الرواية الأولى

نروي لتعرف

فيما أرى / عادل الباز

مأزق وقف إطلاق النار

عادل الباز



1
تتكرر وتحتشد بيانات الحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية بالدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار في السودان، لكنها تبقى فقط دعوة مبثوثة ضمن غثاء البيانات السمجة لا تشرح الأسس التي يمكن أن يُبنى عليها هذا الوقف ولا ما يترتب عليه من نتائج، وهو ما يجعلها عاجزة عن معالجة جوهر الأزمة. ولتوضيح المأزق، يمكن النظر إلى الاحتمالات التي قد تحدث إذا ما قررت الحكومة الاستجابة لهذه الدعوات.
2
الاحتمال الأول هو بقاء المليشيات مسيطرة على جميع مدن دارفور، باستثناء الفاشر، وجزء من كردفان، في انتظار مفاوضات قد تستمر أشهراً أو سنوات، من دون ضمانات أن تُفضي إلى اتفاق. وهذا في جوهره اعتراف غير مباشر بتقسيم السودان بين الحكومة والمليشيا.
3
أما الاحتمال الثاني فيفترض أن تقبل المليشيات بالانسحاب من المدن لتعود السيطرة للحكومة والجيش، بينما تتمركز هي في معسكرات خارجية بانتظار دمج قواتها، وهو ما يعني عملياً اعترافها بالهزيمة وقبول كفيلها الخارجي بذلك. هذا الاحتمال يبدو غير واقعي في ظل موقف الحكومة المعلن الرافض لأي تفاوض مع المليشيا أو منحها مستقبلاً سياسياً.
4
في حال قبول الحكومة بوقف إطلاق النار، فإن المليشيات ستستغله لإعادة التسلح واستقدام المزيد من المرتزقة من معسكرات ليبيا وغيرها، وخاصة أن الحدود لا تزال مفتوحة والسلاح يتدفق عبرها بدعم من كفيل المليشيا. هب أن الحكومة، تحت الضغوط، وافقت؛ فهل يملك المجتمع الدولي ومجلس الأمن القدرة على وقف إمدادات السلاح؟
الواقع يثبت العكس؛ فقد نص اتفاق جدة على خروج المليشيات من منازل المواطنين، لكن مجلس الأمن والمجتمع الدولي عجزا عن فرض التنفيذ، كما لم يتمكنا من فك حصار الفاشر أو منع تجويع المدنيين، فضلاً عن عجزهما عن وقف تدفق السلاح إلى دارفور. وتجربة بعثة يوناميد خير شاهد؛ إذ أنفق المجتمع الدولي أكثر من 22 مليار دولار وأرسل أكثر من عشرين ألف جندي، من دون أن يحقق سلاماً أو يوقف تسليح المليشيات.
إن أي وقف لإطلاق النار، والحال هكذا، سيعني عملياً تقسيم السودان. قبول الحكومة بذلك لن يكون سوى تسليم طوعي لدارفور لمليشيا ارتكبت جرائم إبادة بحق المدنيين.
5
انهيار وقف إطلاق النار تحت الضغوط وعودة الحروب مرة أخرى بعد توقيع اتفاقيات السلام، دفع مجموعة من الباحثين في مجالات الحرب والسلام إلى عقد منتدى في شيكاغو عام 2024، عُرف بمنتدى بيرسون العالمي.
وجد الباحثون من خلال دراسات معمقة شملت إفريقيا وآسيا أن 40% من اتفاقيات السلام الموقعة منذ عام 1975 انهارت خلال خمس سنوات فقط، وعادت الحرب أشد شراسة. وهو ما دفع بعض المنتدين لتفضيل استمرار الحرب حتى تُحسم في الميدان، لتحقيق ما سموه lasting peace، بدلاً من ترك الفرصة للأطراف المتحاربة لتتسلح مرة أخرى وتعود أكثر عنفاً وشراسة.
6
وقد أرجع المنتدى فشل اتفاقيات السلام إلى ضعف الثقة بين الأطراف الموقعة، ووجود قوى داخلية أو خارجية ترى في السلام تهديداً لمصالحها فتعمل على تخريبه، إضافة إلى غياب آليات تنفيذ واضحة وملزمة، وانعدام جهة محايدة قادرة على فرض العقوبات، فضلاً عن إقصاء فئات رئيسية كالمجتمعات المحلية والنساء. كما أشار التقرير إلى أن تجاهل الجذور العميقة للنزاع — من تهميش سياسي وظلم اقتصادي وإقصاء عرقي وضعف في المؤسسات — يجعل أي اتفاق عرضة للانهيار السريع.
7
المنتدى خلص إلى أن السلام لا يتحقق بمجرد التوقيع، بل بالاستدامة. فالحاجة ليست فقط إلى اتفاق سلام ووقف غير موضوعي لإطلاق النار، بل إلى ضمان صمودهما عبر الزمن. والتجارب الناجحة، مثل كولومبيا وأيرلندا الشمالية، أظهرت أن شمولية العملية التفاوضية وإشراك جميع أصحاب المصلحة، إلى جانب احترام السياق المحلي، عوامل أساسية لتحقيق سلام دائم. المبادرات المفروضة من الخارج تفشل عادةً لأنها لا تنسجم مع واقع المجتمعات وثقافاتها، وأن السلام لا يُبنى إلا من داخل المجتمعات نفسها.
8
إلى جانب ذلك، أوضح المنتدى أن ضعف مؤسسات الدولة يقوض فرص السلام ويجعل الدول عرضة لعودة العنف، مما يفرض ضرورة أن يترافق أي اتفاق مع عملية بناء مؤسسات دولة قوية.
شدد منتدى شيكاغو على أنه لا يمكن الحديث عن سلام حقيقي من دون ضبط واردات السلاح ووقف تمويل الجماعات المسلحة، وهو ما عبّرت عنه ميشيل بيير-لويس بقولها: “لا سلام دون كبح مصادر العنف.” ثم إن كثيراً من اتفاقيات السلام فشلت بسبب أطراف رأت في السلام تهديداً لمصالحها وعملت على تخريبه، ما يفرض وضع استراتيجيات قادرة على ردع هؤلاء أو دمجهم سياسياً.
9
إذن، بالواقع وبالتجارب التاريخية، فإن وقف إطلاق النار الذي ينادون به ويُصدعون به رؤوسنا ليس حلاً بحد ذاته، بل قد يتحول إلى فخ إذا لم يُبنَ على أسس واقعية تعمل على تجفيف مصادر السلاح، وتفكيك المليشيا المجرمة، وإنصاف الضحايا. بغير ذلك، فإن أي وقف لإطلاق النار مفروض من الخارج دون أسس موضوعية لن يكون سوى مرحلة لإعادة تسليح المليشيا استعداداً لجولة جديدة أكثر دموية.

اترك رد

error: Content is protected !!