مكي المغربي
في مشوار من طلعت حرب إلى الخليلي، قال لي “عم حسين” سائق الأجرة ممكن نمر في طريقنا على مكان، احتمال يكون مهم بالنسبة لك، تقاطع اسماعيل أباظة مع الفلكي، هناك كان اغتيال آخر حاكم عام للسودان “إستاك باشا!”، كانت معلوماته مضطربة، ولم يكن في طريقنا وسيزيد “العداد” لكن أعجبتني الفكرة، وأعجبني ذكاؤه في التسويق لمعالم بلده ولخدماته للحصول على لقمة عيش حلال فالرجل لم يجدني محبا للأسواق ولا السينما والمسرح – أنا في مصر زول قهاوي تقليدية قديمة – فبدأ في اقتراحات تتعلق بحقبة ثورة 19 لأنني سألته عنها من قبل.
في ذلك المكان هنالك مباني حكومية ومحال تجارية، ومحل عصير قصب وبرتقال.
أغتيل السير لي إستاك حاكم عام السودان، مدير المخابرات الحربية السابق بقنبلة وسبع رصاصات، مات الحرس ثم نقل للمستشفى ومات في وقت وجيز، وفر بعض الجناة وقبض على البعض وهم من “جمعية اليد السوداء” المصرية المناهضة للاستعمار البريطاني، ويقال أشترك معهم السوداني أحمد حسن مطر ونجح في الهروب إلى أوربا ثم البرازيل.
مقتل إستاك أدى لنقيض المطلوب منه. بسببه، أطبق الإنجليز على السودان تماما وأخرجوا الجيش المصري منه، وحجموا دور الوطنيين بذهاب وزارة سعد زغلول.
قبل قرن من الزمان، كان العام 1924 سنة الغليان الثوري في مصر والسودان ولكن أخمدت ثورة “جمعية اللواء الأبيض” بقيادة على عبد اللطيف في السودان بمحاكمته في يوليو وأدت حادثة إغتيال إستاك في نوفمبر إلى الإجهاز على المد الثوري تماما، وجثم الإستعمار ثلاثين عاما أخرى على السودان، بل تم تشديد قانون المناطق المقفولة في جنوب السودان في 1930 لدرجة حظر ارتداء الجلابية والعمة و”العراقي” والسروال في الجنوب، وحظر دخول التجار من الشمال تماما، ثم قام “المجلس الإستشاري لشمال السودان” في 1943 برئاسة الحاكم العام تمهيدا لاقتطاع جنوب السودان وضمه الى شرق افريقيا، حسب المخطط حينها.
بالرغم من تلك النكسة والنتائج السلبية المتتالية إلا أن بعض التساؤلات لا تزال قائمة.
كنت أرتشف عصير البرتقال الطازج المثلج وأفكر، حاكم إنجليزي عام، قائد جيش، ومدير مخابرات عسكرية، وفي عمق القاهرة، تحت الاستعمار في عهد اللورد اللنبي، لم تستطع بريطانيا العظمى توقع مخطط الاغتيال ضده، ولا أن تخترق المنظمة المنفذة له. هل كان ضحية أو كبش فداء؟ غير صحيح، فقد كان اغتيالا حقيقية بعد موجة من الغضب الشعبي لم يستطع الإستعمار اخمادها بل حتى ثورة اللواء الأبيض، لولا وشاة متطوعون لما استطاع الإنجليز معرفتها.
لماذا لم يكن سهلا أن تتحقق بريطانيا العظمى من درجة الغليان الثوري والمشاعر الوطنية ضد الاحتلال وسلب الإرادة؟! لماذا لم تشعر هي ولا عملاؤها باحتمالية أن تترجم موجة الغضب نفسها إلى ثورة في السودان واغتيال في مصر؟ لماذا لم يكن سهلا رغم التقدم والتطور الانجليزي وبدائية العمل الوطني حينها؟
الجواب، إنها سنن التاريخ تتكرر كلما توفرت أسبابها.
من المفارقة، كان الرفض الشعبي يتأجج بينما الجهود البريطانية في تأسيس الدولة السودانية وتوصيل الكهرباء وتخطيط المشاريع الزراعية ومد خطوط السكة حديد، تمضي بنجاح مذهل.
كانت النخب تتشكل بالتعليم والمدارس الجديدة، لم تكن توجد أي مبررات إقتصادية ولا معيشية لأي ثورة ضد الإنجليز، كان السودانيون في رخاء ورغد من العيش.
تظل الحقيقية المرة أمام اي استعمار وأي عميل له هي؛ من رابع المستحيلات افتراض استسلام الشعوب لقوى خارجية مهما كانت المكاسب الاقتصادية منها أو المهددات والمخاطر في حالة مواجهتها.
تم إعدام منفذي اغتيال إستاك، وكانت وصاياهم الثبات على الدين والوطن، وبعضهم طلاب دون العشرين.
الجدير بالذكر أن عباس محمود العقاد كان من مؤسسي “اليد السوداء”.
في الصراع بين الداخل الوطني والخارج الاستعماري، دائما يحدث شيء ودائما هذا الشيء خارج دائرة التحسب الاستخباري والأمني للاستعمار.
يقال أن التاريخ يعيد نفسه كل مائة عام تقريبا، ولذلك – وبكل وضوح – أعتقد أنه القيادة السودانية ودعاة التدخل الأجنبي “المسيرين بالسفارات كما قال النائب الأول” ودعاة استقلال القرار السوداني الموجودين، يجب أن يلتقوا كلهم ويتفاوضوا فورا مهما كانت المسافة بينهم لأن ما سيحدث لن يكون جيدا لاي منهم، كلهم سيخسرون في النهاية.
مجرد حدث دموي واحد “متفلت” وارد ان يتم بسبب غليان المشاعر الوطنية يمكن أن يؤدي إلى قمع المشاعر الوطنية نفسها ويمنح الخارج مبررا للإطباق الكامل على الإرادة الوطنية، والإجهاز على ما تبقي من استقلال، وقطع كامل لعلاقة مصر بالسودان.
حتى أنصار التدخل الأجنبي ووكلاؤه، سيضعف الاحتياج لهم، لأن القبضة الحديدية لم تعد تحتاج لقفاز مخملي بعد انفلات الأمر.
ليس ضروريا بعد ذلك ان يكون رئيس البلد ضابط عظيم، لأن مجرد “صول عشماوي” يشنق أبناء بلده لصالح الإستعمار الجديد أفضل، إذ ليس مطلوبا كاريزما ولا تاريخ، بل الأفضل شخصية هزيلة وتافهة.
سيكون هنالك واقع جديد ومطلوبات جديدة وأشخاص جدد بمواصفات “الوشاة” من العساكر ضد رفاقهم علي عبد اللطيف وصحبه، وليسو حتى بمواصفات الذين اختاروا الحياد والصمت.
أو أشخاص في مصر بمواصفات “أحمد زيور باشا” الشركسي، رئيس الوزراء بعد استقالة “ابن البلد” سعد زغلول ابن شيخ القرية في “إبيانة” كفر الشيخ.
يظل دور مصر مطلوب أكثر من أي دولة، فالاستعمار لا يسيطر على السودان إلا باخراج مصر من المعادلة السودانية تماما.
بهذا المدخل وحده تستطيع تفسير تعامل مصر مع الملف السوداني بعد الانتقال، فقد رفضت اعتبار النظام السابق مرحلة محروقة، وها هي “قحت” وعدد من الدول -بعد تخبط- اعادت انتاج المؤتمر الشعبي والاتحاديين وانصار السنة وقد كانت تردد أن من سقط مع البشير سيتم عزله واقصاؤه، ما هو سبب التغيير؟! انها فهمت متأخرا.
لماذا كانت مصر متقدمة عليهم، رغم انها تمتلك تبريرات اكثر منهم في ضرب الإسلام السياسي، لان مصر تعرف الفرق بين السياسة و “المغامرات”، وتعرف الفرق بين المهددات الحقيقية والمتوهمة.
ختاما، ثبتت الحقيقة، لا بد من توسيع الحوار الوطني السوداني وشموله للجميع، أكرر الجميع، حتى يضمن الناس أن كل الآراء على الطاولة وليست في شارع اسماعيل أباظة.