كعب أخيل السلام والتحول الديمقراطي! : تعجيل عملية الترتيبات الأمنية في اتفاق جوبا للسلام !

kameir@yahoo.com
القاهرة، 15 يوليو 2025
مُقدمة
مع انطلاق العمليَّة التفاوضيَّة، في جوبا، بين الوفد التفاوُضي لحُكومة السُّودان، ووفد الجبهة الثوريَّة السُّودانيَّة، من جِهةٍ، وو فد الحركة الشعبية شمال، من جِهةٍ أخرى، في منتصف أكتوبر 2019، نشرت مقالاً مُطولاً، في ديسمبر 2019، بعنوان: “الترتيبات الأمنية: كعب أخيل السلام والتحول الديمقراطي!” (سودانايل، 10 ديسمبر 2019). تلخصت أطروحة المقال في: أنَّه بالإضافة إلى تحديات التوصُّل إلى اتفاقُ سلامٍ حول القضايا السياسيَّة والإنسَّانية على طاولة التفاوُض، إلا أنَّ الترتيبات الأمنيَّة هي الرَكْ والمَحَك في مُعادلة السَّلام وكعبُ أخيل الانتقال الدِّيمُقراطي. فهذه الترتيبات تمهد لعملية تعزيز الجيش الوطني الواحد في حالة الاتفاق بخصوصها ومصفوفة تنفيذها، بينما يُعرقل عدم التفاوض حولها أي محاولة جادة للوصول إلى سلام مُستدام. إنّ حسم أمر الترتيبات الأمنية الشاملة هو مفتاح تحقيق الأمن والاستقرار في كافة أرجاء البلاد، والعودة الآمنة للنازحين واللاجئين إلى ديارهم. وقد أثبتت التجارب السابقة والتطورات السياسية اللاحقة صحة الأطروحة.
أدفعُ في هذه المداخلة المُقتضبة بأنه على خلفية الخلافات التي نشبت في الأيام الأخيرة حول استحقاقات الحركات الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان في توزيع مقاعد السلطة، وتفكيك حصة ال 25%، والتي ألقت بظلالها على تحالف الجيش مع القوة المُشتركة للحركات المسلحة، فهناك حاجة ماسةٌ ومُلحةٌ لتسريع تنفيذ عملية الترتيبات الأمنية بحُكمِ نصوص الاتفاق. فمن الأهمية بمكان ضرورة الفصل بين الترتيبات السياسية مثل المشاركة في السلطة والتفاوض حولها، باعتبارها حق أساسي وامر طبيعي في تكوين الحكومات الائتلافية، وبين الترتيبات الأمنية لدمج الجيوش باعتبارها أمر متفق عليه وركيزة إصلاح أساسي طويل الأمد. (وفي مقالٍ ثانٍ سأتناول مُعضلة التفاوض حول الترتيبات الأمنية مع الحركة الشعبية شمال- بقيادة القائد الحلو، وفرص التوصل لاتفاقية سلام).
الترتيبات الأمنية لاتفاق جوبا للسلام: التلكؤ في التنفيذ!
تم التوصلّ في مفاوضات جوبا بين الحكومة الانتقالية وعددٍ من حركات الكفاح المسلح (على رأسها: حركة تحرير السودان- مناوي، حركة العدل والمساواة- جبريل، والحركة الشعبية شمال- عقار)، في ديسمبر 2019 إلى “إعلان مبادئ” يحكُم العمليَّة التفاوضيَّة تضمَّن أجندة التفاوُض التي كانت الترتيبات الأمنية من أهم موضوعاتها. وفي أكتوبر 2020، انتهت المفاوضات حول الترتيبات الأمنية باتفاق نصّ على 1) تشكيل قوات مشتركة تحت اسم “القوى الوطنية لاستدامة السلام في دارفور”، و2) إعادة دمج قوات الحركات المسلحة وتسريحها تدريجياً، وفي فترة 39 شهراً، تُقسم على ثلاث مراحل.
وما أن تشكلت الحكومة الانتقالية الثانية بمشاركة حركات سلام جوبا، في فبراير 2021، حتى بدأت أطراف الاتفاقية في إبداء التذمر حيالِ البطء الملازم لعملية تنفيذ الاتفاق في عدد من القضايا. بل، خلال مايو 2021 طفت على السطح تصريحات ساخنة وبنفَّسٍ حارٍ، واتهامات صادرة عن قيادات الحركات المسلحة المشاركة في كل مؤسسات سلطة الانتقال، حول عدم إيفاء الحكومة، خاصة المُكون العسكري، بمستحقات إنفاذ بروتوكول الترتيبات الأمنية على أرض الواقع. فقد أصدر خمسة من قادة قوات الكفاح المسلح بياناً يُحملونَّ فيه المكون العسكري في الحكومة المسؤولية في حالةِ انهيارِ اتفاق السلام بسبب عدم تنفيذ الترتيبات الأمنية. وهم يَعزونَّ ذلك لمُماطلةِ الحكومة في عدم تشكيل الآليات المطلوبة، والمراوغة في تشكيل القوة المشتركة والدعم اللوجستي، وعدم واتخاذ خطوات جادة في اصلاح الأجهزة الأمنية في كل المستويات. وبالمقابل، دخلت القوات المسلحة على الخط الساخن في مواجهة هذه الاتهامات في حق قيادتها. فحينئذٍ صرح المستشار الإعلامي للقائد العام للقوات المسلحة:”أنه ليس مُفيداً أن تُناقش مسألة الترتيبات الأمنية عبر الصحف والوسائط الإعلامية المختلفة، لأنّها مسألة حساسة مرتبطة بأفراد وقوات في طرفي التفاوض سواء الحكومية أو قوات الكفاح المسلح”. وشدد مستشار البرهان على إن بناء القوات وخطوات وإجراءات الترتيبات الأمنية لا تحتمل التشويش والعمل الإعلامي الضار في هذه المرحلة التاريخية الحرجة التي تمر بها بلادنا (25 مايو 2021، دائرة الحدث، قناة السودانية24). ومن زاويةٍ أخرى، هناك سؤالان يبحثان عن إجابةٍ، أولهما: ما هو تأثير -إن لم يكن دور- وجود الدعم السريع كقوة منفصلة في تعطيل عملية الترتيبات الأمنية؟ وثانيهما: هل أثرت حالة الاستقطاب والتنافس بين الطرفين العسكريين الحكوميين (الجيش والدعم السريع) في ابطاء هذه العملية؟
وفي ذلك الحين، سادت الساحة السياسية حالة من الانقسامات بين ووسط شركاء الحكم الانتقالي (عسكريين vs عسكريين، مدنيين vs مدنيين، وعسكريين vs مدنيين)، ومع غياب مركزٍ موحدٍ للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال، مهدّت الطريق إلى انقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021. ومن ثمّ، تفاقمت الخلافات وزادت حدة الاستقطابات بين شركاء الحكم ووسط مكوناتهم السياسية والعسكرية وحركات اتفاق جوبا، على حدٍسواء، من جِهةّ، وبينهم وبين الخصوم السياسيين الآخرين من إسلاميين وأحزاب وتنظيمات متعددة. دفعت هذه الظروف والتطورات السياسية لتدخل القوى الدولية والإقليمية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي)، إضافة للجنة الرباعية، والتوصل إلى مسودة “الاتفاق الإطاري” التي تم التوقيع عليها في 5 ديسمبر 2022. ومع ذلك، لم يصل الاتفاق إلى نهاياته المنطقية والتوقيع النهائي عليه، خاصة بعد انهيار ورشة عمل الإصلاح الأمني والعسكري، بجانب المعارضة الشرسه التي واجهها الاتفاق من القوى السياسية والمجتمعية والحركات المسلحة حتى اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023. وفي ظني، أنّ الاتفاق الإطاري اختزل قضية الإصلاح الأمني والعسكري في تقاسم السلطة العسكرية الرسمية بين الجيش والدعم السريع، مع تجاهل وجود الحركات بشكل كامل في المعادلة. وبالتالي تجاهل الاتفاق قضية الترتيبات الأمنية الشاملة باعتباره غير معنيٍ بها وأنها تخص الحركات التي تم تصنيفها آنذاك على أنها كانت داعمة لانقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021.
تعجيل تنفيذ عملية الترتيبات الأمنية
في خضم هذه الأوضاع السياسية والعسكرية المضطربة، وما صاحبها من صراعات وتقاطعات سياسية، توقفت الاتهامات والملاسنات المتبادلة بين قيادات الحركات المسلحة لاتفاق جوبا وإعلام الجيش السوداني، كما تراجع عموماً الاهتمام بقضية الترتيبات الأمنية. ولكن، يبدو أنّ موقف الحركات المسلحة إزاء الطرفين المتقاتلين قد أعاد الاهتمام بموضوع الترتيبات الأمنية. فمع انطلاق الحرب بين الجيش وقوات مليشيا الدعم السريع، وباستثناء الحركة الشعبية شمال- عقار، أعلنت الحركات المسلحة التزامها مبدأ “الحياد”، وشكلت حركات دارفور الرئيسية الأربع (تحرير السودان، تحرير السودان- المجلس الانتقالي، العدل والمساواة، تجمع قوى تحرير السودان) قوة مشتركة لحماية المدنيين في الإقليم. بينما بعد 7 شهور من الحرب، في نوفمبر 2023، أعلنت هذه الحركات المسلحة التخلي عن “الحياد” والانحياز إلى الجيش السوداني. وفي سياق المشاورات بين الحركات المسلحة، وبينها وبين قيادة الجيش، التي سبقت اتخاذ الحركات لهذا الموقف الجديد. ففي لقاءٍ جمع حاكم إقليم دارفور مع القائد العام للجيش، في 4 سبتمبر 2023، شكلت الترتيبات الأمنية وأهمية تنفيذها لضمان استدامة السلام والاستقرار في البلاد. ولا شكّ أنّ أجندة الاجتماع شملت التشاور على هيكلة وتوسيع أهداف القوة المشتركة التي اقتصرت مهامها على حفظ الأمن وحماية المدنيين، وفق أحكام اتفاقية جوبا لسلام السودان، بينما هذه القوة ستقاتل إلى جانب الجيش في الحرب ضد مليشيا الدعم السريع في كل جبهات القتال.
على الصعيد السياسي، بالرغم من استياء قطاعات مُقدرة من السودانيين من الموقف الحيادي الذي تبنته الحركات المسلحة، إلاّ أنّ قرارها بالانحياز إلى الجيش وجدّ ترحيباً واسعاً من قوى سياسية ومجتمعية عديدة. ومع ذلك، فخلال الشهور القليلة الماضية تكاثرت الانتقادات ووجِهت الاتهامات الغليظة لهذه الحركات بأنّ وقوفها بجانب الجيش أملته طموحاتهم للسلطة والحفاظ على مناصبهم الوزارية من أجل مصالح حزبية (وقبلية) ضيقة، مما تجلى مؤخرا في تعطيل تشكيل حكومة رئيس الوزراء حديث التعيين في المنصب. كما عادت قوى سياسية ومجتمعية تطالب بإلغاء اتفاق جوبا الذي في رأيهم قد انتهي أجله الذي كان مُحدداً ب 39 شهراً.
ولدحض الاتهامات وإزالة الشكوك حول أهداف الحركات من الانحياز للجيش، فمنذ شهور قليلة طفقت قيادات الحركات المُكونة ل “القوة المُشتركة” تؤكدُ أنّ قواتهم لا ترغب أن تكون خارج المؤسسة العسكرية السودانية، ورفضهم أن تكونّ قواتهم جزءاً من مليشيا الدعم السريع. وهكذا، على نفس نغمة الاتهامات التي وجهتها الحركات المُسلحة إلى القوات المسلحة عقب التوتر الذي نشبّ بين الطرفين في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية الثانية، في منتصف عام 2021، عادت قيادات هذه الحركات إلى اتهام “أياديٍ” بالوقوف ضد تنفيذ الترتيبات الأمنية (القائد مني أركو مناوي، 15 مارس 2025). وما أن تمْ الإعلان عن تعيين رئيس للوزراء وشروعه في تشكيل حكومته، حتى طفحت الخلافات بين الفرقاء السياسيين، من جٍهةٍ، وبين أطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا نفسها (حركتي تحرير السودان والعدل المساواة vs الحركات الأخرى ومساري الشمال والوسط)، من جِهةٍ أخرى. جوهر الخلافات تكمن في التنافس المحتدم بشأن تقاسم الوزارات في التشكيل الوزاري المرتقب، وذلك في ضوء تضارب التفسيرات لتوزيع حصة حركات جوبا في السلطة بحسب نص اتفاق جوبا لسلام السودان. إنّ الهاجس الأكبر من هذه الصراعات هي تداعياتها على الأوضاع العسكرية مما قد يُنذِر بصراع مُسلح جديد يفت عضد الدولة ويقطع الطريق نحو تعزيز الجيش الوطني الواحد، الهدف الرئيس لعملية الترتيبات الأمنية. وربما الأخطر أن تستثمرّ بعض القوى المتصارعة على السلطة في هذه الخلافات بغرض تشكيل حلف سياسي بين القوات المسلحة وكافة القوات الواقفة إلى جانبها، وقد تستخدم بعض القوى السياسية المدنية الوضع لمحاولة إعادة مفهوم “الشراكة السياسية” أو “حاضنة الحكومة”، التي لم تسلم البلاد من شرورها.
وإن صحّت الأخبار عن أزمة الخلاف على الأنصبة الوزارية قد تم تجاوزها بتوافق كل أطراف العملية السلمية مع الحكومة، فهذه خطوة في الاتجاه الصحيح في سياق دعم اتفاق جوبا للسلام بما يضمن تماسك الحكومة والمحافظة على وحدّتها. وفي رأيي، أنّه في ظلِ تعقيدات الوضع الحالي والذي اصبح أكثر تعقيداً مما كان عليه في ظل المناخ الذي تمت فيه اتفاق جوبا، فعلى الجيش والحركات المسلحة أن يشرعا سوياً في تسريع إجراءات بروتوكول الترتيبات الأمنية في اتفاق جوبا، وأن يغادرا محطة الاتهامات المتبادلة بشأن عرقلة “مقصودة” لعملية الترتيبات الأمنية، بما يُعزز مصداقية وصدقية الطرفين. وفي ظني، أنّ وجود الدعم السريع في معادلة الحكم الانتقالي كجيش مستقل، وعلى خلفية تاريخ علاقته مع الحركات المسلحة، ربما كان يُشكِل هاجساً يجعل هذه الحركات تتردّد في الدخول في اي ترتيبات أمنية، وهو أمرٌ لم يعُد قائماً.
الدعوة إلى تسريع إجراءات الترتيبات الأمنية ينبغي أن لا تجعلنا نغض الطرف عن أو نُقلِل من جسامة التحديات التي تواجه عملية تنفيذ هذه الترتيبات. فالاتفاق يذخرُ بتعقيدات هيكلية وإجرائية مهولة تتطلبها تطبيق بنود الإجراءات الأمنية لاتفاق جوبا. فهناك عشرات من اللجان الإشرافية والقطاعية والقاعدية والولائية واللجان الفنية المتخصصة واللجنة الإنسانية، والتي تقوم بمهام متنوعة مثل: مراقبة وفحص دعاوي الانتهاكات وحل النزاعات، وقف إطلاق النار ومراقبة الأسلحة والأصول وتوصيل المساعدات الإنسانية. فالمُهم في الأمر أنّ كل هذه المهام والإجراءات المُتصلة بوقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية النهائية تتطلب المساهمات الدولية في عضوية اللجان، ووجود الوساطة كطرفٍ ثالثٍ ومشاركة الجهات التي توسطت في المفاوضات وضمنت تنفيذها. بل نصت المادة 9.11 من الاتفاق على أن “يعمل الطرفان معاً لطلب المساعدة التقنية والمادية والمالية اللازمة من المجتمع الدولي للتنفيذ الناجح لوقف الأعمال العدائية للأغراض الإنسانية، ووقف إطلاق النار الدائم، ونزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، وبناء السلام”. لا شك أن هذا تحديٌّ كبير يواجة تنفيذ إجراءات الترتيبات الأمنية ويحتاج إلى مخاطبة ومعالجة موضوعية وواقعية في ظل الظروف والأوضاع السياسية التي طرأت عليها العديد من التغيرات في أعقاب انقلاب “فض الشراكة” في 2021، حتى اندلعت الحرب في أبريل 2023، بجانب انحياز بعض حركات اتفاق جوبا إلى القوات المسلحة، بينما تحالف البعض الآخر مع مليشيا الدعم السريع.
لذلك، أدرِكُ جيداً بأنّ الترتيبات الامنية هي عملية طويلة و معقدة و ذات مراحل و مستويات متعددة، ولا يمكن تحقيقها بجرعة واحدة ، ولكن إذا توفرت الإرادة وفقّ قاعدة “الاتفاق شريعة المتعاقدين”، وحتى في ظل ما نشهده من أوضاع بالغة التعقيد فمن الممكن تكييف كل الصعوبات حسب المقتضيات الظرفية. إنّ تطبيق ترتيبات جوبا الأمنية تُعدُ خطوةً تمهيديةً للوصول إلى ترتيبات شاملة وإصلاح للقطاع الأمنى برُمته (القوات المسلحة السودانية، والشرطة، وأجهزة الأمن، إلخ) بعد انتهاء الحرب. ألا يمكن لإجراءات وتجربة التنسيق العملياتي في الميدان بين الجيش والقوة المشتركة أن تُسهم في تيسيرِ عملية الادماج؟ بجانب أنّ هذه الخطوة ستكون بمثابة رسالة إيجابية للمتشككين في تعزيز جيش وطني واحد، بقيادة موحدة، وفي نوايا الحركات المسلحة التي يرى كثيرون أنها لا ترغب في دمج قواتها حتى لا تفقِد وسيلة الضغط المُتوفِرة لها. كما إنّ الشروعّ في تطبيق عملية الترتيبات الأمنية المنصوص عليها في اتفاقية جوبا يُسهِمُ ايضاً في إيقاف تناسل وتكاثر القوى الجديدة الحاملة للسلاح والتعامل القانوني مع التهديدات والابتزازات السياسية بتكوينها.
سؤال محوري في سياق الأوضاع الراهنة يطرح نفسه هنا هو حول جدوى وفعالية الاحتفاظ بقوات عسكرية منفصلة في ضمان استدامة وانجاح اتفاقيات السلام واستعادة الحقوق والاستقرار السياسي. فهل يشكل وجود هذه الجيوش المستقلة ضمانة حقيقية، أم أنّ العكس هو الصحيح وأنّ دمجها ضمن هيكل الجيش الوطني الموحد سيساهم في تغيير هيكلية هذه المؤسسة ونهجها المؤسسي وبالتالي طريقة تعاطيها مع الشأن السياسي هو السبيل الأمثل لتحقيق هذه الأهداف؟ إنّ الرؤية التقليدية تفترض أن الحفاظ على جيوش منفصلة لقوى الكفاح المسلح يمكن أن يمثل ورقة ضغط أو ضمانة لتنفيذ بنود الاتفاقيات يطلق رصاصة اعدام مبكرة على أي اتفاق سلام. فالمطالبة بالإبقاء على الحركات المسلحة طوال فترة الانتقال يعكِسُ انعدام الثقة بين الأطراف حيث يُعدُ الاحتفاظ بالقوات كضمان لتنفيذ الاتفاق، مما قد يستدعي أن تستند الضمانات إلى أسسٍ سياسية وليست عسكرية بحتة. لذلك، فمن الضروري أن تكون العملية السياسية السلمية مقبولة وجدّية في نظر حاملي السلاح، مما يُعزز الثقة ويجعلهم أكثرّ استعداداً للتخلي عن السلاح.
في رأيي، أنّ الدمج الهيكلي لكل القوات المسلحة في جيش وطني واحد يشكل ضمانة أكبر لتحقيق الاستقرار والسلام الدائمين. فهذا الدمج ليس فقط بمجردِ تجميع الأفراد تحت راية واحدة، بل قد يدفع بتغييرٍ جذريٍ في السلوك المؤسسي للجيش القومي وطريقة تعاطيه مع الشؤون السياسية. فعندما تُصبح جميع القوى المسلحة جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة عسكرية وطنية واحدة، فإنها تخضع لسلطة مركزية موحدة، وتتبنى عقيدة دفاعية وطنية تتجاوز الولاءات الفئوية أو الإثنية. وهذا التحول من شأنه أن يعزز مفاهيم المواطنة والانتماء للدولة، ويقلل من احتمالات الانقسام والنزاع الداخلي. وربما من المُهم الاستفادة من التجارب المماثلة الناجحة في تحقيق هذه الأهداف مثل تجارب سيراليون وموزمبيق وكولومبيا.
خاتمة
أختمُ بأنَّه، من جانب، فإنّ جدوى السَّلام وفرص استدامته مرهونة بمدى تحوُّل حركات المقاومة المُسلحة إلى تنظيماتٍ سياسيَّة مدنيَّة ومشاركتها في انتخاباتٍ عامَّةٍ وشاملةِ في نهاية الفترة الانتقاليَّة-التأسيسية، وإلاّ فسنُعيد انتاج تجاربنا السابقة بالاكتفاء فقط بإجراء انتخاباتٍ منقوصة المُشاركة مع ترك أمر مُفاوضات السَّلام للحُكومة المُنتخبة، وهكذا نَلِجُ في دورة خبيثة جديدة؟!
ومن جانبٍ آخر، فالسلام أيضاٌ مرهون بمدى استعداد قيادة القُوَّات المُسلَّحة للانخراط في عملية دمج القادمين الجُدُد في صفوف القوات المسلحة السودانية. وذلك، بعد التوصُّل إلى وقف إطلاق نارٍ دائمٍ وترتيباتٍ أمنيَّة شاملة تضُمُ الحركات المسلحة غير المُوقعة على اتفاق جوبا وجميع الفصائل المسلحة، بما في ذلك قوات الدعم السريع. تُفضي هذه الترتيبات الأمنية الشاملة إلى إنشاء جيش وطني مُوحَّد، كمُؤسَّسة قوميَّة وحيدة تحتكر العُنف في الدولة وتحمي الوطن، في إطار خُطة مُكتملة ومُحكمة لإصلاحٍ شاملٍ للقطاع الأمني والعسكري بأكمله.