعبر عن الأفراد والقيادات ورغباتهم وطموحاتهم وتزاحم المطالب السودانية العامة وتطيح بها أرضا في النهاية لتجد أمريكا نفسها أمام أكثر من إجابة وأكثر من مجيب من الطرف السوداني لتختار ما تريد ويمثل المصالح الأمريكية فقط لا غير، وهي غير ملامة على خطأ السودانيين.
هذا من الجانب الحكومي الرسمي، أما لو نظرنا للسودان بصورة عامة هنالك مطالب ممن هم خارج النظام الحاكم، وهناك مطالب أيضا لشخصيات مزدوجة، هي حاكمة ومعارضة في آن واحد! كيف؟ قد تجد شخصا هو في السلطة ولكنه يرغب في التقدم للأمام على حساب رأس السلطة أو غريمه في السودان وهنا بالضبط يكون أداؤه وأداء المعارض متشابه للغاية بل المعارض أمره أهون.
وهنا قد يستوقفني البعض، ولكن هذا لا يلغي أن هنالك مطالب سودانية عامة ومعلنة و(يجب!) على أمريكا أن تتعامل معها لمصلحة العلاقات بين البلدين وألا تتماشى مع هذه المطالب والأجندات المختلطة لأنها تضر العلاقات الأمريكية السودانية.
أولا: ما هذه السذاجة التي جاءت بمفردة (يجب)؟ وما هو مصدر هذا الإختلاط في الأجندات السودانية (ليست واحدة)؟ أمريكا أم السودان؟ هل يجب أن يتوقف الطرف الذي يمارس هذا الإختلاط أم يتوقف الطرف الذي توفر أمام طاولته هذا الإختلاط وتوفرت معه فرصة للإطاحة بالمطالب السودانية العامة وتفكيكها وتأجيلها برضا وتسهيل السودانيين أنفسهم.
ثانيا: على المستوى التنفيذي بعد الكبار، هل أمريكا هي التي طلبت من السياسيين والدبلوماسيين وممثلي القوات النظامية التسابق لإكتساب الجنسية الأمريكية لهم أو لعائلاتهم، وهل طرقت أبوابهم وتوسلت لهم لملئ طلبات اللجوء أوالحماية الخاصة لهم أو لنسائهم وأبنائهم أوتحويل الإقامة من موظف رسمي لطالب وغير ذلك من الألاعيب والمهازل التي تتسبب في النهاية في تحول المطالب السودانية إلى “أثر بعد عين”؟ ويصبح الوفد المفاوض السوداني مجرد إمتداد باهت للوفد الأمريكي، وينحصر دوره في ترجمة وشرح وتفسير المطالب الأمريكية والإجتهاد في إقناع السلطة الحاكمة في الخرطوم بها، وتجريعها الهزيمة والخيبة مرة بعد مرة؟
ما يريده السودان من أمريكا يحدده أو يبدده السودان وأبناؤه، هو مسئولية السلطة الحاكمة الآن وسابقا والتي ستأتي في المستقبل، ومن العار ألا يحدث مجرد تحقيق حول ظاهرة التسرب الدبلوماسي والهروب الأمني في المحطات الغربية عموما، لماذا يذهبون ولا يعودون، أو يعودون بدنا وقلوبهم معلقة هناك؟
قد يدافع البعض أن هنالك من خدم السودان وأوفاه حقه ولكن هنالك ظروف إنسانية غير متعمدة هي التي أدت إلى هذا الأمر ولا داعي لسوء الظن، جوابي هنا من ثلاث نقاط.
أولا: هل في قضايا الأمن القومي يتم تقديم حسن النية؟
ثانيا: هل تنحصر المسئولية لمن يمثل السودان في زمن المهمة فقط؟أم هنالك معرفة تراكمية وخبرة تحققت بفضل العمل الرسمي، هذه الخبرة يجب أن تعود للسودان ويتم الإستفادة منها لتكتمل الحلقات، هل هو جزء من سيستم ودولة أم مقاول “خافجة فوق السطوح” يقبض “المصنعية” ويركب المواصلات ويمشي.
ثالثا: أكبر أكذوبة تنطلي على صانع القرار هي أن قرار البقاء في المحطات الغربية يحدث في الأيام الأخيرة بعد حفلة الوداع، في معظم الحالات يتم التخطيط له من “أول يوم” وحينها يكون الموظف في موقعه بالبدن فقط ولكن قائمة أولوياته ومخاوفه وصداقاته تمت برمجتها على القرار المنتظر وانتهى الأمر، ويصبح أداؤه من اليوم الأول هو أداء “لاجيء وطالب هجرة” في ثوب ديبلوماسي أو أمني، وهذا هو التوقيت الذي تصبح فيه المطالب السودانية – التي تتوهمون أنها محسومة – والتي تمثل حقا أربعين مليون مواطن ومليون كيلومتر مربع واثني عشر نهرا وشمسا وقمرا وسماء ومآذن، كل هذا لا يعني “الموظف اللاجيء” إنما يعينه إجراءات الهجرة وأقساط شقة 180 متر بدأ في سدادها بتمويل مصرفي فترة الخدمة وسيستمر بعدها بقيادة التاكسي والديلفيري والعمل جرسون.
لذلك كثيرا ما أتحدث مع بعضهم وأفترض أنه في موقع مسئولية ولكنني أكتشف أنه يفكر في الأمر بدرجة ومستوى اهتمام “مرمطون طباخ” بالعلاقات الدولية، لأن التحول بدأ مبكرا و”التطبيق” جاري تثبيته.
ويبقى السؤال العنوان، ماذا تريد أمريكا من السودان؟ أنا أمتلك إجابة وأثق فيها قطعا لا إدعاءا، ولكنني أرغب أولا في الإقرار بأهمية السؤال الموازي ومناقشته “ماذا يريد السودان ومن يمثلونه قيادات كانوا أوموظفين من أمريكا؟”، وبعدها ستكون هنالك عقول مهيئة لتقبل الإجابة السليمة، أما الآن مستوى الإهتمام لا يلزمني ولا يشرفني ودرجة الإحساس بالخطر على الدولة دون المطلوب بكثير.
الآن السودان مرحلة .. واحد بيتزا يا سعادة السفير، واحد فراخ يا سعادة العميد، وواحد بامبرز مع غسيل إكسترا في هذا العنوان يا حضرة الناشط، هل الشغل عيب؟ ليس عيبا! ولكن العيب في هذه الحالات محل النقاش، العيب في “الرسلوها تجيب تار أبوها رجعت حامل!”
وإني لأفتح عيني حين أفتحها .. على كثير ولكني لا أرى أحدا.